البعث كإعادة خلق حضارية للإنسان
محمد عبد الجبار الشبوط
2025-10-12 04:03
يُعدّ مفهوم البعث من القضايا الكبرى التي دار حولها الجدل الفلسفي والديني عبر التاريخ. وغالبًا ما أُخذ هذا المفهوم بمعناه الحرفي المادي، أي خروج الأجساد من القبور الترابية بعد فنائها. غير أن القراءة الحضارية للقرآن الكريم تفتح أفقًا آخر لفهم هذا المفهوم، ينسجم مع التطور المعرفي للإنسان، ومع منطق السنن الإلهية في الخلق والتكوين.
1. الخلق الأول وفناء الجسد
يبدأ الوجود الإنساني بـ”الخلق الأول”، الذي يتم في إطار العالم المادي القابل للفناء.
يولد الإنسان بجسدٍ مكوَّن من عناصر الأرض، يعيش ضمن شروط المادة والزمان والمكان، ثم يموت فيتحلل جسده وتفقد المادة وظيفتها الأولى.
لكنّ هذا الفناء لا يعني نهاية الإنسان، لأن الجسد المادي ليس هو جوهر الهوية الإنسانية، بل هو أداتها في التجربة الأولى للحياة.
القرآن الكريم يعبّر عن هذه الحقيقة بقوله:
{منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} (طه: 55)¹
فالإعادة إلى الأرض تخص الجسد المادي، أما الهوية الواعية فهي محفوظة عند الله، في عالم الغيب الذي لا تفسده عناصر الفناء.
2. السجل الإلهي: حفظ الهوية الإنسانية
لكل إنسان “سجل” محفوظ عند الله، يتضمن كل ما يتعلق بوجوده وشخصيته وأعماله ونواياه.
هذا السجل ليس ورقًا أو كتابًا مادياً، بل نظام وجودي علوي تُسجَّل فيه المعلومات الكاملة عن الكائن الإنساني، كما تُحفظ بيانات الإنسان اليوم في “السحابة الرقمية” (icloud) ولكن على مستوى أعلى من الوجود.
يقول تعالى:
{إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} (يس: 12)²
فالإحياء هنا مرتبط بالكتابة والحفظ، أي إن العودة إلى الحياة في النشأة الأخرى تقوم على استدعاء الهوية المسجَّلة في هذا النظام الإلهي.
ويقول أيضًا:
{وعنده أمّ الكتاب} (الرعد: 39)³
أي إنّ مصدر كل معلومة عن الخلق محفوظ عند الله، ومنه تتم عملية الإعادة على أسس علمية إلهية مطلقة.
3. النشأة الأخرى: إعادة الخلق لا إعادة الجسد
حين يتحدث القرآن عن البعث، فهو لا يقصد إعادة الجسد الترابي كما كان، بل إعادة خلق الإنسان في نشأة أخرى تناسب طبيعة العالم الأخروي.
يقول تعالى:
{كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين} (الأنبياء: 104)⁴
هذه الإعادة ليست استرجاعًا للمادة القديمة، بل إعادة للهوية في جسد جديد من نوع آخر — جسدٍ غير زمني، ذي أبعاد وطاقات تتناسب مع قانون الوجود في الآخرة.
وقد وصف القرآن هذا التحول في طبيعة الجسد عندما قال:
{يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} (النور: 24)⁵
{وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} (يس: 65)⁶
هذه القدرة على النطق والشهادة لا يمكن أن تنتمي إلى الجسد الترابي الذي يتعفن في القبور، بل إلى الجسد الأخروي، جسدٍ واعٍ قادر على الإدراك والتعبير والشهادة.
إنه جسد الوعي الكامل، الذي تنكشف له الحقيقة كما هي، دون حجاب المادة.
4. مرحلة الستر (البرزخ)
بين الخلق الأول والنشأة الأخرى، توجد مرحلة انتقالية أشار إليها القرآن الكريم باسم البرزخ.
وهذه المرحلة يمكن وصفها بـ”مرحلة الستر”، أي الفترة التي تُستَر فيها حقيقة الإنسان عن العالم المشهود بعد موته.
فالهوية الإنسانية لا تُعدم، بل تبقى محفوظة في نظامٍ غيبي، لكن محتجبة عن إدراكنا الحسي.
إنها حالة كمون واحتجاب وجودي، تبقى فيها الروح أو السجل الإنساني في عالم الغيب، إلى أن يُؤذن له بالظهور في النشأة الجديدة.
الآية الكريمة تقول:
{ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} (المؤمنون: 100)⁷
و”وراءهم” هنا تفيد معنى الحجب والستر؛ أي إن الإنسان، بعد موته، يدخل في منطقة وجودية تقع وراء نطاق حواسّنا وإدراكنا المادي.
وبذلك تكون مرحلة الستر هي الفاصل الكوني بين الخلقين: عالم الدنيا وعالم الآخرة.
5. القبور كرمزٍ برزخي
القرآن يستخدم لفظ “القبور” مجازًا للتعبير عن المرحلة الفاصلة بين العالمين، أي عن البرزخ الذي يقف بين الخلق الأول والنشأة الأخرى.
يقول تعالى:
{ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} (المؤمنون: 100)⁷
فالقبور هنا ليست حفراً ترابية فحسب، بل رمزٌ لمرحلة الستر، حيث تنفصل الروح عن الجسد وتبقى الهوية محفوظة في عالم الغيب إلى أن يُعاد خلقها.
وحين يقول تعالى:
{وإذا القبور بُعثرت} (الانفطار: 4)⁸
فالمعنى يمكن فهمه كـ انكشاف الوعي وظهور ما كان مستورًا في السجل الإلهي، لا مجرد نبشٍ للجثث القديمة.
6. البعث كإعلان حضاري
بهذا المعنى، يصبح البعث إعلانًا حضاريًا عن اكتمال التجربة الإنسانية، وانتقالها من طور المادة إلى طور الحقيقة، ومن عالم الاختبار إلى عالم الجزاء.
إنه لحظة تجلي العدالة الإلهية في أرقى صورها، حيث يُعاد الإنسان بوعيٍ كامل وجسدٍ أخروي متناسق مع عدالة الله المطلقة.
فالبعث ليس “رجوعًا من الموت” بمعناه الفيزيائي، بل تحولًا وجوديًا نحو مرحلة أعلى من الخلق، تُكشف فيها نتائج التجربة الإنسانية بكامل أبعادها.
ومن هذا المنظور، يكون قول الله تعالى:
{وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} (الروم: 27)⁹
تعبيرًا عن منطق الخلق الحضاري الذي لا يتكرر بصورة آلية، بل يتجدد في مستوى أعلى من الوجود، كما تتطور الحضارة الإنسانية من طور إلى طور أرقى.
7. الخلاصة الحضارية
الفهم الحضاري للبعث يحرر الإنسان من التصورات المادية الضيقة، ويمنحه رؤية كونية رحبة ترى الوجود كله في حركة مستمرة نحو الكمال.
فالموت ليس نهاية، والبعث ليس رجوعًا إلى التراب، بل كلاهما مرحلتان في مسار الخلق الحضاري للإنسان.
وبذلك يُفهم قول الله تعالى:
{يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه} (الانشقاق: 6)¹⁰
إنها رحلة الارتقاء من التراب إلى النور، ومن الجسد الفاني إلى الجسد الأخروي، ومن التجربة الأرضية إلى اللقاء الحضاري بالله.