جيل مشتت: هل سرقت الهواتف ذاكرة التركيز من طلابنا؟

أوس ستار الغانمي

2025-10-13 01:16

في كل صف دراسي اليوم، لا يقتصر المشهد على كتب وأقلام ودفاتر مكدسة على الطاولات، بل هناك ضيف دائم يفرض حضوره: الهاتف المحمول. جهاز صغير بحجم الكف، لكنه قادر على خطف انتباه الطالب في لحظة، وإغراقه في عالم من الإشعارات والمقاطع السريعة، حتى يكاد ينسى درسه وما أمامه.

الأبحاث الحديثة لم تعد تتحدث عن الهواتف كأدوات مساعدة للتعلم فحسب، بل كأحد أخطر مصادر التشتيت التي تهدد التركيز، الذاكرة، وحتى الصحة النفسية للجيل الرقمي. من ضوء أزرق يُتعب العيون، إلى إدمان على المكافآت الفورية، إلى تأثيرات اجتماعية تُغيّر ملامح العلاقات داخل الصف وخارجه.

لكن السؤال الأعمق يظل مطروحًا: هل يمكن استعادة تركيز الطلاب في عصر "التنبيه المستمر"؟ أم أن الهواتف أصبحت جزءًا لا ينفصل عن مستقبل التعليم؟

ماذا تقول الأبحاث الأخيرة؟

على مدى السنوات القليلة الماضية، شهدت الجهود البحثية الرامية إلى دراسة آثار الهواتف المحمولة على انتباه الطلاب تزايدًا ملحوظًا. دعونا نلقي نظرة فاحصة على ثلاث من أبرز النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسات:

1_انخفاض التركيز أثناء الدراسة

تُشكّل الهواتف المحمولة مصدر تشتيت كبير للطلاب. صُممت التطبيقات لإبقاء المستخدمين منخرطين فيها لفترات طويلة، مما يُصعّب على الطلاب التركيز على دراستهم بمجرد بدء استخدام أجهزتهم، أو حتى بمجرد وجودها بالقرب منهم. وهذا بدوره قد يؤدي إلى التسويف وسوء إدارة الوقت.

تدعم هذه الفكرة دراسة حديثة طُلب فيها من 111 طالبًا إكمال استبيان إلكتروني لتقييم استخدامهم لتطبيق تيك توك على هواتفهم المحمولة. ووجدت الدراسة أن الطلاب الذين يقضون وقتًا أطول على التطبيق كانوا أقل قدرة على إنجاز واجباتهم المدرسية وأكثر عرضة لفقدان الإحساس بالوقت. كما أن الضوء الأزرق المنبعث من الهواتف المحمولة يمكن أن يسبب إجهاد العين والتعب، مما يقلل من قدرة الطالب على التركيز.

2_الاعتماد على الإشباع الفوري

يحصل الطلاب على "مكافآت" فورية في شكل إشعارات أو رسائل أو مقاطع فيديو ترفيهية، والتي تحفز إطلاق الدوبامين وتخلق شعورًا بالمتعة. قد يصبح هذا السلوك مُسببًا للإدمان، مما يُصعّب على الطلاب الانخراط في مهام تتطلب تركيزًا طويل الأمد. وقد وجدت دراسات مختلفة أن مُستخدمي الهواتف بكثرة يُعانون من قصر فترة انتباههم وزيادة في الاندفاعية.

3_التشتيت أثناء وقت الفراغ

مجرد وجود الهاتف المحمول قد يُحرم الطلاب من الاستمتاع الكامل باللحظة. فقد أظهرت دراسة حديثة طُلب فيها من 304 أشخاص الخروج لتناول العشاء، أن الذين احتفظوا بهواتفهم على الطاولة كانوا أكثر تشتتًا بنسبة 7%، وصنفوا التجربة بأنها أقل متعة بنسبة 5.4% مقارنة بمن لم يحملوا هواتفهم.

كيف يمكن للطلاب إدارة استخدام الهواتف؟

بعد أن أدركنا التأثير السلبي للهواتف المحمولة على تركيز الطلاب، من المهم أن نضمن عدم الإفراط في استخدامها. يجب أن يتعلم الطلاب تنظيم استخدامهم بأنفسهم عبر:

-حد الإشعارات: تغيير الإعدادات لتقليل التنبيهات المشتتة.

-إنشاء مناطق خالية من الهاتف: جعل مكتب الدراسة خاليًا من الأجهزة.

-استخدام التطبيقات المساعدة: مثل تطبيق "فورست" الذي يكافئ الطالب عند ترك الهاتف. بحسب موقع (InnerDrive). 

