كيف تسيطر على اعصابك المتوترة.. وكيف تتقي شرّ القوة الغضبية؟

وَالَّذينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون.. (1)

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

2025-12-06 03:39

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَالَّذينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ‏)[1].

المقدمة: يتمحور البحث حول مخاطرِ وأضرارِ هيجانِ القوّة الغضبية وعدم السيطرة التامّة عليها، وضرورة البحث عن طرق للسيطرةِ عليها في عالم ازدادت فيه المثيرات العصبية، مشبِّهاً القوّة الغضبية بكلب الهِراش والكلب العقورِ الناقل لداء الكلب الخطير، مستعرِضاً مجموعة من الروايات التي تعتبر الغضب مفتاح كلّ شرّ، وأنّه جيش إبليس القوي، وأنّه من أهمّ عواملِ دخول كثير من الناس إلى النار، مستشهِداً ببعض الشواهد والقصص الواقعية التي تكشف عن مدى خطورة الغضب على مستقبل الإنسان وسعادته، وعلى أُسرته، مقترِحاً الاستعانة بالذكاء العاطفي في مواجهة القوّة الغضبية، مشيراً إلى رواية رائعة تتحدّث عن الشيء العظيم التي تتوقى به من غضب الله تعالى، وتوضّح أيضاً أسباب الغضب ومناشئه، وأنّ من أهمّها الكبرياء والإحساس بالعظمة واحتقار الآخرين، وأنّ على المرء أن يستحضر أخطار القوة الغضبية وأضرارها دوماً وأن يتّخذ القرار الصارم بأن لا يغضب أبداً أبداً.

ثمّ يعرّج البحث إلى عامل سيكولوجي مهم، وهو: أن لا تتوقّع من أحدٍ شيئاً أبداً؛ فإذا كنت كذلك فإنّك ستنزِع فتيل القوّة الغضبية تماماً.

توتر الأعصاب وتفجر القوة الغضبية، ظاهرة العصر المقلقة

لقد أصبح الضغط العصبي وتوتّر الأعصاب وتفجّر القوّة الغضبيّة ظاهرة مقلقة من أهم ظواهر العصر الحديث، فلا تكاد ترى بيتاً أو أسرةً أو محلةً أو جماعةً إلّا وهي تعاني من توتّرٍ أو صراعٍ أو عنفٍ لساني أو جوارحي أو غير ذلك، وذلك كله نتيجة تكاثر التحدّيات، وتراكم المشاكل، وتزايد الهموم والغموم، العامّة والخاصّة بدءاً من مشاكل البيئة والطبيعة: التلوّث، التصحّر، نقص المياه، قلّة الأمطار، مروراً بكثرة الأمراض، واستحداث أمراض جديدة، ووصولاً إلى ازدياد الصراعات الدوليّة والإقليميّة والمحليّة والمناطقيّة والعشائريّة والحزبيّة وغيرها، والذي زاد من وتيرتها وتسارعها تقارب العالم الذي أصبح كالقرية الواحدة، بل كالبيت الواحد، ممّا أنتج تصدير المشاكل والفتن والشبهات والأمراض وغيرها من كلّ مكان إلى كلّ مكان، فأنتج كلّ ذلك ضغوطاً كبيرةً لا تطاق على الأشخاص والعوائل والجماعات والشعب كله، وبذلك رحلت السعادة والهدوء والسكينة وولّت إلى غير رجعة ـ ظاهراً ـ فيما لو استمرت المـُدخَلات كما ذكرناه، ولم تكافَح بطرقٍ دينيّة – علميّة ترقى إلى مستوى هذا التحدّي الخطير الكبير.

من هذه المنطلقات تنبعث أهمّيّة طَرْق مثل هذا الموضوع الذي يتكفل بالدراسة كيفيّة السيطرة على القوّة الغضبيّة والتحكّم في الأعصاب المنفلتة أو المشدودة؟.

