مناهج التفسير: بين التفسير الظاهري والتفسير الباطني

(هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) (1)

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

2022-10-16 06:16

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: ((هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ))(1).

البحث الأول: بصائر وأُطُر

البحث يدور حول مناهج التفسير، والآية الكريمة تصلح كإطار عام يرسم لنا الحدود الفاصلة ويحدد لنا المرجعية المنهجية ويوضح لنا المسار الصحيح والضوابط العامة في التفسير والتأويل، فلنمهد للتفصيل باستعراض مجموعة من البصائر القرآنية الكريمة:

المتشابهات متشابهات!

البصيرة الأولى: ان (المتشابهات) هي، كاسمها متشابهة، وذلك لأن المفسرين اختلفوا في معنى المتشابه على خمسة أقوال، كما سيجيء، وذلك من الروعة في التعبير والحكمة في اختيار المفردات حيث انتخب للمتشابه مصطلح متشابه في حد نفسه! فتأمل!

فلسفة ((هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ))دون (أمهات الكتاب)

البصيرة الثانية: ان التعبير بـ((هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ)) مع ان مقتضى القاعدة الأولية ان يقال (هنَّ أمهات الكتاب) كما تقول: (هنَّ أمهات صالحات، هنَّ نساء مؤمنات) لا (هنَّ أم صالحة، هنَّ امرأة مؤمنة)، هذا التعبير يستبطن نكتة دقيقة جداً ومهمة جداً كونها تعرّفنا على ضابط هام من ضوابط التفسير والتأويل، وهذه النكتة يمكننا إيضاحها عبر اختيار آية أخرى والتطرق للمحتملات الممكنة فيها، وهي قوله تعالى: ((الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ))(2) فإن المحتمل في ذلك الاحتمالات التالية:

أ- ان مجموع الرجال، لا كل واحد واحد منهم؛ قوامون على مجموع النساء (المجموع على المجموع).

ب- ان مجموعهم قوامون على آحادهنّ (المجموع على الجميع).

ج- ان كل واحد واحد من الرجال (المعبّر عنه بالجميع مقابل المجموع) قوام على كل امرأة تقابله، أي على زوجته، فكل واحد من الرجال في مقابل واحدة من النساء (إلى أربعة من الزوجات) قوام على تدبير شؤونها أو أمرها (الجميع على الجميع).

د- ان كل واحد واحد من الرجال قوّام على كل النساء (الجميع على المجموع).

والمجموع مثاله الغابة حيث تُلاحظ فيها الهيئة الاجتماعية والبشَرط شيئية والانضمام، عكس الجميع الذي يُمثَّل له بكل واحدة من أشجارها بدون الانضمام والهيئة الاجتماعية، بل بنحوِ اللابشرطية.

فإنّ اللفظ بما هو هو ينفتح على هذه الاحتمالات الأربع، والقرينة الخارجية هي المعينة للمحتمل الثالث، مثلاً لكن الآية مورد البحث ((هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ)) تغلق الباب على كل الاحتمالات إلا واحدة منهنّ، إذ يكون المراد ببركة تخالف الإفراد والجمع، ان مجموع الآيات المحكمات هنَّ أم الكتاب أي هي الأساس والمصدر والمرجع لإيضاحه وفهمه والغور فيه، مما يعني ان معرفة بعض المحكمات لا يكفي، وبعبارة أخرى: ليست كل آية محكمة هي أم للكتاب كله، ولا كل آية محكمة هي أم لآية أخرى متشابهة تقابلها وإن كان بعضها كذلك، بل: مجموع الآيات المحكمة هي أم للكتاب كله المراد كل آياته جميعاً ومجموعاً.

وذلك يعني، بعبارة أخرى: ان من لا يعرف كل النواسخ من المنسوخات، والعمومات والمخصصات، والمطلقات والمقيدات، والآيات المكية والمدنية، وشأن النزول وغير ذلك، ولو باعتبارها قرائن على المراد الجدي فانه لا يصلح كمفسر للقرآن الكريم!.. وذلك هو ما ورد في رواية الكافي والاحتجاج:

