الصين في مواجهة الشتاء الديموغرافي

شبكة النبأ

2025-12-06 03:29

تواجه جمهورية الصين الشعبية منعطفاً تاريخياً خطيراً يتمثل في أزمة ديموغرافية متفاقمة. فبعد عقود من تقييد النسل، تجد الحكومة نفسها اليوم تسابق الزمن لعكس تيار الانخفاض الحاد في المواليد. ففي محاولة يائسة لوقف النزيف الديموغرافي، تتجه الصين نحو إجراءات أكثر صرامة وإثارة للجدل، تتراوح بين فرض ضرائب جديدة على وسائل منع الحمل وتعديل السياسات الهيكلية. يأتي هذا في وقت كشف فيه باحثون أن استجابة بكين لأزمة معدل المواليد لا تزال تعاني من "التخبط وعدم الاتساق"، مما يهدد مستقبل القوى العاملة والاقتصاد في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

1. التشخيص الدقيق للأزمة: "أرقام تدق ناقوس الخطر"

يعيش العالم تحولاً ديموغرافياً غير مسبوق، حيث يقيم ثلثا سكان العالم في مناطق يقل فيها "معدل الخصوبة الكلي" (TFR) عن 2.1 مولود لكل امرأة، وهو الحد الأدنى اللازم للحفاظ على استقرار السكان. إلا أن الوضع في الصين يبدو أشد قتامة؛ إذ يحوم المعدل بالقرب من 1.0 فقط، وهو من بين الأدنى عالمياً.

وتكشف البيانات الرسمية عمق الأزمة: فقد سجلت الصين (1.42 مليار نسمة) في عام 2024 نحو 9.54 مليون ولادة فقط، وهو ما يعادل نصف عدد المواليد المسجل قبل عقد من الزمان (18.8 مليون).

وتجاوز عدد الوفيات عدد المواليد للعام الثالث على التوالي، مما يعني انكماشاً طبيعياً للسكان.

لا تقتصر المشكلة على مجرد انخفاض في الأرقام، بل تمثل تحولاً هيكلياً في بنية المجتمع الصيني:

* معدل الخصوبة الحرج: يعيش ثلثا سكان العالم في مناطق يقل فيها معدل الخصوبة عن مستوى الإحلال (2.1 طفل لكل امرأة). لكن وضع الصين أكثر قتامة، حيث يحوم المعدل حول 1.0 فقط، وهو من أدنى المعدلات عالمياً.

* الانكماش الطبيعي: للسنة الثالثة على التوالي، تجاوز عدد الوفيات عدد المواليد، مما يعني أن الصين بدأت تنكمش سكانياً بشكل طبيعي.

* التداعيات الاقتصادية طويلة الأمد:

من المتوقع أن يؤدي هذا التحول إلى عواقب وخيمة تشمل تقلص القوى العاملة، انخفاض الإنتاجية، وضغطاً هائلاً على شبكات الضمان الاجتماعي مع تزايد أعداد المتقاعدين مقابل قلة عدد العمال الداعمين لهم.

 * تقلص القوى العاملة: نقص حاد في الأيدي العاملة الشابة التي يعتمد عليها "مصنع العالم".

 * أزمة التقاعد: تزايد هائل في أعداد المتقاعدين مقابل انخفاض عدد العمال الذين يدفعون الضرائب ويدعمون صناديق التقاعد، مما يشكل ضغطاً غير مسبوق على شبكات الأمان الاجتماعي.

2. لماذا تفشل السياسات الحالية؟

أجرى باحثو مؤسسة "راند" تحليلاً لسبب عدم فاعلية الإجراءات الصينية حتى الآن، وخلصوا إلى أن الاستجابة الحكومية تتسم بكونها "غير مكتملة وغير متسقة"، وذلك للأسباب التالية:

أ. البيروقراطية والتردد السياسي

* بطء التغيير الهيكلي: السلطات في الحزب الشيوعي الصيني كانت بطيئة جداً في تنفيذ تغييرات هيكلية كبرى لإزالة السياسات المقيدة للخصوبة.

* عقدة الماضي: يشير التقرير إلى أن "بيروقراطية الدولة المترهلة" و"تردد الحزب في الاعتراف بأخطاء الماضي" (في إشارة لسياسة الطفل الواحد القاسية) يعيقان تبني نهج سياسي جديد وفعال بسرعة.

ب. التفاوت في التنفيذ (فجوة المركز والأطراف)

* هناك فجوة متزايدة بين أهداف الحكومة المركزية في بكين والتنفيذ الفعلي على المستوى المحلي.

* المدن الغنية: تمتلك موارد لتقديم حوافز مالية وخدمية مبتكرة لتشجيع الإنجاب.

* المناطق الفقيرة: تتخلف عن الركب لعدم قدرتها على تمويل مثل هذه البرامج.

ج. الإقصاء الاجتماعي (نظام "الهوكو")

* معظم برامج الدعم ترتبط بنظام تسجيل الأسرة المحلي ("Hukou"). هذا يعني أن العمال المهاجرين والفئات المتنقلة (الذين يشكلون جزءاً كبيراً من القوى العاملة) محرومون من الوصول إلى مزايا دعم الأسرة، مما يخلق "رقعة غير متجانسة" من السياسات.

د. التشخيص الخاطئ للمشكلة

* يرى الباحثون أن انخفاض الخصوبة في الصين يعكس "نوايا إنجابية غير محققة" وليس "عدم رغبة في الإنجاب". أي أن الأزواج يريدون أطفالاً لكنهم لا يستطيعون.