القوة الغضبية كلب عقور مستكلب

وكتمهيدٍ للبحث، ولكي تتجلى لنا أكثر خطورة القوّة الغضبيّة، نقول: إنّ القوّة الغضبيّة يمكن تشبيهها بمثال معبّر جدّاً ودقيق، وهو الكلب العقور أو كلب الهراش، ذلك أنّ من المعروف أنّ الكلب غير المطعَّم، لو عضّ الإنسان، خاصة الأطفال، فإنّ المصاب سيُبتلى بداء الكلب، وداء الكلب داء خطير؛ إذ إنّ الكلب، وكذلك بعض الحيوانات الأخرى كالثعالب والقطط وحتى الأبقار وغيرها، كثيراً ما تنقل إلى الإنسان ـ عبر العضّ ونحوه ـ فيروساً خطيراً يستهدف الجهاز العصبي المركزي بعد فترة حضانة قد تستمر شهراً، حتى يصل إلى الدماغ مُسبِّباً له التهاباً خطيراً.

وتبدأ أعراضه بمثل الصداع والحمّى، ومثل سيلان اللعاب دائماً (كالكلب تماماً)، لتتطور إلى مثل الهلوسة ورؤية أشياء غير موجودة أو سماع أصوات غير موجودة، بل وحتى نوبات من الجنون، ومن أنواعه جنون العظمة، حيث يتخيّل المصاب بهذا الداء، أنّه فوق البشر، وأنّه كذا وكذا، وذلك نظير المصاب بداء القوّة الغضبيّة المنفلتة التي تعود فيما تعود، كما سيأتي، إلى نوعٍ من وَهْم العظمة والكبر والتعالي.

كما يتطور هذا المرض إلى درجة الإصابة برهاب الماء، حيث إنّ المصاب يخاف بشدّة عند رؤية الماء (وقيل: إنّه نتيجة تعذّر ابتلاعه عليه)، ثم يتطور إلى حدّ الإصابة بالشلل، ثم يتطور أكثر فأكثر حتى درجة موت حامل هذا الفيروس لو لم يعالج.

وحسب الإحصاءات فإنّ خمسة وخمسين ألف شخص حول العالم يموتون من هذا المرض الناتج عن عض الكلاب.

ومن الغرائب أنّ بعض من يعضّه الكلب يصاب بظاهرة أخرى، وهي أنّه يبدأ ينبح كالكلب تماماً!

والقوّة الغضبيّة في المجتمع الإنساني، سوسيولوجياً وسيكولوجياً، لا تقلّ خطورةً عن داء الكلب حتى في نتائجه الفيزيولوجيّة والكيماويّة على الإنسان.

مخاطر الغضب على ضوء الروايات

والروايات الشريفة تمنحنا رؤيةً أوضح عن مخاطر القوّة الغضبيّة وأضرارها، وهي على طوائف:

الغضب جند عظيم من جنود إبليس

- فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (وَاحْذَرِ الْغَضَبَ فَإِنَّهُ جُنْدٌ عَظِيمٌ مِنْ جُنُودِ إِبْلِيسَ‏)[2].

والجُند جمعٌ، والجندي مفرد، كالروم والرومي، وذلك يعني أنّ الجُند يساوي الجيش؛ فالغضب في داخل الإنسان ليس عدوّاً واحداً يترصدك بل هو جيش من الأعداء يواجهك، (نعم، يقع البحث في أنّه هل هو تعبير مجازي أو كِنائي؟ ثم يقع البحث في أنّه هل هو بالفعل كذلك، أي إنّ الغضب يستبطن عشراتٍ من الجنود بأنحاء مختلفة في الشخص الواحد، أو المراد: جيش الغضب في مقابل مجموع الناس لا آحادهم).

وتصوّر: إن أمكنك أن تقاوم جندياً واحداً، أو خمسةً، أو عشرةً، فهل يمكنك أن تقاوم جيشاً من الأعداء؟

والحاصل: إنّ الغضب جيش إبليس، ولا يمكن مقاومته إلّا بأساليب متطوّرة جدّاً سنشير إلى بعضها في هذه الورقة الموجزة.

