الكوفة.. عاصمة الدولة الموعودة
بين الاختيار الإلهي وعواملها الطبيعية
د. خالد عبد النبي عيدان الأسدي
2025-08-04 04:26
الباحث في التاريخ يجد ما يطلب وما لا يطلب، كان ذلك بقصد البحث أو الاطلاع أو لغرض المشاركة في مؤتمر ما، مما يصل به المطاف إلى الولوج لحيثيات لم تخطر له يوماً على بال، هذا إذا كان باحثاً حياديِّاً لا يقبل بالتأثيرات الخارجية على بحثه، ويزداد يقيناً إذا كان يُقدِّس أشياءً ويجدها قد اختيرت عن قصد وتثبيتها عن قصد، وإعلاء شأنها عن قصد، وهذا حال الكوفة العلوية المقدَّسة، الناظر إليها تاريخياً يجد أنّ لها يداً غيبيَّة تحثُّ المصلحين بالتوجه نحوها وإيراها واللّوذ بها عند المكاره، فضلاً عن المؤثرات التي تحيط بهذه المدينة من الناحية المادّية والعلمية.
اتجه البحث إلى التنقيب الغيبي والمادي عن هذه المدينة المقدَّسة من نواحٍ شتّى فقسَّمها على محاور عدَّة كالمحور الغيبي والمحور الاجتماعي والمحور الاقتصادي والمحور الثقافي والمحور العسكري وغيرها وتوصل على نتائج قام بسردها في نهاية مطاف البحث، ولا ندَّعي الكمال أو أنَّنا أحطنا بها علماً وإنَّما هذا ما يسمح به الوقت البحثي من جهة وكذلك من باب (خير الكلام ما قلَّ ودل)، سائلين الله عزَّ وجل أن يتقبل منا هذا القليل بكرمه إنَّه سميع مجيب.
المحور الأول
المحور الغيبي في اختيار الكوفة المقدسة
الغرض الرئيس الذي أراده الله تعالى من خلق الخلق من السادة إلى الرقّ، ومن الاستخلاف الإلهي للعبد الّلاهي؛ هو إقامة دولة العدل وإماتة الأمت والعوج، ونحر الموبقات على أعتاب دنياً ملؤها القسط والأمان، ولا تجد فيها من يشكو الظلم والحرمان، (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) هود118/119، نعم: أراد الله أن يجعل أمره في الناس بين أمرين (فلا جبر ولا تفويض)، فلم يُقيِّدهم ليجعلهم آلة تنفذ ما يُريد المصمم، ولم يتركهم هملا.
هكذا جرت السُّنَّةُ الإلهية في البشرية؛ لذا أرسل إليهم رُسله مبشرين ومنذرين ليحملهم على المحجّة البيضاء، ولكي لا يكون للناس على الله من حجّة، إذ قال عزَّ وجل: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا، وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا)الكهف56/58.
وأراد الله لهذه الدولة المنشودة المسمَّاة (دولة العدل الإلهي) أن تكون لها أرضٌ خِصبة مهيَّئة بوساطة النفوس والطقوس والعُدَّة والعدد، وقد أطلع سبحانه أنبياءه (عليهم السلام) على هذه الأرض، فصار كلُّ نبي يحجّ إليها ولو زحفاً على الرُكب، ويُصلي في مسجدها، ويشرب من مائها، ويتزوَّد من ثمارها، وهم من جانبهم يُغدقون عليها بالحنين، مواضبين على إيلاجها بين الحين والآخر، حتى وضع كلُّ نبي من أنبياء الله لمسته فيها، لتكون مصداقاً لقوله تعالى: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ) الصافات/164.
ومن هذا يتبيَّن إنّ اختيار الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) للكوفة عن علم مودع عنده، فبعد قتل عثمان بن عفان (الخليفة الثالث) "وهرع الناس بعدها إلى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يريدون مبايعته فأبى ذلك، وقال: ليس ذلك لكم وإنَّما إلى أهل بدر؛ فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة، فلم يبقَ أحد من أهل بدر إلا أتى علياً فقالوا: ما نرى أحداً أحقُّ بها منك مدَّ يدك نبايُعك فبايعوه، وكانت بيعته في اليوم الذي تلا مقتل عثمان في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)"(1).
