عِلم الاقتصاد ومنتقدوه
بروجيكت سنديكيت
2015-01-18 01:19
داني رودريك
ميونيخ ــ في أيامنا هذه، هناك الكثير مما يستحق الانتقاد في الاقتصاد. على سبيل المثال، لا تركز المهنة بالقدر الكافي على القضايا السياسية وتُفرِط في التركيز على إرهاق الطلاب حتى الموت بالرياضيات. ولكن قدراً كبيراً من الانتقادات الموجهة إلى المهنة حالياً يستند إلى سوء فهم وجهل.
ولنتأمل هنا فكرة "اليد الخفية" التي طرحها آدم سميث، والتي تعني ضمناً أن توازن السوق يصبح فعّالاً إذا كانت الغَلَبة للمنافسة المطلقة وحقوق الملكية المحددة بشكل جيد وواضح. وخلافاً لما يتصور العديد من المنتقدين فإن خبراء الاقتصاد التقليديين لا يفترضون أن هذه الظروف المثالية حاضرة دوما. بل على العكس من ذلك، يميل خبراء الاقتصاد إلى استخدام هذه الظروف كمقياس لتحليل إخفاقات السوق. وهم كمثل الكلاب البوليسية، يفتشون في الاقتصاد عن مثل هذه العيوب، ويفكرون في كيفية تصحيحها عن طريق التدخل الذكي من قِبَل الدولة.
وفي هذا السياق، يصبح خبراء الاقتصاد أشبه بالأطباء الذين ينبغي لهم أن يعرفوا كيف يبدو الجسم الموفور الصحة قبل أن يتمكنوا من تشخيص المرض ووصف العلاج. والطبيب البارع لا يتدخل بشكل اعتباطي في عمليات الجسم، ولكن فقط حيثما تكون هناك أدلة موضوعية تشير إلى مرض ما، يصبح من الممكن وصف العلاج الفعّال.
يتصدى التنظيم البيئي لمثال لافت للنظر بشكل خاص لفشل السوق. فالأسواق تتسم بالكفاءة في عموم الأمر إذا عكست عائدات الشركات بشكل صحيح كل الفوائد التي تعود على أطراف ثالثة من ناتجها، في حين تعكس تكاليفها كل الأضرار. وفي هذه الحالة، يقودنا تعظيم الأرباح إلى تعظيم الرفاهة الاجتماعية.
ولكن إذا كان الإنتاج ينطوي على ضرر بيئي لا تتحمل الشركات ثمنه، فإن الحوافز تصبح هنا مشوهة؛ وقد تحقق الشركات ربحا، ولكنها لا تعمل بفعالية من الناحية الاقتصادية. لذا، تعمل الدولة على "تصحيح" حوافز الشركات من خلال فرض الغرامات أو إصدار قرارات الحظر.
وهناك داء آخر يشخصه خبراء الاقتصاد وربما يمكننا أن نطلق عليه وصف "مرض كينيز". فإذا كان الطلب ضعيفاً للغاية، فمن الممكن أن يؤدي ذلك إلى هبوط حاد في تشغيل العمالة (لأن الأجور والأسعار جامدة في الأجل القصير). ومن الممكن علاج المرض بضخ الحوافز العامة الممولة بالدين ــ مثل إعطاء مريض القلب جرعات من النيتروجلسرين للإبقاء على قلبه نابضا.
وخلافاً لما يتصور كثيرون، لا يوجد تحيز أساسي ضد هذا الدواء في الاقتصاد السائد اليوم. ولكن التحفيز من غير الممكن أن يُرى وكأنه علاج لكل داء. الواقع أن العديد من الأمراض التي قد تصيب الاقتصاد مزمنة وليست حادة، وبالتالي فإنها تتطلب أنماطاً أخرى من العلاج. فتجربة العلاج الكينيزي لحل المشاكل البنيوية التي تؤثر على بلدان جنوب أوروبا حالياً على سبيل المثال أمر أشبه بمحاولة علاج كسر في الساق بدواء للقلب.
إن النيتروجلسرين يعالج خطر انهيار الدورة الدموية، وبالمصطلح الاقتصادي كان ذلك هو المطلوب في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008. ولكن استخدام مثل هذا العلاج لأمد طويل من الممكن أن يقتل المريض.