الغضب مفتاح كل شرّ

- وورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (الْغَضَبُ مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ)[3]، وهي عبارة معبِّرة وقوية جداً، إذ يفيد الحديث أنّ الغضب منشأ شتّى أنواع الشرور، بدءاً من السّباب والشتائم، وألوان الغيبة، والتهمة، والنميمة، والتفكك الأسري، وصراعات العوائل، والأحزاب، والعشائر، وصولاً إلى الحروب بين الدول، وإلى سفك الدماء وسحق الحقوق، وحتى الكفر بالله العظيم، والعياذ بالله، من ذلك كلّه.

أركان الكفر أربعة:... ومنها الغضب

- بل ورد عن الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله) أنّ الغضب من أركان الكفر، إذ قال (صلى الله عليه وآله): (أَرْكَانُ الْكُفْرِ أَرْبَعَةٌ: الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ وَالسَّخَطُ وَالْغَضَبُ)[4]، وهو عجيب بدواً، لكنه ليس بعجيب عند التدبّر، إذ ما أكثر ما يدفع الغضبُ المرءَ نحو الكفر بدرجاته (من كفر النعمة إلى كفر العقيدة)، ولعل من وجوهه أن منشأ الحقد والحسد هو الغضب أيضاً ولولا غضب إبليس من تفضيل آدم عليه لما حسده ولما حقد عليه مما أدى إلى كفره.

وكان (صلى الله عليه وآله) يتعوذ من ستة: منها الشرك ومنها الغضب

- وورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَتَعَوَّذُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ سِتِّ خِصَالٍ: مِنَ الشَّكِّ، وَالشِّرْكِ، وَالْحَمِيَّةِ، وَالْغَضَبِ، وَالْبَغْيِ، وَالْحَسَدِ)[5].

فكما على الإنسان أن يتعوّذ بالله العظيم من الشرك، وهو أعظمُ الكبائر، عليه أن يتعوّذ بالله تعالى من الغضب أيضاً، والفرق أنّ الشكَّ والشرك على مستوى العقل النظري والجوانح والعقيدة، أمّا الغضب فهو على مستوى النفس ثم الجوارح، وكذلك الحسد وأما البغي فهو جوارحي.

ونقول استطراداً: إنّ الشكَّ خطير إذا نال البُنى التحتية المعرفية والقيم، كمن يشكّك في كون الوفاء والصدق والعدل والإحسان أموراً حسنة، أو يشكّك في كون الظلم والعدوان والنصب والاغتصاب والسرقة أموراً سيئة، فيقول: من قال ذلك؟! مُصِرّاً على تشكيكه، وهو الذي يؤدّي إلى اللاأدرية والعدمية بل والظلامية، بل ويؤدي إلى هدم أسس الحياة نفسها، إذ يشكّك في كلّ شيء، فلا يبقى معه أي شيء، ثم يقال له: أنّه هل يقبل أن يشكّك أحدٌ في طهارة مولده؟ أو في علمه؟ أو في وثاقته؟ أو عدالته لو كان يدّعيها؟!

إنّ الرجل ليغضب... ويدخل بذلك النار

- بل ورد عن الصادق عن الباقر (عليهما السلام): (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ حَتَّى مَا يَرْضَى أَبَداً وَيَدْخُلُ بِذَلِكَ النَّارَ)[6].

وقال (صلى الله عليه وآله) (مَا غَضِبَ أَحَدٌ إِلَّا أَشْفَى عَلَى جَهَنَّمَ)[7]، أي أشرف على جهنم، وقال تعالى: (عَلى‏ شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ في‏ نارِ جَهَنَّمَ)[8]، فإنه مزالّ خطر للإنسان.

والسبب هو أنّ الغضب يُغذّي نفسه بنفسه، فهو ككرة الثلج المتدحرجة من أعلى الجبل، حيث تلتقط في طريقها الثلج والوفر المتساقط من السماء على طول الطرق والمنحدرات الجبلية، فتتضخّم كلما مضت الثواني والدقائق، فكذلك الغضب إذا لم يسيطر عليه الإنسان قبل لحظة انفجاره، فإنّه سيتفجّر كالبركان ليلقي بحممه في كل مكان.

- وعن أميرِ المؤمنين (عليه السلام): (الْغَضَبُ نَارٌ مُوقَدَةٌ، مَنْ كَظَمَهُ أَطْفَأَهَا، وَمَنْ أَطْلَقَهُ كَانَ أَوَّلَ مُحْتَرِقٍ بِهَا)[9].