ففي الكافي الشريف قال الإمام علي (عليه السلام) في حديث طويل: ((إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَبَاطِلًا، وَصِدْقاً وَكَذِباً، وَنَاسِخاً وَمَنْسُوخاً، وَعَامّاً وَخَاصّاً، وَمُحْكَماً وَمُتَشَابِهاً، وَحِفْظاً وَوَهَماً، وَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عَلَى عَهْدِهِ حَتَّى قَامَ خَطِيباً، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ الْكَذَّابَةُ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ؛ ثُمَّ كُذِبَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنَّمَا أَتَاكُمُ الْحَدِيثُ مِنْ أَرْبَعَةٍ لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ...)) إلى أن قال (عليه السلام): ((وَآخَرَ رَابِعٍ لَمْ يَكْذِبْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مُبْغِضٍ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللَّهِ وَتَعْظِيماً لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَمْ يَنْسَهُ بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَاءَ بِهِ كَمَا سَمِعَ لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ، وَعَلِمَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ، فَعَمِلَ بِالنَّاسِخِ وَرَفَضَ الْمَنْسُوخَ، فَإِنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) مِثْلُ الْقُرْآنِ نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ وَخَاصٌّ وَعَامٌّ وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ، قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) الْكَلَامُ لَهُ وَجْهَانِ كَلَامٌ عَامٌّ وَكَلَامٌ خَاصٌّ مِثْلُ الْقُرْآنِ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ ((ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) فَيَشْتَبِهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ وَلَمْ يَدْرِ مَا عَنَى اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ (صلى الله عليه وآله) )) ((فَمَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا أَقْرَأَنِيهَا، وَأَمْلَاهَا عَلَيَّ فَكَتَبْتُهَا بِخَطِّي، وَعَلَّمَنِي تَأْوِيلَهَا وَتَفْسِيرَهَا وَنَاسِخَهَا وَمَنْسُوخَهَا وَمُحْكَمَهَا وَمُتَشَابِهَهَا وَخَاصَّهَا وَعَامَّهَا، وَدَعَا اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَنِي فَهْمَهَا وَحِفْظَهَا فَمَا نَسِيتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا عِلْماً أَمْلَاهُ عَلَيَّ وَكَتَبْتُهُ مُنْذُ دَعَا اللَّهَ لِي بِمَا دَعَا وَمَا تَرَكَ شَيْئاً عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ وَلَا أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ كَانَ أَوْ يَكُونُ وَلَا كِتَابٍ مُنْزَلٍ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا عَلَّمَنِيهِ وَحَفِظْتُهُ فَلَمْ أَنْسَ حَرْفاً وَاحِداً ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي وَدَعَا اللَّهَ لِي أَنْ يَمْلَأَ قَلْبِي عِلْماً وَفَهْماً وَحُكْماً وَنُوراً، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مُنْذُ دَعَوْتَ اللَّهَ لِي بِمَا دَعَوْتَ لَمْ أَنْسَ شَيْئاً وَلَمْ يَفُتْنِي شَيْ‏ءٌ لَمْ أَكْتُبْهُ أَ فَتَتَخَوَّفُ عَلَيَّ النِّسْيَانَ فِيمَا بَعْدُ فَقَالَ: لَا لَسْتُ أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ النِّسْيَانَ وَالْجَهْلَ))(3)

وعلى ذلك فان المفسر يجب ان يكون محيطاً بالكتاب كله كي يمكنه ان يقدم تفسيراً صحيحاً متكاملاً، وإلا فقد يتسرب إليه الخطأ من غير أن يدري، من جهة أو جهات، وذلك نظير الفقيه فانه لا يكون مجتهداً إلا إذا اجتهد في الأصول كله، أما إذا اجتهد في بعض الامارات دون البعض آخر(4) أو في الامارات دون الأصول أو العكس فليس بمجتهد وكذا لو اجتهد في كتاب الطهارة دون الصوم، ولو تنزّلنا فانه مجتهد متجزئ لا مطلق، فلا يصلح مثل هذا المفسر أو الأصولي مرجعاً عاماً أو كمصدر موثوق متكامل.

وليس المحيط بكافة المحكمات وعلوم القرآن الكريم إلا الراسخون في العلم فهم الذين يمكنهم إذاً تفسيره وتأويله عن علم ومعرفة ودراية وخبره من دون ريب أو شك ومن دون التعرض لخطأ أو زلل أو خطل؛ ولذا قال تعالى: ((وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعلي بَابِهَا، فَمَنْ أَرَادَ مَدِينَةَ الْعِلْمِ فَلْيَأْتِهَا مِنْ بَابِهَا))(5).

والنتيجة: انّ هذا المقطع من الآية الكريمة ((هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ)) يعطينا ضابطاً واضحاً للمرجعية العليا في تفسير الكتاب العزيز؛ إذ مادامت مجموعة المحكمات كلها بنحو البشرط شيء هي أم الكتاب فانه لا يمكن لأحد تفسير الكتاب إلا إذا كان محيطاً بمجموعة المحكمات كلها.. وسيجيء مزيد تفصيل لذلك وإيضاح انه على ذلك فما هو موقع المفسرين، فانتظر.

الفلسفة العامة للمحكمات والمتشابهات

البصيرة الثالثة: ان الفلسفة العامة الكامنة وراء المحكمات والمتشابهات والتي توضح أيضاً، إلى حد كبير، السرّ الخالد في تلك الصياغة الفريدة لآيات القرآن الكريم سواء من حيث انتقاء المفردات أم من حيث كيفية التأليف والتركيب، هي:

إنّ هنالك عوالم سابقة تتميز بخصائص جوهرية تنتج لابديّة ان يكون الكتاب التدويني كما كان وكما هو كائن:

عالم العين والحقائق الخارجية

العالم الأول: عالم العين، والواقع والحقائق الخارجية، فإن عالم التكوين معقد، متشابك، متداخل، له ظاهر وباطن بل وبطون، وسطح وعمق، وكما ان من يقصر نظره على الظاهر جاهل، كذلك من يغور في الأعماق دون الآليات الصحيحة مخاطِر.

