مجتمعات الجهالة والاقتباس الاعمى
النهضة الحسينية.. ثورة ثقافية ضد الجهالة (3)
مرتضى معاش
2025-08-17 04:41
(وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَة)
انّ أساس قضية الإمام الحسين (عليه السلام) هو تحرير الإنسان من حالة الجهالة، خصوصا عندما تصبح عامة وشاملة، وكما عبّر عنها الامام علي (عليه السلام) بـ(الجهالة الغالبة)، بما يعني الجهالة المستحكمة، أو الجهل المدقع.
فعندما يكون هناك إيغال في الجهل والتجهيل وتصبح الثقافة العامة أو المظهر العام للمجتمع هو الجهل، يصبح الجهل مشكلة كبيرة حيث يصبح معظم أفراد المجتمع همجا رعاعا يميلون مع كل ناعق، لذا فإن رسالة الإمام الحسين (عليه السلام)، هي استمرار لرسالة الانبياء والأئمة (عليهم السلام) في تحرير الإنسان من تلك الجهالة، ورفع القيود عن الإنسان حتى يكون حرا ومسؤولا وعارفا بمسؤولياته في الحياة، وتحريره من (التبعية الحضارية)، بأن لايبقى يعيش ذليلا في حضارة مهزومة أو يكون ميت الأحياء يعيش بلا حضارة.
ومن هنا فإن الجهالة على قسمين:
أولا: الجهالة الطبيعية: وهي الجهالة التي تأتي من خلال استمرار المجتمع في عدم التعلّم ونبذ المعرفة والعلم، فليس هناك في مفردات المجتمع الجاهلي شيء اسمه علم ومعرفة وتعليم، وحيث لا يدرك أي قيمة للمعرفة والعلم، وهذه هي الجهالة الغالبة.
وعن الامام علي (عليه السلام): (فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ)(1)، لذلك يقبع المجتمع الجاهلي الذي لا يفهم معنى العلم والتعلم، في التخلف والشقاء والعنف والأزمات والضياع: (فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ فِي خَيْرِ دَارٍ وَشَرِّ جِيرَانٍ نَوْمُهُمْ سُهُودٌ وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ بِأَرْضٍ عَالِمُهَا مُلْجَمٌ وَجَاهِلُهَا مُكْرَمٌ)(2).
ثانيا: الجهالة المكتسبة: هذا النوع من الجهالة يحدث عندما ينغمس المجتمع في حالة من التبعية الحضارية، والاستلاب الثقافي، فيصبح تابعا للحضارات وللثقافات الأخرى، فيعيش الجهالة بانهزامه العقائدي، وتستغلب عليه حالة السطحية في التفكير والأفكار التافهة، فيصبح مستلب الإرادة منقادا لغيره إرادته، بلا هوية وانتماء.
مفهوم الاقتباس بين الاصالة والتبعية
لذلك ركز الأئمة (عليهم السلام) وخصوصا الإمام علي (عليه السلام) على قضية الجهالة، لأنه كانت هناك عملية تجهيل مستمرة للمجتمع من قبل الحكومات الفاسدة والمستبدة أجل ترسيخ السيطرة والهيمنة، وإيقاف أي نهضة معرفية لتحرير للإنسان.
فعن الإمام علي (عليه السلام):
(وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَلَيْسَ بِهِ فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلَّالٍ وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ- وَقَوْلِ زُورٍ قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ وَعَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ يُؤْمِنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ وَيُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ يَقُولُ أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَفِيهَا وَقَعَ وَيَقُولُ أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ وَبَيْنَهَا اضْطَجَعَ -فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ لَا يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ وَلَا بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ وَذَلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ)(3).
اقتبس في اللغة، هو الشعلة من النار، تؤخَذ أو تُقتبَس من النار تسمى (قبس)، وكان الناس سابقا في الإضاءة يعتمدون على النار، والمسافر في الصحراء يبحث عن ذلك القبس الذي يضيء له الطريق في الصحراء المظلمة، ويصل به الى غايته، ولابد لهذا القبس ان يكون متوقدا دائما ولا يجوز أن ينطفئ حتى لا يتيه المسافر في عمق الصحراء، وقد وصف الإمام علي (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله:
(حَتَّى أَوْرَى (الرسول) قَبَسَ الْقَابِسِ وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالْآثَامِ)(4)، وفي رواية ثانية: (حَتَّى أَوْرَى قَبَساً لِقَابِسٍ وَأَنَارَ عَلَماً لِحَابِسٍ)(5).
الخابط: هو الذي يسير ليلاً في الظلام على غير هدىً، الحابس: هو الذي حبس ناقته حيرة لا يدري أين الطريق، فقد كانت العرب تضع النيران في رؤوس الجبال للإشارة إلى الطريق في اللّيل ليستنير بها المتحيّرون من القوافل.
