انهيار المجتمعات والدول في ضوء القيم الإلهية
محمد عبد الجبار الشبوط
2025-10-16 02:29
تصف الآيات الكريمة من سورة محمد (8–11) مسارًا سننيًا واضحًا لانهيار الأمم:
“وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ.”
هذه الآيات تكشف عن المنطق القيمي لانهيار المجتمعات: أن الانحراف لا يبدأ من ضعف اقتصادي أو عسكري، بل من الانفصال عن القيم الإلهية التي يقوم عليها نظام الوجود.
أولًا: معنى القيم الإلهية
القيم الإلهية هي حقائق موضوعية في نظام الوجود والفطرة، تعبّر عن ميزان الحق والعدل الذي أودعه الله في الكون والإنسان، والوحي جاء كاشفًا عنها وموجّهًا للإنسان إلى تفعيلها في العمران، لا منشئًا لها من العدم.
فهي مبادئ مثل: العدل، الرحمة، الأمانة، الإحسان، الحرية المسؤولة، حفظ الكرامة الإنسانية، وإتقان العمل.
وجودها ثابت في فطرة الإنسان ونظام الكون، والرسالات جاءت لتذكّر بها وتضبط مسارها في الحياة الاجتماعية والحضارية.
ثانيًا: “كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ”
الكره هنا ليس رفضًا لنصوص الوحي فقط، بل رفضًا لمنظومة القيم التي كشفها الوحي.
فحين تبني الأمم أنظمتها على الظلم بدل العدل، وعلى الجشع بدل القسط، وعلى الاستبداد بدل الشورى، فهي في الحقيقة تكره ما أنزل الله من قيم كونية فطرية.
وهذا الكره قد يكون عقديًا وقد يكون عمليًا — أي في أنماط السلوك والمؤسسات والقوانين التي تُقصي القيم من الواقع.
ثالثًا: “فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ”
هذه عبارة تلخّص النتيجة الحضارية للانحراف القيمي.
فحين تنفصل القوة والعلم والإنتاج عن القيم الإلهية، تتحول إلى أدوات هدم ذاتي.
إحباط الأعمال لا يعني زوالها المادي، بل فقدانها للغائية والمعنى:
العلم بلا قيم يتحول إلى تدمير للبيئة والإنسان،
الاقتصاد بلا عدل يصنع الفقر والاحتكار،
السياسة بلا أمانة تولّد الاستبداد والفساد. إنه قانون سنني: العمل المنفصل عن القيم يفقد بركته، فيتآكل من داخله.
رابعًا: “أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ…”
القرآن يدعو هنا إلى قراءة التاريخ لا كسرد للماضي، بل كـعلم للسنن الحضارية.
فالأمم السابقة حين نقضت القيم التي يقوم عليها العمران — كالحق والعدل والرحمة — دمّر الله عليها حضارتها.
وهذا ليس تدخّلًا غيبيًا مباشرًا فحسب، بل نتيجة سيرورة موضوعية: أي انهيار داخلي ينشأ من اختلال ميزان القيم.
خامسًا: “ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا”
المولى هو الضامن والموجّه والمساند.
فالمجتمعات التي تؤمن — أي تلتزم بالقيم التي فُطر الإنسان عليها وكشفها الوحي — تكون منسجمة مع النظام الكوني،
فتعمل لها سنن النهوض: التماسك، التجدد، البركة، والاستقرار.
أما المجتمعات التي تنفصل عن هذه القيم، فلا مولى لها، أي لا تستند إلى نظام قيمي يحفظ توازنها الداخلي،
فتغدو فريسة لسنن السقوط والانهيار الذاتي.
الخلاصة
القرآن الكريم يربط انهيار الأمم بخللها القيمي قبل أي خلل مادي أو سياسي. فحين تكره الأمة القيم الإلهية — أي ترفض ميزان العدل والرحمة والحق — تُحبَط أعمالها وتبدأ رحلتها نحو التآكل والانهيار، وحين تؤمن بتلك القيم وتفعلها في الواقع، تجد المولاة الإلهية، أي انسجامها مع سنن النهوض والتجدد.