ولنستعرض بعض الأمثلة المبسطة لبعض الأعماق الأولية الكامنة وراء سطوح الظواهر التكوينية:

فالدم مثلاً له ظاهر هو لونه ورائحته وغلظته وما أشبه، لكن هذا الظاهر يخفي خلفه أسراراً مذهلة يكفي ان نذكر منها أبسطها وهي ان المليمتر المكعب الواحد من الدم يحتوي على خمسة ملايين كريّة دم حمراء! ودع عنك الاسرار المكتنزة في كل خلية! ولو ان هذه الكريّات الموجودة في المليمتر الواحد وضعت بشكل متسلسل جنباً إلى جنب لدارت حول الأرض أكثر من ست مرات! ويكفي ان نعلم ان محيط الأرض يقارب أربعين ألف كيلومتراً أو 21.600 ميل بحري!

والتراب، ظاهره واضح بسيط، فانه هش، متجزي، يصلح لأن تزرع فيه الخضروات أو تغرس فيه الفسائل إلى غير ذلك، لكننا عندما نغوص بسلاح العلم إلى أعماقه سنكتشف حقائق خفية مذهلة:

- ان الغرام الواحد من التراب يحتوي على أكثر من ثلاثة مليارات من أنواع البكتريا!

- ان المتر المكعب الواحد من التراب يحتوي على مائة مليار جرثومة! ومأتي ألف من الديدان العنكبوتية! ومائة ألف من الحشرات!

وشعر الرأس بسيط في مظهره ولكنه يحتوي عالماً من الخفايا والبواطن، فان متوسط الشعرات الموجودة في رأس كل إنسان هي ثلاثمائة ألف شعرة، وكل شعرة تحتوي على غدة دُهنية وغدة صِبغية، وهي التي تصبغ الشعر باللون الأسود مثلاً فلو تعطلت أو ضعفت هذه الماكنة البيولوجية صار الشعر أبيض!، كما تحتوي الشعرة الواحدة على بصيلة ووريد وشريان وعصب... إلى غير ذلك(6).

وكما الكتاب التكويني، فكذلك الكتاب التدويني، القرآن الكريم، فان له ظاهراً وله أعماق وبواطن، ((ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ))(7) وكل منهما يكمل الآخر من دون ان يلغيه، عكس ما تصوره الظاهريون والحشويون كما سيأتي، وعكس ما توهمه بعض الباطنيين، كما سيظهر.

عالم العلم والمعرفة

العالم الثاني: عالم العلم والمعرفة، فان المعارف والعلوم متدرجة في المراتب، من أدنى درجة إلى أعقد مرتبة.

ومن الأمثلة على ذلك: الرياضيات إذ تبدأ من جدول الضرب مثلاً والذي يفهمه كل طفل لتصل إلى الجبر والمقابلة وحساب التفاضل.. وهكذا حتى لا يمكن إدراك بعض معادلاتها إلا من بعض الأذهان القوية جداً.

ومن الأمثلة: بعض البحوث المنطقية والفلسفية، مثل الفرق بين المعقول الثاني المنطقي والمعقول الثاني الفلسفي، وفي المنظومة تفريق دقيق لا يفهمه إلا الدارس إذ يقول:

("إن كان الاتصاف كالعروض‌" أي الاتصاف بالمعقول وعروضه كإتصاف الإنسان بالكلية وعروضها له كلاهما "في عقلك فالمعقول بالثاني‌ صفي" أي بلفظ الثاني والمراد بالثاني ما ليس في الدرجة الأولى نظير الهيولى الثانية.

فخرج من البيت تعريف المعقول الثاني أنه العارض الذي عروضه للمعروض واتصاف المعروض به كلاهما في العقل.

ثم بعد الفراغ عن بيان مفهوم المعقول الثاني باصطلاح المنطقي أشرنا إلى رسمه باصطلاح الحكيم بقولنا ("بما عروضه بعقلنا ارتسم‌" سواء كان اتصافه‌ ("في العين أو فيه‌") أي في عقلنا ("اتصافه‌") أي الاتصاف به فهو من باب الحذف والإيصال‌ ("رسم").

"فالمنطقي‌" أي المعقول الثاني المنطقي هو "الأول‌ كالمعرِّف‌" وسائر موضوعات مسائل المنطق كالنوعية والجنسية والذاتية والعرضية والقضية والقياس فعروض المعرفية للحيوان الناطق بالنسبة إلى الإنسان واتصافه بها في العقل لأنه في الخارج جزئي والجزئي ليس معرفا فما في الخارج ذات الحيوان الناطق لا وصف معرفيته.

