رسالة من العراق.. التحدي الأكبر الذي ينتظر رئيس الوزراء المقبل
Atlantic Council
2025-12-21 03:54
يستعرض هذا التقرير وهو رصد ميداني لوفد من "المجلس الأطلسي تحليلاً للمشهد السياسي العراقي في أعقاب الانتخابات البرلمانية التي جرت في نوفمبر 2025. تنطلق الكاتبة فيكتوريا ج. تايلور، من مفارقة واضحة بين "طفرة الإعمار" والازدهار العمراني المرئي في شوارع بغداد، وبين الجمود والتعقيدات التي تعتري النظام السياسي.
ويسلط النص الضوء على التحديات التي تواجه رئيس الوزراء المقبل (محمد شياع السوداني)، الذي رغم شعبيته الانتخابية، يواجه قيوداً من "الإطار التنسيقي" الشيعي الذي يسعى لتحجيم دور رئيس الوزراء ليصبح بمثابة "مدير عام" منفذ للسياسات لا صانعاً لها. كما يتناول الانقسامات الحادة داخل المكونين السني والكردي، وتنامي النفوذ السياسي للفصائل المسلحة (الميليشيات) داخل البرلمان، مما يضع الحكومة القادمة في مواجهة صعبة مع المجتمع الدولي. وتختتم الكاتبة برصد الفجوة المتسعة بين النخبة السياسية والشارع العراقي الناقم، رغم وجود بصيص أمل بفضل الاستقرار الأمني النسبي والحياة الطبيعية التي بدأت تعود للمدن العراقية.
وفيما يلي ترجمة التقرير:
بغداد- قبل بضعة أشهر، أعلنت مجلة "الإيكونوميست" أن بغداد هي "مدينة الازدهار المفاجئ" في العالم. وبالفعل، تبدو علامات البناء واضحة في جميع أنحاء المدينة. لقد كانت صورة رافعة البناء قوية للغاية لدرجة أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني استخدم الرافعة كرمز لـ"كتلة الإعمار والتطوير" التابعة له خلال الانتخابات البرلمانية التي جرت في 11 نوفمبر/تشرين الثاني، حيث ظهرت لوحات الحملة الانتخابية وهي تحمل صورة للسوداني مرتدياً خوذة واقية.
والآن، أصبح أحد الأسئلة الأكثر إلحاحاً بالنسبة لمسار الديمقراطية والمجتمع في العراق هو ما إذا كان النظام السياسي في البلاد قادراً على مواكبة التغيير الظاهر في الشوارع. وبينما التقى وفد "المجلس الأطلسي" بسياسيين ومحللين وصحفيين وشباب عراقيين في بغداد وأربيل ودهوك، سمعتُ رسائل تفاؤل بأن العراق يسير أخيراً في الاتجاه الصحيح. لكنني سمعت أيضاً تشكيكاً عميقاً في قدرة النظام السياسي العراقي على مواجهة التحديات العديدة المقبلة بفعالية.
"البيت الشيعي": الفائز لا يحصل على كل شيء
في أعقاب الانتخابات العراقية، أطلقت النخبة السياسية في البلاد مناقشات داخلية - إلى حد كبير على أسس طائفية - لتشكيل الحكومة المقبلة. وقد فازت "كتلة الإعمار والتطوير" بزعامة رئيس الوزراء بأكبر عدد من الأصوات (1.3 مليون صوت) وأكبر عدد من المقاعد (ستة وأربعين مقعداً) في انتخابات الشهر الماضي. ويعكس النجاح الانتخابي للسوداني معدلات تأييده العالية، حيث أشار خبير استطلاعات الرأي منقذ داغر إلى مسوحات تظهر أن السوداني هو السياسي الأكثر شعبية في العراق منذ عام 2003. إن حقيقة فوز "تيار الفراتين" بزعامة السوداني بمقعد واحد فقط - مقعده هو - في انتخابات 2021 تعد دليلاً على نجاحه السياسي في هذه الانتخابات من جهة، وعلى العلاقة المحدودة بين عدد المقاعد التي تم الفوز بها واختيار رئيس الوزراء من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن الأحزاب السياسية الشيعية التي يتألف منها "الإطار التنسيقي" الحاكم خاضت الانتخابات بقوائم منفصلة، إلا أن الإطار سرعان ما توحد في الأيام التي تلت الانتخابات. وأخبرنا قادة سياسيون شيعة أن هناك إجماعاً راسخاً -باستثناء ملحوظ للسوداني- على عدم منح أي رئيس وزراء ولاية ثانية، وأن رئيس الوزراء القادم لن يُسمح له بتشكيل حزبه السياسي الخاص.
