كيف نحمل روح الأربعين إلى حياتنا اليومية؟
كمال عبيد
2025-08-17 04:38
مع كل عام، وبعد أن تُسدل زيارة الأربعين العظيمة ستارها، وتُلملم المواكب خيامها، ويعود الملايين إلى مدنهم وبيوتهم، يتردد في أعماق الوجدان سؤالٌ جوهريٌ يُلامس لب هذه الظاهرة الإنسانية الفريدة: هل ترحل روح الأربعين بانتهاء شعائرها؟ أم أنها تترك خلفها بذراً طيباً، ينبغي أن نرويه ليُزهر في تفاصيل حياتنا اليومية؟
إن هذه المسيرة المليونية، بما تحمله من قيم التضحية، والعطاء اللامحدود، والتكافل الذي يذيب الفوارق، والصبر الذي يُذهل العقول، ليست مجرد حدثٍ موسمي يُسجل في الذاكرة ثم يبهت أثره. إنها في جوهرها دعوةٌ عميقةٌ لتحويل تلك القيم السامية إلى منهجٍ سلوكيٍ مستدام، وفلسفةِ حياةٍ تُعيد صياغة تعاملاتنا اليومية، وتُعالج جروح مجتمعاتنا التي أنهكتها المادية والأنانية.
فكيف لنا أن نُبقي شعلة الأربعين متقدةً في دواخلنا، وأن نُحوّل ألقها العابر إلى نورٍ دائمٍ يُضيء دروبنا كل يوم؟
جسر يربط بين الروح والواقع
إن ما يجعل الأربعين ظاهرةً فريدةً لا يكمن فقط في ضخامة أعدادها، بل في الدوافع غير التقليدية التي تُحركها، والتي يمكن أن تكون جسراً حقيقياً لربط الروح بالواقع العملي. هي ليست مجرد فريضة تُؤدى، بل هي تمرينٌ عمليٌ على العطاء المجرد حيث يكتشف الإنسان لذة البذل دون انتظار مقابل، في مشهدٍ تتلاشى فيه الأنا وتتعاظم فيه روح الجماعة.
هذا الشعور بالإيثار يصبح دافعاً أساسياً، لا مرتبطاً بالزمان أو المكان، بل بوعيٍ متجدد بأن قيمة الإنسان الحقيقية تكمن في قدرته على العطاء. فكما يُقدم الخادم خدماته لزوارٍ لا يعرفهم، يمكن للفرد أن يمد يد العون لجاره، لزميله، أو لمن يحتاج في مجتمعه، لا انتظاراً لثناء، بل طلباً لرضا الله تعالى وإحياءً لروح الإمام الحسين (عليه السلام) التي قامت على العطاء.
كذلك، تُعد الأربعين ورشةً متكاملةً في إدارة الأزمات والموارد البشرية الطوعية فبينما تُدرّس في أرقى الجامعات نظريات معقدة في اللوجستيات وإدارة الحشود، تُقدم الأربعين تطبيقاً عملياً غير مسبوق لذلك، يتم فيه تنظيم ملايين البشر وتوفير احتياجاتهم الأساسية بجهود تطوعية بحتة.
هذا الدرس يُشجعنا على أن نرى في التحديات اليومية فرصاً للإبداع والتنظيم الذاتي، وأن نُؤمن بقدرتنا كأفراد ومجتمعات على إنجاز مهام تبدو مستحيلة إن تحلىنا بروح الفريق الواحد والتفاني الذي يُحرك خدّام الأربعين. إن رؤية هؤلاء المتطوعين، من مختلف الطبقات والخلفيات، وهم يعملون بتناغمٍ لا يُصدق، يُعطينا درساً عملياً في كيفية تحقيق الأهداف الكبرى بالاعتماد على التحفيز الذاتي والقيم المشتركة، بدلاً من الاعتماد الكلي على الهياكل الرسمية أو الحوافز المادية.
بين الأثر العابر والتغيير الدائم
إن التحدي الأكبر يكمن في تحويل هذا الفيض العابر من الإنسانية إلى نهرٍ متدفقٍ من العطاء الدائم. كيف يمكننا نقل تلك السلوكيات النبيلة من الطرقات المليونية إلى شوارعنا الهادئة، ومن المواكب العابرة إلى بيوتنا ومؤسساتنا؟
على سبيل المثال، تُظهر بعض الإحصائيات (التقديرية والمعتمدة على المشاهدة المباشرة والدراسات الاجتماعية الوصفية) أن معدلات العنف الأسري والجريمة البسيطة قد تشهد انخفاضاً ملحوظاً خلال فترة زيارة الأربعين في المناطق التي يمر بها الزوار أو تُقدم فيها الخدمات، وذلك نتيجة لروح التسامح والتعاون والتواضع التي تسود.
فالمشهد الذي يُرى فيه الغني يُقدم الخدمة للفقير، والعالم يُمسح الغبار عن حذاء الجاهل، يُكسر حواجز الطبقية والتعالي. فلو استطعنا أن نحمل هذه الروح إلى حياتنا اليومية، حيث يُنظر إلى "المقام" بالأخلاق لا بالمال، وإلى "الشرف" بالخدمة لا بالجاه، لتغيرت الكثير من معالم مجتمعاتنا.
كذلك، يمكننا ملاحظة ارتفاعٍ غير مسبوق في مستوى النظافة الشخصية والمجتمعية على طريق الزيارة، حيث يتنافس الخدّام والزوار في الحفاظ على نظافة الأماكن العامة، وهذا يُظهر وعياً بيئياً ينبع من الإيمان بقدسية المكان وكرامة الإنسان.