* الخطأ: السياسات الحالية تركز على الدعاية وتغيير الأعراف الاجتماعية والإصلاحات الإدارية، بينما تتجاهل العوائق الحقيقية وهي الاقتصادية (تكلفة السكن، رعاية الأطفال).

3. استراتيجية "الجزرة": إصلاح نظام مدفوعات الأمومة

في محاولة لمعالجة التمييز في مكان العمل وتخفيف العبء المالي، أطلقت "الإدارة الوطنية لأمن الرعاية الصحية" (NHSA) إصلاحاً هاماً بدأ تطبيقه في 1 نوفمبر:

* التغيير الجوهري: تحويل آلية صرف "بدلات إجازة الأمومة" (التي تغطي 98 يوماً) لتكون مباشرة من الحكومة إلى الحسابات البنكية للأمهات.

* النظام القديم (المعيبة): كانت الأموال تحول إلى أرباب العمل أولاً، ثم يقومون بتوزيعها. هذا تسبب في تأخيرات (كما في حالة السيدة "وانغ" التي انتظرت 8 أشهر)، واقتطاعات غير قانونية، واستخدام الحمل كذريعة للتمييز ضد النساء.

* النطاق: يشمل القرار حالياً 25 مقاطعة، مع خطط لتوسيع التغطية لتشمل 90% من المناطق الإدارية.

* الفئة المستفيدة الأبرز: يخدم هذا القرار بشكل خاص العاملين في "اقتصاد الوظائف المؤقتة" (Gig Economy) ومن ليس لديهم أرباب عمل رسميون، مما يضمن لهم حقوقهم في الضمان الاجتماعي.

4. استراتيجية "العصا": تحول جدلي في الضرائب ومنع الحمل

في خطوة أثارت جدلاً واسعاً وتعكس تحولاً جذرياً في فلسفة الدولة من "تحديد النسل" إلى "تشجيع النسل"، قررت الحكومة استخدام الأداة الضريبية:

* فرض ضريبة القيمة المضافة (VAT):

 * ابتداءً من 1 يناير 2026، سيتم فرض ضريبة بنسبة 13% على أدوية وأجهزة منع الحمل (بما في ذلك الواقي الذكري).

 * السياق التاريخي: كانت هذه المواد معفاة من الضرائب منذ عام 1993 عندما كانت الدولة تكافح لتقليل عدد السكان. إلغاء الإعفاء يعني أن الدولة لم تعد ترغب في تسهيل منع الحمل.

* الحوافز الضريبية المقابلة:

 * بينما تزيد تكلفة منع الحمل، ستقوم الدولة بإعفاء خدمات رعاية الأطفال، دور رعاية المسنين، وخدمات الزواج من الضرائب.

* قيود على الإجهاض:

 * ترافق ذلك مع قواعد جديدة لتقليل عمليات الإجهاض التي لا تعتبر "ضرورية طبياً"، وهو انعكاس كامل لسياسات الماضي القسرية.

* ردود الفعل والجدوى:

 * رأي الخبراء: يرى الديموغرافي "هي يافو" أن رفع سعر الواقي الذكري هو إجراء "رمزي" ولن يؤثر في الصورة الكبيرة. السبب هو أن تكلفة تربية طفل واحد في الصين حتى سن 18 عاماً تتجاوز 538,000 يوان (76,000 دولار). لذا، فإن زيادة بسيطة في سعر الواقي الذكري لن تقنع عائلة بتحمل هذا العبء المالي الضخم.

 * المخاوف الصحية: هناك قلق شعبي (عبر منصة Weibo) من أن يؤدي غلاء وسائل الحماية إلى ارتفاع في الأمراض المنقولة جنسياً دون تحقيق زيادة فعلية في المواليد.

5. هل تنجح التكنولوجيا والسياسات المختلطة؟

وفيما تراهن الصين باستثمارات ضخمة على تقنيات توفير العمالة والذكاء الاصطناعي لتعويض النقص البشري، حذر الباحثون من الإفراط في التفاؤل. حيث "من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت التكنولوجيا ستعالج التحديات الديموغرافية بشكل ملموس. وبشكل عام، ستكون التأثيرات غير متساوية؛ فعلى سبيل المثال، المؤسسات الغنية بالموارد فقط هي التي ستتمكن من الاستفادة من تقنيات رعاية المسنين المتقدمة، مما قد يفاقم الفجوة الاجتماعية".

ويبدو أن الصين تتبع نهجاً يخلط بين الحوافز الإدارية الجيدة (الدفع المباشر للأمهات) وبين الضغوط الاقتصادية والرمزية (فرض ضرائب على منع الحمل)، لكنها لا تزال تتجنب معالجة "الفيل في الغرفة": التكلفة الباهظة لتربية الأطفال والضغوط الهائلة على الأسر الشابة في ظل اقتصاد متباطئ.

* المصدر: نيوزويك

ذات صلة

كيف تسيطر على اعصابك المتوترة.. وكيف تتقي شرّ القوة الغضبية؟حماية وإدماج أقليات سنجار وكركوك: خارطة طريق للعودة الآمنة والعدالة الانتقاليةالعراق أمام خيارين.. ماليزيا أو فنزويلاحكومة إدارة الأزمات: من سيكون رئيسها؟ثروة الأمم الجديدة.. كيف يعيد رأس المال الأداتي تشكيل العالم