ولذا قَبِل أميرُ المؤمنين (عليه السلام) الأمرة بعد النظر فيها ويقينه إنَّ الأمر لا يُقوِّمه سواه، فشمَّر عن ساعديه ونهض بالأمر، وما إن استتب له الأمر؛ نقل أمور الخلافة إلى الكوفة.
الكوفة عاصمة الدولة الإسلامية الجديدة:
"يوم حلَّ في ربوع الكوفة إمام الفقهاء والمتقين والزهَّاد أصبحت وريثاً شرعياً للمدينة المنوَّرة، وعاصمة كبرى للخلافة الإسلامية. والحديث عن عنفوانها وشموخها يرتبط بالحديث عن إمام الأئمة أمير المؤمنين (عليه السلام) وعصره الذي ببركة ذكراه، وعبق ضريحه الطاهر أصبحت القلوب تهفو إليها، واحتلَّت منزلة ساميةً في نفوس المسلمين، ونالت قصب السبق بين البقاع الإسلامية في مرويات الصحابة وأهل البيت عليهم السلام."(2).
ويبدو أنّ الله سبحانه وتعالى قد أطلع الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين على أنّها ستكون العاصمة المهدوية التي عبرها تشعُّ شمس السلام والوئام والنور لتبديد الظلام، والخير والبركة وأعمام الأمان؛ فقد كانت النفوس والأرواح تحجّ إليها قبل الأبدان، من كافّة الطوائف والأديان، وقد عجَّت الأخبار التاريخية في ذكر الحوادث الغابرة من لوذ الخائفين فيها، فيتوجهون من كل حدب وصوب إليها، والهين شاعرين الطمئنينة عندها.
المحور الثاني
الإصلاح الثقافي في عاصمة الدولة العلوية
لا يخفى على أدنى طالب علم بأنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يُعدُّ القطب الذي تدور به الثقافات الإسلامية، فهو ربيب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأوحد، ووقتئذٍ "كانت الدولة الإسلامية الناشئة على شفا الخطر في إبَّان الفتنة الداخلية بين علي [عليه السلام] ومعاوية.. ولكنَّها وقيت منه لأنَّ عوامل الأمان الذي يُحيط بها كانت أقوى من عوامل الخطر الذي يهددها.. وتتلخص عوامل الأمان في وقائين اثنين:
أحدهما: إنَّ الإسلام كان دعوة طبيعية تلقاها العالم وهو مستعد لها مستريح إليها، فرسخت دعائمه وامتنعت حدوده بعد أعوام قليلة من ظهوره، وسكن إليه الناس مؤمنين بدوام ظله وشمول عدله، سواء منهم من دخل فيه وما آوى إلى حكمه وهو باق على اعتقاده..
وثانيهما: إنَّ أعداء الإسلام كانوا في شاغل عنه بما أصابهم من الوهن وأحدق بهم من المخاوف، وربما صحَّ في الفتنة الإسلامية يومئذ ما يصحّ في كثير من الطوارق التاريخية الكبرى، وهي إنها لن تكون شراً محضاً في جميع عواقبها، ولا تخلو من الخير على غير قصد من ذويها.."(3).
فقد أرسى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الإصلاح الثقافي في دولته الفتية لأنّها أقوى من السيف في محارة الأفكار المنحرفة، فكان (عليه السلام) المصدر الرئيس في بناء الثقافة الإسلامية وشقَّ للخطابة طريقاً ملؤها البلاغة والفصاحة والبيان، وقد وصفوه بالقلم العبقري والكاتب العظيم والكاتب العبقري وقمم الجمال(4) ومنه صار ينهل المفكرون والكُتَّاب والشعراء؛ ينابيع العلم والمعرفة، وصارت عاصمته الوجهة الرئيسة التي تتوجه إليها الأنظار بِنَهَمٍ.