والتجربة دالّة على ذلك أيضاً، ومن أعظم العِبَر ما سنقرؤه معاً في القصة التالية:

الطفل الذي حطم تحفيات أبيه، فضربه، فقطعت يده وانتحر!

حيث يُنقل أنّ أحدهم كان يهوى التُحَفيات من مزهرياتٍ وأوانٍ قديمةٍ وصحونٍ وأكوازٍ وأباريقَ زجاجية، فكوّن على مرور السنوات مجموعةً ضخمةً منها، وضعها على مكتبةٍ رائعة الصنع، من النمط نفسه، ولعلّها كانت من الزجاج أيضاً، فملأت إحدى جدران قاعته الكبرى بالمنزل... وكان له طفلٌ ربما بعمر الثلاث سنوات.

وذات يوم، بينما كان في غرفته، بدأ الطفل يعبث بقاعدة المكتبة، وحيث كانت متآكلة بعد مرور سنين، فإنّها تمايلت حتى سقطت المزهريات والتحفيات كلّها على الأرض، مُحدثةً دوياً شديداً، ومتكسّرةً إلى آلاف القطع، ولحسن الحظ لم يصب الطفل بأذى.

إلّا أنّ الأب عندما سمع الضجّة الكبرى هرع إلى قاعة الاستقبال، فوجد تحفيّاته مكسورة كلّها، فحمل قطعة حديد أو خشب كانت هناك، وبدأ يضرب يدي الطفل بقوة! ولم يمنعه بكاء الطفل وصراخه، واستمرّ دقائق حتى أفرغ طاقته الغضبية المتفجّرة، ولولا تدخّل الأم لاستمرّ أكثر فأكثر!

بعد ذلك بوقتٍ وجيز تورّمت يدا الطفل، فوضعت عليه الأم بعض المراهم، إلّا أنّ الطفل استمرّ في البكاء... ثم وجدوا على موضع الضرب سواداً، فقلق الأبوان، ونقلوه، بعد فترة، إلى المستشفى... فأدخلوا الطفل إلى قسم الطوارئ، ثم نقل إلى قسم العمليات الجراحية العاجلة، حيث كان الدم قد تخثّر بشدّة... وبعد الفحص توصّل الطبيب إلى قناعة بأنّ يدي الطفل يجب أن تُقطعا، وإلّا فإنّ العفونة قد تسري إلى أعلى يديه ثم بدنه!

وهنا جاء الطبيب إلى الأب وأخبره، بكلّ حرجٍ وألم، بالخبر، إلّا أنّ الأب الجاني لم يتحمّل الصدمة المذهلة: أن يكون هو السبب في قطع يدي ابنه، في لحظات غضب متفجرة، فركض إلى النافذة، وألقى بنفسه من علٍ إلى الأرض، فانكسرت عنقه ومات… إلى جهنم وبئس المصير.

فهكذا يفعل الغضب بالإنسان، يجرّه من معصيةٍ إلى أخرى، فما يرضى أبداً حتى يرتكب جريمةً أعظم فأعظم، حتى يدخل النار، والعياذ بالله.

بل قد يشتري المرء لنفسه النار في نفس لحظة الغضب الأول؛ فقد نُقل أنّ نزاعاً حصل بين سائق سيارة الأجرة والراكب، على الأجرة، وأنّها ثلاثة دنانير أو خمسة... واشتدّ التلاسن، ودخل إبليس... فهاجم أحدُهما الآخر، واصطرعا حتى خنق أحدُهما الآخر فمات، واستوجب القاتل النار لأجل دينارين فقط!