فلو استطعنا أن نستلهم هذا الوعي في مدننا، لكان لنا بيئة أنظف وأكثر صحة. إن غياب الفساد المالي في إدارة الموارد الضخمة التي تُقدم مجاناً خلال الأربعين يُعد شاهداً على إمكانية بناء مجتمعات تقوم على النزاهة والشفافية عندما يكون الدافع هو الإيمان الخالص والتكافل. هذه الظواهر ليست مجرد صدف، بل هي نتائج طبيعية لتربية مجتمعية تُمجد العطاء وتُعلي من شأن الإيثار، وهي دعوة لنا جميعاً لإعادة التفكير في قيمنا اليومية.
دروس لمستقبل أفضل
إن الأربعين تُمثل مختبراً اجتماعياً حقيقياً: لـ اقتصاد اللاماديّات فالثروة الحقيقية فيها هي الأجر المعنوي، والربح هو القرب من الله وخدمة خلقه. هذا يُجبرنا على إعادة تقييم مقاييس النجاح في حياتنا، وربطها بالقيم الروحية والأخلاقية أكثر من المادية البحتة.
لـ علم نفس العطاء الجماعي فالشعور بالانتماء لغايات أكبر من الذات يُعطي الأفراد طاقةً وقدرةً على التحمل والبذل تفوق طاقتهم الفردية. هذه الطاقة يجب أن تُستثمر في مواجهة التحديات الاجتماعية والنفسية التي تُعاني منها مجتمعاتنا المعاصرة، مثل العزلة والاكتئاب.
لـ الدبلوماسية الشعبية: حيث يُصبح الزوار من مختلف الجنسيات والثقافات سفراء للسلام والتعايش، يُقدمون نموذجاً حياً للتسامح الديني والإنساني، وهذا يُمكن أن يُشكل أساساً قوياً للدبلوماسية بين الشعوب، بعيداً عن تعقيدات السياسة.
بناء جسور الأربعين في الحياة اليومية
لتحويل هذه الروح العظيمة إلى واقعٍ يوميٍ ملموس، نقترح الآتي:
1. برامج أربعينية العام: إطلاق مبادرات مجتمعية مستمرة على مدار العام، تُشجع على التطوع، التكافل، وخدمة المحتاجين تحت شعارات مستلهمة من روح الأربعين. يمكن أن تشمل حملات لتنظيف الأحياء، دعم الأيتام، أو مبادرات لتقديم العون للمسنين.
2. دمج قيم الأربعين في المناهج التعليمية: يجب أن تُدرج قصص العطاء والإيثار والتكافل من الأربعين في المناهج الدراسية، لا كدروس تاريخية فحسب، بل كنموذج سلوكي يُحتذى به لغرس هذه القيم في نفوس الأجيال الناشئة.
3. توثيق القصص الملهمة: إنشاء منصات إعلامية ورقمية متخصصة لتوثيق قصص الزوار والخادمين الإنسانية، ونشرها على نطاق واسع، لتكون مصدر إلهام دائم للأفراد والمؤسسات.
4. منصات خدمة دائمة: تطوير تطبيقات ومنصات إلكترونية تُسهّل عملية التطوع وتقديم المساعدة للمحتاجين في المدن على مدار العام، مستلهمة من نموذج التنظيم الخدمي للمواكب.
5. الأربعون مختبرٌ للسلام العالمي: دعوة المنظمات الدولية والمراكز البحثية لدراسة ظاهرة الأربعين كنموذج لبناء السلام والتعايش السلمي، وتقديم هذه التجربة للعالم كحلٍ للصراعات القائمة على الكراهية.
دعوةٌ إلى روحٍ لا تغرب.. وبناءِ عالمٍ على خطى الحسين
حين يرحل الملايين عن كربلاء، تاركين وراءهم الطرقات وقد شهدت أسمى معاني العطاء، فإن روح الأربعين لا يجب أن ترحل معهم. إنها دعوةٌ عميقةٌ، وهمسةٌ من قلب الحكاية، بأن نُبقي تلك الشعلة متقدةً في دواخلنا. لنجعل من كل ابتسامةٍ قدمها خادم، ومن كل خطوةٍ قطعها زائر، ومن كل قطرة ماءٍ روت ظمأ عابر، تذكيراً دائماً لنا بأن الإنسانية الحقيقية تكمن في العطاء غير المشروط، وفي التواضع الذي يُعلي من شأن الروح، وفي الوحدة التي تُذيب كل الفوارق.
فهل لنا أن نُحوّل هذه التجربة الاستثنائية إلى خارطة طريقٍ لمجتمعٍ أفضل؟ هل نجرؤ على أن نرى في كل جارٍ لنا زائرَ حسينٍ يحتاج إلى العناية، وفي كل محتاجٍ خادماً ينتظر منا البذل؟ إنها ليست مجرد أمنية، بل هي رؤيةٌ قابلةٌ للتحقق إذا ما عشنا بقيم الأربعين كل يوم. لنُصبح جميعاً، كلٌ في موقعه، موكباً دائماً للعطاء، نبني عالماً لا تُفرّقه الماديات، بل تُوحّده أواصر المحبة والتكافل، عالماً يليق برسالة الحسين الخالدة، ويُعلي من شأن الإنسان في رحلته نحو الكمال.