نعم: إنَّها الكوفة التي لها "بريق يخطف الأبصار عند الكُتَّاب والمفكرين ومحبي تراث الشرق وحضارته، لأنّها المدينة العروس التي ترفل بأمجاد الإسلام، فمنها انطلقت جحافل النور والتنوير إلى كل الشرق، وهي إرث الأمَّة العلمي والثقافي الذي تُباهي به عالمياً، ومن رحمها ولدت مدرسة العقل التي تربت في أحضان إمام المتقين (عليه السلام)، وفيها عُرفت سُلطة الحق، وحُرية الرأي، وأخوَّة الدين أو الخلق، ومنها تعلمت الأمَّة لقرون دروس الثورة على القهر والاستبداد"(5). وهذا يرجع إلى الإصلاح الثقافي الذي قام به إمام المتقين (عليه السلام).
المحور الثالث
الموقع الجغرافي للكوقة العلوية المقدَّسة
تتمتع الكوفة العلوية بموقع جغرافي مميَّز يُعدُّ المحور الاستراتيجي الرابط بين الشرق والغرب، وكذلك تتمتع بوشائج كبيرة واتصالات كثيرة مع امبراطوريتين عظيمتين الإمبراطورية الفارسية التي كانت الكوفة ذات يوم بيدها وتحت تصرفها، والإمبراطورية الرومانية التي كانت تحكم سوريا ولبنان وفلسطين، والكوفة على مقربة منها، فكانت بيئتها خصبة في إقامة الدولة، وكذلك تمهيداً منها للتواصل مع العالم، وهذا كان من أهداف الإمام (عليه السلام) كما كان يفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنَّ الإسلام دين عالمي إذا ما كان الحاكم يتمتع برياضة فكرية وعلم لدنِّي؛ باستطاعته بسط نفوذ الإسلام على العالم.
ولا ريب؛ إنّ اختيار أمير المؤمنين (عليه السلام) لهذه الأرض دون غيرها عن معرفة مسبقة عنها لديه، ولا نشكُّ من أنَّ وصية من رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند الإمام تخصّها، لأنَّ العلم الذي أودعه الرسول الأعظم في أمير المؤمنين يكشف عن تحرك لرسول الله كامن فيه ولم يفعله، فأكمل المسير الوصي الأمير، ولو طال العمر في سيد البشر (صلى الله عليه وآله)؛ لنقل دولته من المدينة إلى الكوفة، ولكنَّ الله تعالى اختار له دار أنبيائه ومحط رحال أوليائه، فنقلها الإمام من المدينة إلى دار السلام.
المحور الرابع
إصلاحات اجتماعية
المعروف من المجتمع الكوفي آنذاك؛ أنَّه مجتمع مزيج من مجتمعات شتَّى، لأنَّها كانت محط رحال القوافل التجارية، فكانت الاجناس والطبائع مختلفة؛ لذا يصعب السيطرة عليها، على العكس من المجتمع المدني الذي كان مجتمعاً محافظاً إلى حدٍّ كبير، فكان يقطنها المسلم والمسيحي واليهودي، العربي والفارسي، والسيد والعبد، ومن حسنات هذا التنوع الفكري بين الفئات؛ كان طرح الرأي مباح بلا خوف ولا ريبة، فكان الدين للفرد، وكان البلد للجميع، وهذا ما دعا الإمام لاختيارها دون غيرها.
وبعد وصول الإمام علي (عليه السلام ) وانجذاب الناس إليه؛ استطاع أن يُرسي "الإمام علي (عليه السلام) قواعد القيم الإسلامية وكرامتها الإنسانية فحدد ضوابط العدل والمساواة في مجتمع افتقر إلى الحقوق والواجبات وسادت فيه الطبقية، فصان الإمام علي (عليه السلام) حقوق الإنسان بقوله: "أَشْعِرْ قَلْبَكَ اَلرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَ اَلْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اَللُّطْفَ بِهِمْ وَ لاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي اَلْخَلْقِ(6)"(7).