وحتى مع استمرار قادة الإطار في مناقشة مزايا مختلف المرشحين لرئاسة الوزراء، كان القرار واضحاً بالفعل: إن رئيس وزراء العراق القادم سيعمل، في الواقع، كـ"مدير عام" - ينفذ سياسات الإطار، ولكنه لا يضعها.
السُنّة والكُرد منقسمون
إذا كان لدى السوداني أي أمل في تشكيل تحالف عابر للطوائف مبني على دعم من الأحزاب الكردية والسنية، فقد بدت هذه الإمكانية بعيدة المنال في الأيام الأولى بعد الانتخابات. فقد شارك القادة السنة والأكراد الموقف الشيعي القائل بوجوب قصر مدة رؤساء الوزراء العراقيين على ولاية واحدة، حيث أشار القادة السياسيون من مختلف الأطياف إلى الولاية الثانية شبه السلطوية لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي كقصة تحذيرية.
في الأيام الأولى بعد الانتخابات، لم يبدُ أن هناك الكثير مما يوحد السُنّة، باستثناء اتفاق عام بينهم على ألا يتولى محمد الحلبوسي، زعيم حزب تقدم، منصب رئيس البرلمان مرة أخرى. وفي 23 نوفمبر/تشرين الثاني، أعلن السُنّة عن تحالفهم الخاص، "المجلس السياسي الوطني"، المصمم ليعمل كـ"إطار" موازي للسُنّة وبهدف إظهار الوحدة في مواجهة الكتلة الشيعية. لكن حتى الآن، لا يزال هذا الاتحاد غير مُختبر.
كانت اجتماعاتنا في كردستان بمثابة تذكير بأن الحزبين الرئيسيين في الإقليم، الحزب الديمقراطي الكردستاني (KDP) والاتحاد الوطني الكردستاني (PUK)، لم ينتهيا بعد من وضع العناصر الرئيسية لحكومة إقليم كردستان (KRG) رغم مرور أكثر من عام على انتخابات أكتوبر 2024. وتكهن بعض السياسيين بأن الأكراد قد يؤخرون عملية تشكيل الحكومة في بغداد نظراً للانقسامات بين الجانبين حول أي حزب سيسيطر على الوزارات الرئيسية في حكومة الإقليم، وما إذا كان الحزب الديمقراطي الكردستاني سيصر على تولي رئاسة العراق بعد نمط من سيطرة الاتحاد الوطني الكردستاني عليها.
الميليشيات لا تزال قوة نافذة
حققت السياسيون والأحزاب المتحالفة مع الميليشيات تقدماً في انتخابات الشهر الماضي. فقد فازت كتلة "صادقون"، الجناح السياسي لـ"عصائب أهل الحق" المصنفة كمنظمة إرهابية أجنبية من قبل الولايات المتحدة، بسبعة وعشرين مقعداً، ارتفاعاً من سبعة مقاعد في الانتخابات السابقة. كما فازت "منظمة بدر" المرتبطة بالميليشيات (ولكنها غير مصنفة إرهابياً) بثمانية عشر مقعداً، وظهر عدد من المرشحين المرتبطين بالميليشيات ضمن قوائم الأحزاب السياسية الرئيسية. ووفقاً لبعض التقديرات، يمثل مرشحو الميليشيات الآن أكثر من خمسين مقعداً في البرلمان، مما يدل على أن هذه الجماعات لا تزال فاعلاً سياسياً مؤثراً.
خلال مناقشاتي مع العديد من السياسيين العراقيين، سمعت اعترافاً واضحاً بأن رئيس وزراء العراق القادم سيتعين عليه إخضاع الميليشيات لسيطرة الدولة. وفي الوقت نفسه، ستشكل القوة السياسية والاقتصادية المتنامية للميليشيات تحدياً سياسياً محلياً كبيراً لأي جهد للقيام بذلك. من المرجح أن المسؤولين الأمريكيين قد وضعوا بهدوء "خطاً أحمر" يصر على استبعاد الميليشيات التي صنفتها واشنطن كمنظمات إرهابية أجنبية من الحكومة المقبلة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا سيشكل تحدياً سياسياً لـ"الإطار" نظراً للحضور القوي للأحزاب المرتبطة بالميليشيات.
الولايات المتحدة لا تزال مهمة
حتى لو كان العراق قد خرج إلى حد كبير من دائرة اهتمام واشنطن، فقد كان العراقيون حريصين على مناقشة الشراكة الأمريكية العراقية. وشدد الأكراد والسُنّة، وحتى القادة الشيعة في العراق، على أهمية العلاقة مع الولايات المتحدة ورغبتهم في تعزيزها.