"ثانيهما" أي ثاني الرسمين‌ "مصطلح للفلسفي‌")(8) فمن الذي يفهم ذلك إلا الباحث الدارس؟.

وكذلك بعض مباحث المشيئة والإرادة، والوحدة في عين الكثرة والعكس، والشاهد صعوبتها وعمقها وليس صحتها أو سقمها إذ قد تكون المفاهيم صحيحة معقدة أو عميقة وقد تكون باطلة معمقة.

عالم الأذهان

العالم الثالث: عالم الأذهان، فان الاذهان أيضاً مختلفة متدرجة من البليد، بدرجاته، إلى الذكي، بمراتبه.

عالم الوجودات اللفظية

العالم الرابع: عالم الوجود اللفظي فان المفردات وأشباه الجمل والجمل قد تكون واضحة بسيطة وقد تكون غامضة صعبة، ويكفي التمثيل لذلك من عدة علوم بـ(الحمض النووي الريبوزي) (الاستصحاب القهقري) (السرمدية) (الصمد) (افرنقعوا) (تكأكأتم) (الجِرشّى) (الاحرنجام) وهكذا.

كما قد تكون المفردات والجملة غامضة للأفهام العادية.. فمثلاً قوله:

(رُبَّ وَرقاءَ هتوفٍ في الضُحى

ذاتِ شَجوٍ صَدَحت في فَنَنِ(9)

ذكرت إِلفاً ودهراً صالحاً

فبكت حزناً وهاجت حَزني

فبكائي ربما أرَّقَها

وبكاها ربما أرَّقَني(10))

فالبيت الأول يصعب فهمه على غير الخبير باللغة والبلاغة، عكس البيت الثاني:

وكذلك قول الشاعر:

فَإِنْ يَّكُ بَعْضُ النَّاسِ سَيْفاً لِدَوْلَةٍ

فَفِي النَّاسِ بُوْقَاتٌ لَهَا وَطَبُوْلُ

وأصعب منه:

رَمَتْنِي مَيٌّ بِالْهَوَى رَمْيَ مُمْضَعٍ

مِنَ الْوَحْشِ لَوْطٍ لَمْ تُعِقْهُ الأَوَالِسُ

بِعَيْنَيْنِ نَجْلاَوَيْنِ لَمْ يَجْرِ فِيهِمَا

ضَمَانٌ وَجِيدٍ حُلِّيَ الدُّرَّ شَامِسُ

وغير ذلك كثير.. كثير

وحيث ان الكتاب التدويني كان تقدير بارئه ان يكون معجزاً خالداً أبدياً، لذلك كان لا بد ان يضارع العوالم الأربعة السابقة بل ويزيد عليها في الأعماق والبطون وفي ان لظاهره ظاهراً وباطناً ولظاهر الظاهر باطن وظاهر وهكذا، وأما البطون فهي غير متناهية بنحو اللايتناهي اللايقفي تماماً، ولذلك قال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ))(11).

البحث الثاني مناهج التفسير

إنّ مناهج التفسير متنوعة وكثيرة فلنبدأ بمنهجين منها متقابلين هما المنهج الظاهري والمنهج الباطني، حيث سنكتشف ان كلَّا منهما عَمِيَ عن كامل الحقيقة واقتصر على جزء الدالّ فضاعت عليه المعرفة ولم يَقُدْهُ ذلك إلا إلى الضلال وكان كمن اقتصر من لا إله إلا الله على صدرها دون آخرها.

المنهج الظاهري

أولاً: الظاهرية، وهم الذين جمدوا على ظاهر الألفاظ، ولم ينفذوا إلى الباطن والأعماق، وتوهموا القرآن الكريم ذا بعد واحد هو الظاهر فقط وذهبوا إلى ان أي تجاوز عن النص إلى تحليله وتفسيره أو تأويله لهو خطأ وخطل.. وعلى سبيل المثال:

قال الشهرستاني: (اعلم أن جماعةً كبيرةً من أهل السلف كانوا يثبتون للّه تعالى صفاتٍ أزليةً من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والاكرام والجود والانعام والعزة والعظمة، ولا يفرّقون بين صفات الذات وصفات الفعل؛ بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً، وكذلك يثبتون صفاتٍ خبرية مثل اليدين والرجلين، ولايؤولون ذلك)(12).