المحور الخامس
الإصلاح العسكري
ولم تكن الكوفة بمأمنٍ من كيد الأشرار الفجَّار على مدى الأزمان والأعصار، فكانوا يكيدون لها كيداً والله يكيد كيداً فيجعل كيدَ الفجار في سجِّين، وقد أشار إلى ذلك أمير البلاغة والكلام الإمام الهمام سيد الخلق بعد خير الأنام أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله عنها: "كَأَنِّي بِكِ يَا كُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ وَ تُرْكَبِينَ بِالزَّلَازِلِ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءاً إِلَّا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِشَاغِلٍ [أَوْ] وَ رَمَاهُ بِقَاتِل"(8). وبهذا القول يُبيِّن الإمام (عليه السلام): إنَّ الكوفة في رعاية الله وحفظه.
فقام الإمام (عليه السلام) بإصلاح الجند لأنَّ "العلاقة السياسية ــــ في فكر الامام علي (عليه السلام) ــ التي ينبغي أن تتبناها الدولة الإسلامية هي علاقة منتظمة قائمة على مبادئ، وتتحكم بها ضوابط وقواعد، ولا يمكن للحاكم الانفلات منها متى شاء نتيجة رغبة قصيرة العمر أو مصلحة مؤقتة"(9)، فكان توجيه الإمام باتجاه الوفاء بالعهود والعقود وعدم التنصل مما يُبرموه مع الطرف الآخر.
وقد أكَّد الإمام أمير المؤمنين على بناء النظام العسكري وتقويته والإشراف عليه من قبل الحاكم لأنَّ الدولة لا تكون دولة إلّا إذا كانت تمتلك قوَّة عسكرية تحمي مؤسساتها من الطوارئ الداخلية والخارجية، وهذا ما لمسناه في عهده (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه ) في قوله: "فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ وَ أَنْقَاهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ اَلْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى اَلْعُذْرِ وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَى اَلْأَقْوِيَاءِ وَ مِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ اَلْعُنْفُ وَ لاَ يَقْعُدُ بِهِ اَلضَّعْفُ"(10)، لأنَّ اختيار القائد الصالح يقوّي البناء العسكري ومنه إلى السيطرة على جميع مرافق الحياة بشكل يطمئن له المواطن والمسؤول معاً.
وقد أشار إلى ذلك (عليه السلام) في قوله: "فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اَللَّهِ حُصُونُ اَلرَّعِيَّةِ وَ زَيْنُ اَلْوُلاَةِ وَ عِزُّ اَلدِّينِ وَ سُبُلُ اَلْأَمْنِ وَ لَيْسَ تَقُومُ اَلرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اَللَّهُ لَهُمْ مِنَ اَلْخَرَاجِ اَلَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَ يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ"(11). فكان من أولويات بناء الدولة العلوية في الكوفة المقدَّسة؛ بناء النظام العسكري.
المحور السادس
البيئة الاقتصادية الجاذبة في الكوفة
الكوفة تعني العراق بالنسبة للعالم الإسلامي، وكما هو معروف وقد يُحتسب من البديهيات ونافلة القول؛ إنَّ العراق كان يُسمَّى بأرض السواد وبلاء الرافدين، ومن مقوِّمات إقامة دولة ريعيَّة تستطيع الحصول على الاكتفاء الذاتي إذا امتلكت الماء والأراضي الصالحة للزراعة، والكوفة تمتلك مقوِّمات الحياة الاقتصادية الكبيرة وقتئذٍ مما دفع الإمام بالتفكير بها دون غيرها، والعراق كان ولا يزال محط أنظار العالم لما أولاه الله من عناية اقتصادية كبيرة إلى جانب الزراعة.
وبعد دخول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الكوفة؛ قنن النظام الاقتصادي فيها وقام باستصلاح زراعي كبير ينطلق من قول النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): "عادي الأرض لله ولرسوله ثم لكم من بعد فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس لمحتجز حق بعد ثلاث"(12).