من سبل المواجهة والعلاج: الاستعانة بالذكاء العاطفي

وبعد أن عرفنا جانباً من مخاطر ثوران القوة الغضبية، ننتقل إلى سُبُل المواجهة والحلولِ الناجحة، ونصنّفها إلى ثلاثة مستويات:

أولاً: على مستوى العقل النظري والعلمي – الفكري، فإنّ على الإنسان أن يستعين بالذكاء العاطفي، ويتمظهر ذلك في المعالم التالية:

أ- استحضار خطورة الغضب وأضراره

إعرف خطورة الغضب وأضراره الجسيمة الفادحة، وهذا ما أوضحته لنا إلى حدٍّ كبير الروايات السابقة، وستظهر لنا خطورته أكثر عندما نتدبّر لاحقاً في بعض الروايات الآتية.

فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ، أَعْلِمْنَا أَيُّ الْأَشْيَاءِ أَشَدُّ؟)، وهو سؤال طريف ومهم، وقد يفكّر أحدنا بأنّ الحديد أشدّ الأشياء، أو الفولاذ، أو الجبال، أو السيل الذي يكتسح كل شيء أمامه، أو حتى القنبلة الذرّيّة والنوويّة، لكن جواب عيسى (عليه السلام) كان أدقّ وأنفع:

(فَقَالَ: أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ غَضَبُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)، لوضوح أنّه لا يقوم أمام غضبه تعالى شيء، حتى لو اجتمعت العوالم كلها كما هو بديهي، لكن الحواريّين لم يكتفوا بسماع الجواب الكلامي، بل انتقلوا إلى السؤال السلوكي والعملي المترتّب على ذلك:

(قَالُوا: فَبِمَ يُتَّقَى غَضَبُ اللَّهِ؟)، وذلك يبدو غريباً، إذ من الواضح لكل مؤمن بالله تعالى أنه لا يمكن لأيّ درع أو حصن أن يقي الإنسان من غضب الله تعالى، لكن جواب عيسى (عليه السلام) كان دقيقاً وبسيطاً غايته:

(قَالَ: بِأَنْ لَا تَغْضَبُوا)، وهو حلّ من أسهل الأمور؛ إذ أنك لا تحتاج أن تجمع الجيوش وتصرف المليارات، بل يكفي أن تتحكّم في نفسك فقط، وهي التي لو شئت لخضعت لك فكنت أنت الحاكم وهي المحكوم، لكنّ الحواريّين لم يكتفوا بذلك حتى سألوا سؤالاً دقيقاً آخر، وهو:

(قَالُوا: وَمَا بَدْءُ الْغَضَبِ؟)، لأنّه إذا عُرف المنبع والمنشأ أمكن بسهولة التحكّم في الغضب عبر التحكّم في مناشئه،

(قَالَ: الْكِبْرُ، وَالتَّجَبُّرُ، وَمَحْقَرَةُ النَّاسِ)[10].

ولنكتفِ بشرح المنشأ الأول فقط، فإنّ واحداً من أهمّ عوامل ثوران القوّة الغضبيّة هو الكِبر والاستعلاء، وأن يرى المرء لنفسه على غيره مزيةً؛ لأنّ أمواله أكثر، أو علومه أغزر، أو مكانته أقوى، أو سلطته أوسع وأرسخ، أو ما أشبه، وقد تكون سلطته على زوجته، أو تلامذته، أو شعبه، فيُسلِّط غضبه عليهم لما في نفسه من الكبرياء، ولو احتقر نفسه واستعظم شأن غيره ومكانته لسيطر على غضبه، أو لم تشتعل نار غضبه أصلاً؛ فإنّ الإنسان إذا تفكّر في نفسه فأدرك أنّ (أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَهُوَ بَيْنَ ذَلِكَ يَحْمِلُ الْعَذَرَةَ)[11]

كما قاله أحد الحكماء لأحد المتكبّرين، ولعلّه كان المهلب، عندما رآه يجرّ ردائه خيلاء فردعه. فقال المهلب: أوتدري مَن أنا؟ فقال: نعم، أوّلك نطفة مَذرة، وآخرك جيفة قذرة! ويمكن تطوير جملته إلى (أوله نطفة محتقرة.. وآخره جيفة مستقذرة.. وهو بين ذلك يحمل البول والعذرة).