وفي حين يظل نفوذ إيران في البلاد حاضراً دائماً، فإن المناورات السياسية خلف الكواليس التي شهدتها كانت بقيادة عراقية إلى حد كبير، ويبدو أنها كانت مدفوعة باعتبارات سياسية محلية أكثر من أي ضغط خارجي. وعكس القادة السياسيون الشيعة إجماعاً خلف سياسة خارجية عراقية توازن بين شراكة قوية مع الولايات المتحدة وعلاقة تاريخية طويلة الأمد مع إيران. وأكد لي العديد من القادة السياسيين والمحللين العراقيين أن رئيس الوزراء القادم سيواصل السير على نهج السياسة العراقية الحالية، بما في ذلك تجاه الولايات المتحدة.
فجوة متنامية بين الجمهور والنخب
في حين قد يكون السياسيون العراقيون مستثمرين بعمق في نتائج الانتخابات وعملية تشكيل الحكومة، فإن هذا لا يعني أن الجمهور العراقي ككل مهتم بذلك. العديد من العراقيين الذين تحدثت معهم قد استنتجوا بالفعل أن الانتخابات لا تهم كثيراً. وأعرب محللون سياسيون مخضرمون، ونشطاء من المجتمع المدني، وشباب عراقيون عن سخطهم من العملية السياسية، حتى أن بعضهم اعترفوا بأنهم لم يصوتوا في انتخابات الشهر الماضي ولم يرغبوا في إضفاء الشرعية على النظام السياسي العراقي.
وأشار مجموعة من الشباب العراقيين إلى خيبة الأمل التي أعقبت قمع الحكومة لـ"حراك تشرين" عام 2019، عندما نزل الشباب العراقي إلى الشوارع للمطالبة بتغيير سياسي جوهري، وفشل المرشحين المستقلين والنشطاء السياسيين في إحداث أي تغييرات بعد دخولهم البرلمان في عام 2021. وبدلاً من ذلك، أكدوا أن بعض هؤلاء النشطاء قد تم احتواؤهم من قبل النظام السياسي، وانضموا إلى الأحزاب الرئيسية التي كانوا قد شنوا حملات ضدها في الأصل. وفي انتخابات هذا العام، تم القضاء على المرشحين المستقلين ومرشحي المجتمع المدني إلى حد كبير.
لاحظ السياسيون العراقيون من جميع المشارب نسبة مشاركة في التصويت أعلى من المتوقع، لكن المشككين ردوا بأن هذه كانت "انتخابات المليارديرات" - وهي انتخابات كانت فيها نسبة المشاركة نتيجة لإنفاق سياسي غير مسبوق أكثر من كونها نتيجة لزيادة في حماس الناخبين.
بالنسبة للعديد من العراقيين، فإن حقيقة أن النتائج الانتخابية لها تأثير ضئيل جداً على عملية تشكيل الحكومات هي تذكير آخر بأن النظام السياسي لديه آليات قليلة للمواطن العادي لمحاسبة قيادته.
الوعد بعراق مختلف
ومع ذلك، لمستُ الوعد بعراق مختلف. وبينما كنت أقود سيارتي عبر ما يسمى "الطريق الايرلندي" (طريق المطار)، الطريق من مطار بغداد إلى المنطقة الخضراء، كان من السهل نسيان أن هذا المسار كان يوماً ما سيئ السمعة لكونه موقعاً لهجمات متكررة على القوافل الأمريكية. وحتى هذا العام فقط، كانت وزارة الخارجية الأمريكية لا تزال تستخدم طائرات "بلاك هوك" لنقل الموظفين من المطار إلى السفارة الأمريكية. قاد وفدي السيارة على طول الطريق بسلام في سيارة عادية.
وأثناء وجودي في بغداد، مشيت في شارع المتنبي، الممر التاريخي المليء ببائعي الكتب والمقاهي، والذي أعيد بناؤه في السنوات الأخيرة بعد تفجير سيارة مفخخة مدمر في عام 2007 أدى إلى مقتل أكثر من ثلاثين شخصاً وتدمير هذا المركز للمثقفين العراقيين. وتجولت بحرية في دهوك وأربيل، وتسوقت في الأسواق، ومشيت حول قلعة أربيل، وتذوقت المأكولات المحلية في المطاعم.
على الرغم من التحديات العديدة التي تلوح في الأفق، غادرت العراق وأنا أسأل نفسي، بعد عقدين من الصراع، عما إذا كانت البلاد قد تجاوزت المنعطف الصعب. غالباً خلال زيارتي، شعرت برغبة في التغيير بين العراقيين. وقريباً، ستتاح للحكومة المقبلة فرصة لمواكبة هذه اللحظة. ليس هناك نقص في القضايا الملحة التي يتعين عليها معالجتها، من الميليشيات والإصلاحات الاقتصادية إلى أزمة المياه المستمرة. ولكن ربما تكون الخطوة الأكثر أهمية على الإطلاق هي أن تبدأ الحكومة في تضييق الفجوة بين النخبة السياسية والشعب.