الهواتف المحمولة داخل المدارس

تشير الدراسات إلى أن 97% من الطلاب يستخدمون هواتفهم خلال ساعات الدراسة، معظمها لأغراض غير أكاديمية. وبينما توفر هذه الأجهزة وصولاً سريعًا للمعلومات وأدوات التعلم التفاعلي، إلا أنها قد تُصعّب على الطلاب التركيز داخل الفصل وتشكل خطرًا على الخصوصية والصحة النفسية.

النتائج الأكاديمية

-إيجابيات: سهولة الوصول إلى القواميس والمترجمات، دعم التعلم التعاوني، وأدوات تفاعلية.

-سلبيات: انقطاعات أثناء الدرس، ضعف التركيز، والإفراط في الاعتماد على الإجابات السريعة بدل التفكير النقدي.

الآثار الصحية

-بدنية: إجهاد العين، وضعية خاطئة، اضطرابات النوم.

-عقلية: زيادة القلق، تدني احترام الذات، والخوف من تفويت الأحداث (FOMO).

التأثيرات الاجتماعية

-إيجابية: تعزيز التواصل ومهارات المواطنة الرقمية.

-سلبية: التنمر الإلكتروني وانتشاره بشكل أوسع. بحسب موقع (Panorama Education).  

جيل مشتت وصعوبة التعلم

يقول الدكتور جيم تايلور، مؤلف كتاب تربية جيل التكنولوجيا: "هناك أدلة واضحة على أن التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية تُضعف قدرة الأطفال على التركيز. نحن نُغير جذريًا طريقة تفكير الأطفال وطريقة نمو أدمغتهم".

وتشير معلمات من مدارس أمريكية إلى أن طلاب اليوم يجدون صعوبة في قراءة نصوص طويلة أو معقدة دون انقطاع، ويطلبون فترات راحة متكررة. الانتباه ليس قيمة بحد ذاته، بل هو بوابة للتعلم العميق والذاكرة والفهم.

ولتجاوز هذه العقبات، بدأ المعلمون في تقسيم الدروس إلى أجزاء أقصر، واستخدام منصات تعليمية رقمية مثل Google Classroom وLexia التي تستهدف الطلاب حسب مستوياتهم، محاولةً سد الفجوة بين القدرات المختلفة في عصر الرقمنة. بحسب موقع (BBC). 

تجربة نيويورك: تعليم بلا هواتف

في ولاية نيويورك، أظهرت تجربة مدرسة كامبريدج المركزية أن سياسة "من الجرس إلى الجرس" – حيث يحتفظ الطلاب بهواتفهم داخل حقائب مغلقة طوال اليوم الدراسي – ساهمت في تقليل التنمر الإلكتروني والتشتت داخل الفصول.

قال رالف هارينغتون، نائب مدير المدرسة: "كانت الإحالات التأديبية [لاستخدام الهاتف المحمول] معدومة. لقد اختفت كل تلك المشكلات الهامشية". وأكد أن الطلاب أصبحوا أكثر تركيزًا وأكثر حضورًا ذهنيًا.

وأشار هارينغتون إلى تجربة داخل أحد الفصول حيث تم تسجيل أكثر من 450 تنبيهًا من هواتف الطلاب خلال حصة واحدة مدتها 45 دقيقة، واصفًا الهواتف بأنها "مقاطعة جسدية" مستمرة.

هذا النجاح شجع الولاية على سن قانون يفرض قيودًا مشابهة في جميع المدارس، مع تخصيص ميزانية لشراء أدوات تخزين مثل حقائب Yondr. بحسب موقع (Government Technology News).

تُظهر الأبحاث أن الهواتف المحمولة ليست مجرد أدوات للتواصل أو التعلم، بل هي أيضًا مصدر تشتيت يؤثر على الانتباه، الصحة، والعلاقات الاجتماعية للطلاب. ومع ذلك، يمكن عبر سياسات مدرسية مدروسة، وتعاون الأسر، وتبني استراتيجيات ذكية لإدارة وقت الشاشة، تحويل هذه الأجهزة من عائق للتعليم إلى وسيلة داعمة له.

جيل اليوم وُلد في عالم رقمي، لكن مسؤولية توجيههم لاستخدام أكثر وعيًا للتكنولوجيا تقع على عاتق المدارس والأهالي والمجتمع ككل.

ذات صلة

المجتمع العملي: قلّة النوم وكثرة العملالعقل التساؤلي في الخطاب القرآني.. من الشكّ إلى اليقينالانتخابات البرلمانية القادمة في العراق بين تطلعات الشعب وتحديات الواقعفي نقد الخطاب الثقافيالتصنيف الائتماني وأدوار وكالات التصنيف