وهنا وفي أماكن أخرى، تسبب الإيديولوجية خلطاً والتباساً في المفاهيم. على سبيل المثال، كان سميث يعتبر المنافسة شرطاً أساسياً لعمل اليد الخفية، لأن الاحتكارات واحتكارات القلة تستغل المستهلكين وتقيد الإنتاج. ولكن المنافسة بين مقدمي المنتجات المماثلة هي وحدها المفيدة. أما المنافسة بين مقدمي السلع أو الخدمات التكميلية فهي ضارة، بل ولعلها أسوأ من الاحتكار. (ولهذا السبب، لابد من إرغام سائقي القطارات والطيارين، على سبيل المثال، على دخول نقابات احتكارية تمثل كل الموظفين الآخرين في شركاتهم).
إن إخفاقات السوق التي تؤدي في البداية إلى نشوء التدخلات في القطاع العام تميل إلى التكرر على المستوى الدولي، وهذا يعني أن المنافسة بين الدول ليست فعّالة عادة أيضا. ومن بين الأمثلة هنا المنافسة بين أنظمة الرفاهة الاجتماعية لردع المهاجرين لأسباب اقتصادية، والسباق إلى القاع في فرض الضرائب، والتنافس التنظيمي في قطاعي العمل المصرفي والتأمين. والحق أن المنافسة، على عكس ما يتصور كثيرون من التيار اليميني، ليست مفيدة دائما.
بطبيعة الحال، تطغى الإيديولوجية غالباً على المصطلحات في اليسار أيضا. ولنتأمل هنا مصطلح "الليبرالية الجديدة"، وهو مصطلح تهكمي في نظر كثيرين لأنه أصبح يعتبر كعقيدة تتمثل في إلغاء التنظيمات والعمل المحض بلا قيود. ولكن في أوروبا على الأقل يحمل المصطلح معنى مختلفاً للغاية. فقد صاغه ألكسندر روستو، الذي أعلن في عام 1932 عن نهاية الليبرالية القديمة ودعا إلى ليبرالية جديدة تُبرِز الدولة القوية التي تضع إطاراً قانونياً صلباً تعمل الشركات من داخله.
والواقع أن "الإنسان الاقتصادي"، أو الشخص الأناني الذي يتصرف بعقلانية والذي يسكن نماذج خبراء الاقتصاد، اجتذب الانتقادات مؤخراً هو أيضا، لأنه غالباً لا يمثل السلوك الحقيقي للأفراد. وقد أظهرت التجارب السلوكية بشكل قاطع القيمة التنبؤية المحدودة لهذا البناء المصطنع.
ولكن الإنسان الاقتصادي لم يكن المقصود منه قط أن يستخدم كأداة للتنبؤ؛ بل كان الغرض الحقيقي منه تيسير التمييز بين إخفاقات السوق والإخفاقات العقلية. ويسعى خبراء الاقتصاد إلى استكشاف اللاعقلانية الجماعية، وتعمل النماذج الاقتصادية التي تفترض العقلانية الفردية على تسهيل هذا المسعى. ومن خلال ضمان استجابة السياسات للعيوب في قواعد اللعبة، وليس لقابلية الأفراد للخطأ أو التصرف بلا عقلانية، تنقذنا هذه "الفردانية المنهجية" من النزعة الأبوية الدكتاتورية.
وتبين البنوك التي تمنح القروض الشديدة المخاطرة بضمان ملكية ضئيلة للغاية القيمة التحليلية الكامنة في الإنسان الاقتصادي بقدر كبير من الوضوح. ذلك أن أرباحها تخصخص، في حين تُلقى أعباء أي خسائر تتجاوز رأسمال مساهميها على كاهل دائنيها، أو حتى على كاهل دافعي الضرائب.
وبالتالي فإن الافتقار إلى التناسب والتوازن على هذا النحو يحول البنوك إلى كيانات أشبه بصالات القمار: فالدار تربح دوما. إذ تختار البنوك المشاريع الاستثمارية المحفوفة بالمخاطر بشكل خاص، وهو ما قد يكون مُربِحاً ولكنه ضار على المستوى الاقتصادي.
ولا ترجع المشكلة إلى اللاعقلانية البشرية، بل إنها على العكس من ذلك تنشأ على وجه التحديد لأن المصرفيين يتصرفون بعقلانية. وكما نعرف من التنظيم البيئي فإن إلقاء المواعظ على المصرفيين عن الحس السليم أو الأخلاق لن يفيد؛ ولكن تغيير حوافز المصرفيين ــ ولنقل من خلال فرض نسب أعلى من رأسمال المساهمين إلى الأصول ــ من شأنه أن يأتي بالمعجزات.