ب- إتخاذ قرار صارم لا رجعة فيه

اتَّخِذْ القرار الصارم، فإنّ الإنسان إذا عرف مضاعفات الغضب السلبيّة الخطيرة وتجسّدها أمام ناظريه دوماً، فإنّه لا يستفزّه حينئذٍ شيء، وحتى إذا استفزّه شيء فإنّه سيتذكّر فوراً العواقب الخطيرة المترتبة على ذلك وأهمها غضب الله عليه، فيرعوي ويرتدع لا محالة.

ومن أكثر الروايات دلالةً الرواية التالية:

عن أبي عبدِ الله (عليه السلام) قال: (قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي.

قَالَ: اذْهَبْ وَلَا تَغْضَبْ.

فَقَالَ الرَّجُلُ: قَدْ اكْتَفَيْتُ بِذَاكَ.

فَمَضَى إِلَى أَهْلِهِ، فَإِذَا بَيْنَ قَوْمِهِ حَرْبٌ قَدْ قَامُوا صُفُوفاً وَلَبِسُوا السِّلَاحَ.

فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ لَبِسَ سِلَاحَهُ، ثُمَّ قَامَ مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): لَا تَغْضَبْ، فَرَمَى السِّلَاحَ.

ثُمَّ جَاءَ يَمْشِي إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمْ عَدُوُّ قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ، مَا كَانَتْ لَكُمْ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ لَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ، فَعَلَيَّ فِي مَالِي، أَنَا أُوفِيكُمُوهُ[12].

فَقَالَ الْقَوْمُ: فَمَا كَانَ فَهُوَ لَكُمْ، نَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْكُمْ.

قَالَ: فَاصْطَلَحَ الْقَوْمُ، وَذَهَبَ الْغَضَبُ)[13]

فلاحظوا شهامة هذا الرجل وفتوّته وحدة فهمه، حيث عمل بما سمع من موعظة، فسيطر على قوّته الغضبيّة في ساعة الصفر، فجنّب قومه والآخرين إراقة دماء كثيرة، وقطع أعضاء وجراحات، وهتك أعراض كثيرة.

ج- تصفير التوقعات من الناس

اجعل توقعاتك من الناس صفراً، وكان السيد الوالد (قدس سره) ينصحنا بهذه النصيحة، إذ أنّ أكثر الناس يغضب من زوجه/ زوجته، أو من شريكه، أو تلميذه، أو زميله، أو... لأنه يتوقع منه أن يكافئه مثلاً على إحسانه إليه (فقد أقرضه يوماً، فالآن حيث احتاج وأراد الاقتراض منه، يجده رغم قدرته يرفض، فيغضب لأنه توقع منه المكافأة بالمثل.. وهكذا لو قام له في المجلس، فيتوقع منه أن يقوم له، فإذا لم يفعل غضب.. وهكذا).

فإذا صفّر الإنسان توقعاته من الناس، وكان أمله ورجاؤه بالله فحسب: أن يثيبه ويجزيه بالحسن، فإنّه نعم المثيب، وجزاؤه أعظم بما لا يقاس بأنواع جزاء الناس للإنسان.

قال لسلمان: لحيتك أشرف أو ذيل الكلب!

ومن أروع القصص في هذا الحقل ما نُقل أنّ أحدهم رأى سلمان المحمدي ذات مرّة، فأمسك لحيته، أو أشار إليها، وقال له بوقاحة منقطعة النظير: (لحيتك هذه أشرف أم ذيل الكلب)!.

وكان سلمان معمّراً، قيل إنّه بلغ الثلاثمائة سنة، والمفترض بكلّ إنسان، حتى لو كان أشدّهم جهلاً، أن يحترم الشيبة، لكنّ هذا الصحابي كان وقحاً إلى أقصى الحدود، لكنّ سلمان كان حكيماً إلى أبعد الحدود، فبدل أن يستفّزه السؤال المهين أجاب بجواب يحمل كل العبرة لنا وللناس على مرّ التاريخ، قال: (هنالك في يوم القيامة صراطٌ ممدود على جسرِ جهنم، فإن عبرت ذلك الصراط ودخلت الجنة فلحيتي أشرف من ذيل الكلب، وإلا فإنّ ذيل الكلب أشرف)[14]!.