وهؤلاء الظاهريون كانوا يستندون إلى ان الله تعالى أطلق على نفسه صفات كـ(عليم وقادر) كما أطلق على نفسه صفات أخرى كـ(خالق ورازق) ولم يفرّق بينها. ولم يرد في القرآن ان هذه صفة فعل وتلك صفة ذات، فلا يصح هذا التصنيف! وذلك رغم بداهة ان بعض الصفات صفات ذات وهي ما لا يصح سلبها عنه تعالى بأي وجه كـ(العالم والقادر) إذ لا يصح القول انه تعالى ليس بقادر في وقت أو مكان أو حالةٍ، أو ليس بعالم بشيء أو في وقت أو غير ذلك، عكس الخالق والرازق إذ يقال: (رزق زيداً ولداً اليوم ولم يرزقه قبل سنة) و(رزق زيداً مالاً ولم يرزق عمراً) وهكذا خلق كذا ولم يخلق كذا، وقد ذكر المحدث الكليني أكثر من ضابط للفرق بين صفات الذات وصفات الفعل فراجع أصول الكافي.

وقال الشهرستاني: (وأما مشبهة الحشوية؛ فحكى الأشعري عن محمد بن عيسى أنه حكى عن مضر، وكهمس، وأحمد الهجيمي: أنهم أجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة. وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذ بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص والاتحاد المحض)(13).

نفي المجاز في القرآن

ومن تجليات المذهب الظاهري، نفي وجود المجاز في القرآن الكريم متسلحين بالمدعيات التالية:

1- المجاز يوجب الالتباس.

2- المجاز تطويل بلا طائل إذا كان مع القرينة وكذب إذا كان من دونها(14).

3- المجاز كذب (تقول مثلاً: زيد أسد، وذلك كذب لأنه ليس بأسد!).

وعلى سبيل المثال فان ابن تيمية يصرح بان كل المفردات الواردة في القرآن الكريم هي حقائق لغوية ففي قوله تعالى: ((فَوَجَدا فيها جِداراً يُريدُ أَنْ يَنْقَضَّ))(15) مع انه تعبير عرفي يراد به (آيل للسقوط، متداعي) فانه يجمد على اللفظ وان الجدار بالفعل كان ((يُريدُ أَنْ يَنْقَضَّ))(16).

وذلك غفلة عن ان المجاز والكناية مما بنيت عليها اللغة العربية بل وكافة اللغات، وقد صرح القرآن بانه نزل ((بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ))(17) و((وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ))(18).

كما غفل عن ان الكناية والمجاز هما من أروع الكلام وأجمله وأحلاه وأعذبه والذي بنيت عليه اللغات، فبدلاً من ان يقول القائل (فلان كريم جواد) يقول: (مهزول الفصيل)، مع انه قد لا تكون له ناقة ولا فصيل، كنايةً عن ان الكريم يحلب ناقته كثيراً ليسقي ضيوفه فيهزل فصيلها (ولدها) إذ يقلّ ما يصل إليها من لبنها.

ويقول: (جبان الكلب) لأن الضيوف إذا ندر توافدهم هرّ الكلب على أي غريبٍ وافدٍ وهجم عليه، أما إذا كثروا فانه يجبن حينئذٍ، أي يبدو كالجبان، لأن صاحبه ينهره دوماً على التعرض للضيوف الغرباء.

ويقول (كثير الرماد) مع انه قد لا يطبخ على الحطب كي يكثر رماده بل على النفط أو الغاز أو غيرهما.

وعموماً فان نفي المجاز في القرآن هو مسلك عدد كبير من أهل العامة وأهل الحديث كأتباع أحمد بن حنبل (161-241) ومالك بن أنس (93-179) وداود الظاهري (280) والكراميّة والأشاعرة والماتريدية وابن تيمية والسلفيّين إذ أنّهم لا يعتقدون بالمجاز ويرونه كذباً يوجب الالتباس بسبب عدم وضوح المعنى المراد(19).

4- وقال ابن تيمية أيضاً (وبكل حال؛ فهذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة، لم يتكلّم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم، كمالك والثوري..)(20) وكأنه اعتبر التقسيمات العقلية والعلمية محظورة إلا إذا تفوه بها السلف من الصحابة والتابعين!

نفي التأويل

كما ان الظاهريين نفوا جميع أنواع التأويل واستدلوا بـ(أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق، والقول في صفات الباري بالظن غير جائز)(21).

وجوابه واضح وهو ان المرجعية في التأويل هم ((الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) وأما غيرهم فلا يحق لهم ذلك، بل انه لا يكون حينئذٍ إلا موهوماً، وأما الراسخون فهم، وكما سبق، الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي صرح تعالى بقوله: ((وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ))(22) وقال (صلى الله عليه وآله): ((((أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعلي بَابِهَا، فَمَنْ أَرَادَ مَدِينَةَ الْعِلْمِ فَلْيَأْتِهَا مِنْ بَابِهَا))(23).