بعد ذلك "ابتدأ الإمام برنامجه الإصلاحي بتبني مبدأ التسوية بالعطاء بين المسلمين للقضاء على أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى وجود التفاوت الطبقي الحاد في المجتمع الإسلامي، فقدَّم الإمام علي (عليه السلام) الخطوط العامة لبرنامجه الإصلاحي هذا بقوله:"فأنتم عباد الله و المال مال الله يقسم بينكم بالسوية لا فضل فيه لأحد على أحد وللمتقين عند الله غدا أحسن الجزاء و أفضل الثواب لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجرا ولا ثوابا وما عند الله خير للأبرار وإذا كان غدا إن شاء الله فاغدوا علينا فإن عندنا مالا نقسمه فيكم ولا يتخلفن أحد منكم عربي ولا عجمي كان من أهل العطاء أو لم يكن إلا حضر إذا كان مسلما حرا"(13)"(14). فقام الاقتصاد في الكوفة بعد ذلك تحت إشراف الخليفة بالمباشر مما سادت العدالة الاقتصادية ولم يبقَ أحد تحت خط الفقر، لأنّ الموارد الطبيعية والإيرادات الأخرى وُزعت بالتساوي بين الناس.
ملحوظة:
وربَّ سؤال يرد في خواطرنا: لماذا الكوفة هي عاصمة الدولة الإلهية المنشودة دون غيرها؟؟؟
الجواب: بحسب الاستقراء الناقص والملاحظة المنظورة من طرف واحد؛ هناك احتمالات عدَّة.
1ـ طبيعة الفرد العراقي تميل إلى الجُنديَّة وتأدية الواجب على أكمل وجه، خصوصاً إذا كان الأمر يتعلَّق بالدين والمذهب، فتكون فدائيةً مستميتةً لا تأخذها في دينها لومة لائم، وهذا معروف على مديات التاريخ.
2ـ المجتمع العراقي مجتمعٌ مضيافٌ، يبذل الغالي والنفيس لأجل الضيف، ومن مقوِّمات بناء الدولة الفتية هو العطاء والبذل والكرم والجود.
3ـ وجود قبور الأنبياء والأولياء والصالحين التي تمدّ كلَّ ثورة بطاقة إيجابية كبيرة، ولاسيما النفحات العلوية التي تدفع بإتجاه الإقدام وعدم التقهقر نحو النصر.
4ـ الموقع الإستراتيجي للعراق الذي يُعدُّ المحور الرابط بين شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها ما خلا القارة الأميركية.
5ـ نعم الله الموجودة في العراق من الروافد المهمّة لإنطلاق أي حركة إصلاحية.
الخاتمة
بعد هذه الرحلة القصيرة في خضم الصراعات الداخلية والخارجية على عاصمة الدولة الموعودة، توصل البحث إلى النتائج الآتية:
1ـ اتضح من البعد الغيبي إنّ يداً غيبية تشير إلى أنّ الدولة الإلهية المنشوة تبدأ من هذه البقعة المباركة؛ لذا اتجهت لها الأنظار من كل حدب وصوب والتكالب عليها قديما وحديثاً.
2ـ الثقافة المزيجية التي كانت في الكوفة تشير إلى التحضر وقبول الآخر وهذه من مقومات الدولة الحداثوية، فالثقافة المتنوعة إحدى الأسباب التي دعت الأمير (عليه السلام) إلى اختيارها.
3ـ للموقع الجغرافي أثر كبير في اختيارها عاصمة للدولة التي تريد الامتداد إلى جميع العالم بحكم موقعها من قلب القارات الأربعة.
4ـ المجتمع في الكوفة أكثر تحضراً من المجتمعات الأخرى بفضل تمازج الثقافات الفارسية والرومانية والعربية من جهة القومية، والإسلامية والمجوسية واليهودية والنصرانية من جهة الشريعة والدين وهو مدعاة لجذب الأنظار إليها.
5ـ لكون الكوفة كانت محط رحال التجار وبيئتها تتمتع بحيوية اقتصادية كبيرة استطاعت أن تلفت أنظار المصلحين؛ لذلك اختارها الإمام دون غيرها.