ولو تفكّر كلّ منّا مع نفسه بهذه الطريقة: إنّني مهما أوتيتُ من علم أو تقوى أو مالٍ أو جاه أو سلطة، لا أعلم أنّني سأعبر الصراط، فينشغل بقضية حسن العاقبة وحَمل هذا الهمّ الثقيل عن أن يغضب لنفسه، إذ لا يعلم أنّه سينجو أم يهوي، لا سمح الله في نار جهنم. فهذا معنى أن يرى الإنسان نفسه صفراً مطلقاً، مادام في هذه الدنيا، ومادام لا يعلم أنّ عاقبته ما تكون؟

سلاحا الشيطان الرهيبان

ختاماً: علينا أن نتذكر دوماً أنّ للشيطان سلاحين رهيبين، بهما يُركِع بني آدم لسلطته، ويجرّهم بهما إلى مهاوي النار، وهما القوة الغضبية والقوة الشهوية، فهما ذئبان ضاريان وكلبان عقوران، لا يماثلهما في خطورتهما شيء، وقد مضى، وسيأتي بعض الكلام عن القوة الغضبية، وعسى أن يوفقنا الرب الجليل للحديث عن القوة الشهوية ومخاطرها، وكيفية السيطرة عليها.

وقد ورد في الحديث عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إِنَّ هَذَا الْغَضَبَ‏ جَمْرَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ[15] تُوقَدُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ[16]، وَ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا غَضِبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ فِيهِ، فَإِذَا خَافَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ فَلْيَلْزَمِ الْأَرْضَ، فَإِنَّ رِجْزَ الشَّيْطَانِ لَيَذْهَبُ عَنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ)[17] والله العاصم الهادي إلى طريق الرشاد والهدى والسداد.

الخاتمة: خَلُص البحث إلى أنّ الغضب والأعصاب المتوترة تشكل واحداً من أهم المخاطر على حياة الإنسان وأسرته وعلى سعادته وعلى إيمانه وآخرته، وأنّ الحل يكمن في التدبّر في مخاطر ثوران القوة الغضبية وأضراره الفادحة، وأن يستحضر الإنسان الروايات المعبرة عن ذلك والقصص التي تتجسّد عبرها مخاطر القوة الغضبية، وأن يتخذ قراراً لا رجعة فيه بأن يكون حليماً، هادئاً أبداً، وأن لا يتوقع من أحد شيئاً أبداً، وبذلك يكون الحاكم على نفسه والمسيطر على أعصابه والمتحكم في قوته الغضبية، بلطف الله وكرمه. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم

http://m-alshirazi.com

..........................................

[1] سورة الشورى: 37.

[2] نهج البلاغة: الكتاب 69.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص303.

[4] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص289.

[5] الشيخ الصدوق، الخصال، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة: ج1 ص329.

[6] الأمالي للطوسي، ص340.

[7] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت: ج70 ص267.

[8] سورة التوبة: 109.

[9] عيون الحكم والمواعظ (لليثي): ص22.

[10] الشيخ الصدوق، الخصال، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة: ج1 ص6.

[11] عيون الحكم والمواعظ (لليثي): ص479.

[12] «ليس فيه أثر» أي علامة جراحة لتصح مقابلته للجراحة. والأثر بالتحريك: بقية الشيء وعلامته وبالضم وبضمتين اثر الجراحة يبقى بعد البرء. والايفاء والتوفية: اعطاء الحق تاما (آت).

[13] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص304.

[14] وقيل أن الذي خاطب سلمان بذلك كان عمر بن الخطاب.

[15] الجمرة القطعة الملتهبة من النار، شبه به الغضب في الاحراق والاهلاك.

[16] في بعض النسخ [جوف ابن آدم‏].

[17] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص304-305.

ذات صلة

حماية وإدماج أقليات سنجار وكركوك: خارطة طريق للعودة الآمنة والعدالة الانتقاليةالعراق أمام خيارين.. ماليزيا أو فنزويلاحكومة إدارة الأزمات: من سيكون رئيسها؟الصين في مواجهة الشتاء الديموغرافيثروة الأمم الجديدة.. كيف يعيد رأس المال الأداتي تشكيل العالم