ولقد صار بعض اخباريي الشيعة وأهل الحديث من السنة إلى نوع من المنهج الظاهري:

المدرسة الاخبارية

أما المدرسة الاخبارية، ونعني بها ههنا بعضهم، فقد ذهبت إلى ان ظواهر الكتاب ليست بحجة، بدعوى انه إنما يَفهم القرآن مَن خوطب به وان المشافَهين فقط هم الذين يفهمون القرآن وظواهره؛ وذلك لاحتفاف الكلام عادة بقرائن مقامية – حالية ومقالية تساعد على فهم المراد الجدي من الكلام، حيث تدل على الانصراف من حصة أو الانصراف إليها أو غير ذلك، والقرائن الحالية والمقامية خافية علينا، كما ان القرائن المقالية لا يعلم انها نقلت إلينا، وعليه: فالمراد الجدي قد يكون منفكاً عن المراد الاستعمالي ونحن لا نعلم، وأصالة التطابق بين المرادين لا تجري فينا حيث لم نكن المخاطَبين فلا تتوفر الدواعي لإيصال القرائن إلينا.

ولذلك ذهبوا إلى ان الحديث هو الحجة فقط لأنه المفسر للقرآن الكريم.

مناقشة الرأي الاخباري

ولكنّ هذا الرأي غير سليم لوجوه عديدة سيأتي الكلام عنها مفصلاً، ويكفي هنا ان نستعرض أحدها وهو ان نفس الإشكالية ترد على الحديث أيضاً إذ كما تفصلنا عن القرآن الكريم 1411 إلى 1434سنة هجرية(24)، كذلك تفصلنا عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) نفس الفترة وتفصلنا عن شهادة الإمام الصادق (عليه السلام) 1296 سنة فكما اننا لسنا مشافَهين بالآيات كذلك لسنا مشافَهين بالروايات، فكيف تكون حجة دون الآيات الكريمة؟.

مدرسة الحديث تتمسك به دون القرآن

وأما مدرسة الحديث، فان عمر بن الخطاب حيث منع رواية الحديث متعللاً بقوله (حسبنا كتاب الله)(25) فان باب تفسير الآيات بالروايات أغلق على الناس، ثم عندما سُمح بنقل الأحاديث زمن عمرو بن عبد العزيز بعد توليه الحكم عام 99 هـ فقال: (انظروا إلى حديث رسول الله فاجمعوه) انتقلت الظاهرية، أو بعضها، إلى التمسك الحرفي بالأحاديث وارتأت انها الحجة دون الكتاب نفسه، حتى من دون البحث عن سندها وتعارضاتها حتى قال بعضهم: (يقولون: لا يجوز لأحد تفسير شيء من القرآن وإن كان عالماً أديباً متسعاً في معرفة الأدلة، والفقه والنحو، والأخبار، والآثار وإنما له أن ينتهي إلى ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة رضي الله عنهم، أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين)(26) والغريب إضافة التابعين وحتى الصحابة من دون التقييد بان يكونوا قد رووا عن الرسول (صلى الله عليه وآله).

بل (شاع بينهم أنّ القرآن لا ينسخ السنة، لكنّ السنة تنسخ القرآن(27)، وكذلك قيل: القرآن أحوج إلى السنة من حاجة السنة إلى القرآن)(28).

بل ان مرجعية النصّ في مقابل مرجعية العقل تعتبر أساساً من أسس السلفيّة المعاصرة(29).

ثانياً: الباطنية

والباطنية، يرون فيما يرون، ان الباطن هو المشتمل على الحقائق والأسرار وان الظاهر ليس إلا مجرد قشور، والمطلوب اللب وليس القشر، إذ أليس القشر يُرمى واللبّ يقصد؟.

ونجد في رسائل اخوان الصفا مثلاً (لأن أكثر كلام الله تعالى وكلام أنبيائه وأقاويل الحكماء رموز لسرّ من الأسرار مخفيّ عن الأشرار، وما يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، وذلك أنّ القلوب والخواطر ما كانت تحمل فهم معاني ذلك)(30).

وبشكل عام كانت تطلق الباطنية أساساً على من ذهب إلى إمامة إسماعيل ابن الإمام الصادق (عليه السلام)، إلا ان هذا المصطلح تطور بمرور الزمن فأطلق على كل من اعتقد أنّ مراد الشارع من كلامه ليس هو الظاهر منه أو النصّ؛ بل هو الأسرار والبواطن(31).

وكما قال بعض الباحثين (ورغم أنّا نجد في آثار الإسماعيليين كلاماً عن حفظ مرتبتي ظاهر وباطن الشريعة كليهما(32)، ولكنهم يرون في البواطن لبّ الكتاب والسبب في استقامة النفس(33)، وأمّا أحكام الشريعة فهي أغلال وقيود ترفع بظهور القائم(34))(35).

وقد استدل بعض الباطنيين بأدلة عديدة منها قوله تعالى: ((وَمِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ))(36) وان قوله ((كُلِّ شَيْ‏ءٍ)) يشمل القرآن الكريم فقد خلقه الله تعالى زوجين، والزوجان هما الظاهر والباطن، فللقرآن إذاً ظاهر وباطن.

مناقشة مع الظاهرية

ومع قطع النظر عن مدى صحة تعميم الزوجين للظاهر والباطن إذ قد يقال بان ظاهر الزوجين، أو منصرفهما على الأقل هو: للعَرْضيين كالزوج والزوجة لا للطوليين كالظاهر والباطن، فانه عرفاً لا يقال لهما زوجان(37)، مع قطع النظر عن ذلك نقول: ان استدلالهم بذلك لهو من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية والتمسك بثبوت الكلي لإثبات تحقق الصغرى والجزئي وهو بديهي البطلان؛ إذ نقول: هب ان الزوجين يعني ذلك، بل نقول من المسلمات ان للقرآن ظاهراً وباطناً ولكن:

كيف يكون ظاهر القرآن قشراً مهملاً!

أولاً: كيف تدّعون بان الظاهر بمنزلة القشر وهو زائد غير مطلوب، مع بداهة ان الظواهر في كل اللغات حجة مفيدة إلى أبعد الحدود إذ عليها تدور رحى الحياة والمكالمات والمكاتبات، وأكثر القرآن ظواهر، وقد صرح بانه ((بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ)) و((بِلِسانِ قَوْمِهِ)) واللسان العربي المبين ولسان القوم مبتنٍ على الاعتماد على الظواهر إلى أبعد الحدود.

ومن خولكم تفسير الباطن؟

ثانياً: هب ان الباطن محتوٍ على الأسرار والحقائق، كما هو كذلك حتماً، لكن من خولكم ان تفسروا باطن الكتاب؟ أما النبي فله الحق لأنه يوحى إليه ولقوله تعالى: ((وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ))(38) فهو المخاطب بـ(التبيين) ثم العترة الطاهرة شملهم حكم الآية لقوله (صلى الله عليه وآله) ((أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا))(39) أما أنتم فمن أين؟.

والغريب في المنهج الباطني انه يرى نفسه متحرراً من كل القيود اللغوية التي تواضع العقلاء عليها في فهم كلام الطرف الآخر، والأغرب ان الصوفي أو العارف أو الإسماعيلي لا يرضى بان يفسر الآخرون كلماته، بدون أية ضوابط، بل بمجرد الدعوى بانه أُلهم ان معنى كلام هذا الصوفي أو العارف هو خلاف ظاهره، ثم تجدهم يفسرون كلام الله تعالى بما يخالف كافة الأعراف العقلائية وما يخالف نص القرآن بانه ((وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ)) و((بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ)).

شواهد على التفسير الباطني غير المنضبط

والأمثلة التالية من الشواهد الجلية على الفوضوية في التفسير بدون إتباع أية منهجية علمية:

تفسير غريب للكعبة والطواف و...

1- في تفسير ابن عربي والذي قيل فيه انه تفسير عبد الرزاق القاشاني، على قولين، فسّر مثلاً المفردات القرآنية الصريحة في الحديث عن مقام إبراهيم والبيت والطواف ونظائرها كـ((وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً)) و((لِلطَّائِفينَ وَالْعاكِفينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ))(40) و... بمعاني غريبة، بل فسرها بتفسير بارد غير عرفي وغير عقلائي إذ يقول: ((وإذ جعلنا البيت) * (القلب) * (مثابة) * أي: مرجعا ومبوأ * (للناس وأمنا) * ومحل أمن أو سبب أمن وسلامة لهم يأمنون بالوصول إليه والسكون فيه شر غوائل صفات النفس وفتك فتاك القوى الطبيعية وإفسادها، وتخييل شياطين الوهم والخيال، وإغوائهم ومكائدهم * (واتخذوا من مقام إبراهيم) * الذي هو ومقام الروح مقام الخلة * (مصلى) * موطنا للصلاة الحقيقية التي هي المشاهدة والمواصلة الإلهية والخلة الذوقية * (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) * أمرناهما بتطهير بيت القلب من قاذورات أحاديث النفس، ونجاسات وساوس الشيطان، وأرجاس دواعي الهوى، وأدناس صفات القوى * (للطائفين) * أي: للسالكين المشتاقين الذين يدورون حول القلب في سيرهم * (والعاكفين) * الواصلين إلى مقام القلب بالتوكل الذي هو توحيد الأفعال المقيمين فيه بلا تلوينات النفس وإزعاجها منه * (والركع) * أي: الخاضعين الذين بلغوا إلى مقام تجلي الصفات، وكمال مرتبة الرضا والسجود الفانين في الوحدة)(41).

وتفسير غريب لقصة يوسف

2- والغريب انه أوهم في قصة يوسف بكونه مَثَلاً، بما لا يرضاه عرف ولا ذوق، إذ لم يرد حتى في رواية مثل ذلك فاعتبرَ (أن مَثَل يوسف مثل القلب المستعد الذي هو في غاية الحسن، المحبوب، المرموق إلى أبيه يعقوب العقل، المحسود من إخوته من العلات، أي: الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة والغضب والشهوة بنى النفس، إلا الذاكرة، فإنها لا تحسده ولا تقصده بسوء)(42) فقد ألغى الذاكرة ليتطابق عدد الحواس مع عدد إخوة يوسف! متعللاً بان الذاكرة لا تحسده وكأنّه توهم ان السامعة أو الباصرة أو اللامسة تحسد؟ فتأمل.

3- وقال التستري: عند تفسير آية ((وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً))(43): (المراد أن على الإنسان أن يترك أمور قلبه بيد ربه)(44).. وستأتي لاحقاً شواهد أخرى فانتظر.

الظاهرية والباطنية بين إفراط وتفريط

فهذان المنهجان إذاً (الظاهري والباطني) بين إفراط وتفريط، والصحيح هو الصراط الوسط الذي يعتبر الظاهر حجة ويرى ان للباطن ضوابط وطرقاً وآليات للوصول إليها أهمها مرجعية الراسخين في العلم كما سيأتي لذلك مزيد تفصيل بإذن الرب الجليل.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

.............................................
(1) سورة آل عمران: الآية 7.
(2) سورة النساء: الآية 34.
(3) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص62-64.
(4) كحجية الظواهر دون ان يجتهد في حجية خبر الواحد، أو العكس.
(5) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ص429.
(6) مقتبس من كتاب الإعجاز العلمي في القرآن والسنة للدكتور محمد راتب النابلسي.
(7) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص598.
(8) الملا هادي السبزواري، منظومه ملاهادی سبزواری، نشر ناب ـ تهران، ج2 ص164-165
(9) الورقاء: الحمامة في لونها بياض إلى سواد. والهتوف: كثيرة الصياح. والشجو: الهم والحزن. والصدح: رفع الصوت بالغناء، والفنن: الغصن.
(10) الأرق: السهر، وأرقها: أسهرها.
(11) سورة لقمان: الآية 27.
(12) محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل و النحل، الناشر: الشريف الرضي ـ قم، ج1 ص104.
(13) المصدر: ص120.
(14) ابن تيمية، كتاب الإيمان، ص85.
(15) سورة الكهف: الآية 77.
(16) ابن تيمية، كتاب الإيمان، ص87.
(17) سورة الشعراء: الآية 195.
(18) سورة إبراهيم: الآية 4.
(19) يراجع: الزركشي، الإتقان في علوم القرآن، ج2، النوع 43، ص255؛ ج3، النوع 52، ص120، السيوطي، تفسير الدرّ المنثور، ج1، ص186.
(20) ابن تيمية، كتاب الإيمان، ص79.
(21) محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل و النحل، الناشر: الشريف الرضي ـ قم، ج1 ص120.
(22) سورة النحل: الآية 44.
(23) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ص429.
(24) ونحن في العام 1444هـ.
(25) وذلك مخالف لقوله تعالى: ((وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)) و((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى‏ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ...)) سورة النساء: الآية 83 وغيرها.
(26) الذهبي، التفسير والمفسّرون، ج1، ص256، نقلاً عن: القاضي عبد الجبار، المطاعن، ص422.
(27) انظر: الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج2، ص251.
(28) السبحاني، الملل والنحل، ج1ن ص128، نقلاً عن: البغدادي، جامع بيان العلم، ج2، ص234.
(29) شاويش، السلفية: النشأة، المرتكزات، الهوية، ص20.
(30) إخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا، ج2، ص342.
(31) يراجع: البغدادي، الفرق بين الفرق، ص266؛ الشاطبي، الموافقات في أصول الأحكام، ج1،ص68.
(32) القاضي النعمان، تأويل دعائم الإسلام، ص180؛ يمن، كتاب الكشف، ص123 و53-54.
(33) يمن، كتاب الكشف، ص35،66،67؛ ناصر خسرو، خوان الإخوان، ص258.
(34) ناصر خسرو، وجه دين، ص280-282.
(35) محمد باقر سعيدي روشن / ترجمة: رضا شمس الدين، منطق الخطاب القرآني – دراسات في لغة القرآن -، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ـ بيروت، ص421.
(36) سورة الذاريات: الآية 49.
(37) فتأمل.
(38) سورة النحل: الآية 44.
(39) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ص429.
(40) سورة البقرة: الآية 125.
(41) محيي الدين بن عربي، تفسير ابن عربي، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ج1 ص73.
(42) محيي الدين بن عربي، تفسير ابن عربي، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ج1 ص338.
(43) سورة الدخان: الآية 24.
(44) التستري، تفسير القرآن العظيم، ص7 و131.

ذات صلة

استراتيجية وحدة المسلمين في مواجهة أعدائهمكاميلا هاريس خسارة الانتخابات أم خسارة القيم؟في تفسير ظاهرة تصادم النخب الثوريةحملة وطنية لمكافحة التصحّرالقطاع الخاص وحاجته للقوة الاكاديمية