فالمقصود من ذكر هذه الروايات ان الاقتباس من غير المصدر الأصيل يؤدي الى الجهالة، فالتبعية الحضارية معناها الاقتباس من الغير، وليس من المصدر الأساسي، فعندما لايتم أخذ القبس من مصدره وهم أهل البيت (عليهم السلام)، يصبح المقتبس كالخابط السائر في الليلة الظلماء على غير هدىً، وكالحابس حائرا لا يدري أين الطريق.
وهذا المعنى مجازي، ومعناه الطريق المستقيم الذي يهتدي إليه الإنسان حتى يصل إلى السعادة والعاقبة الحسنة، والنور تعبير عن الهداية، والا فإن الإنسان الذي لا يقتبس من قبس العلماء، فإنه سوف يقتبس من الجهلاء المزيد من الجهائل، فيبقى يعيش في دروب الظلام ومتاهات الظلمات.
وقول الإمام علي (عليه السلام): (فاقتبس جهائل من جهال وأضاليل من ضُلّال)، يعني بأن هذا الذي يقتبس الأوهام والضلالات سيبقى يعيش في الظلام، ولن يجد ذلك الطريق المنير الذي يوصله إلى الرشاد، بل انه كذلك سيمارس تجهيل غيره، لذلك قال (عليه السلام) جهائل ولم يقل جهالة، لأن طبيعة الجهالة انها تتراكم فتنتج جهالات، تبدأ من الجهالة الأولى ثم الثانية والثالثة حيث يصعد البنيان الاعوج للجهل ويصيح مصدرا للتضليل والانحراف، وذلك هو معنى أضاليل من ضُلّال.
فالضلال من خطوة أولى في طريق الضلالة تتبعها خطوات أخرى مشكلّة مجموعة من الأضاليل المتوالية، يحسبها حقائق ولكنها أوهام، تترسخ في العقل الجمعي.
ومن هنا يمكن ان نعرف ارتباط الجهالة مع حيرة الضلالة، فعبارة (وأنار علما لحابس)، والحابس هو الذي يقف في مكانه ولا يستطيع أن يذهب إلى أي مكان، حبس ناقته ينتظر حتى يرى الطريق من خلال نور القبس، وطالما لا يوجد نور ليست هناك حركة، فهو محبوس في مكانه ينتظر من يشعل له النور.
فالجهالة والأضاليل تبقي الإنسان محبوسا في مكانه، فهو حائر محتار في حيرة مستمرة، والحيرة في اللغة تعني الإنسان الذي يبقى في مكانه ويدور ويحور حول نفسه، فهو محتار ضال تائه، لا يدري ماذا يفعل وإلى أين يذهب، هل يمضي يمينا أم شمالا؟
لذلك عندما بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشعل القبس كي ينير الدرب ويخرج الناس من حيرة الضلالة.
حيرة العالم من المستقبل
ان العالم في مختلف فترات الزمن التي مرت بها البشرية وخصوصا عالم اليوم، عندما لم يعمل بوصايا الأنبياء وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، تجده يدور حول نفسه، يعيد تكرار أزماته ومشكلاته، يعيش في حيرة دائمة متلبسة بالشك غارقة في الريب، يعيش القلق والخوف مما هو قادم في المستقبل.
وهذه الأمراض النفسية التي تصيب الناس وأصبحت كالوباء، سببها الرئيسي القلق من الغد، وهذا القلق هو نتاج لحالة الحيرة، ولا يعرف الى أين يتجه، فهو يفتقد بوصلة الإيمان، وليس لديه نور يهتدي به نحو سبيل النجاة، ليس عنده ركن وثيق يستضيء بنوره فيلجأ إليه، لذلك هو ضال تائه دائما.
وكلما بقيَ الإنسان على هذه البنية المتحجرة من الضلال فإنها تزيده بعدا عن النور، ويزداد سعيه للعثور على الحلول، ولكن على ظلامية منهج الضلال، فيتراكم المنهج الخاطئ ويستمر بالتراكم الاعوج، إلى أن يصل مرحلة من الانهيار التام، وهكذا تنهار الأمم والمجتمعات في التاريخ، وتهلك الحضارات، وهذا معنى كلام الإمام علي عليه السلام: (وذلك ميّت الأحياء)، فإنها تموت من الضلال، فالضلال يقود الناس إلى الهاوية وإلى النهاية السوداء، وفي القرآن الكريم هناك آيات توضح كيف تنهار الأمم بسبب ضلالها وانحرافها.
(وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا)الكهف59.
لذلك الاقتباس المنجي للإنسان، والشعلة التي يستضيء منها نور العلم، هم أهل البيت (عليهم السلام)، الركن الوثيق للمجتمعات التي تسعى نحو الأمان.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (لو اقتبستم العلم من معدنه، وشربتم الماء بعذوبته، وادخرتم الخير من موضعه، وأخذتم الطريق من واضحه، وسلكتم من الحق نهجه، لنهجت بكم السبل، وبدت لكم الأعلام)(6)، بمعنى يكون طريقكم واضحا دائما، ولا توجد عندكم حيرة، ولا خوف ولا قلق، ولا أضاليل وجهالات، كل شيء يكون واضحا لكم وهذه هي سنة الحياة.
وعلى سبيل المثال فإن الإنسان الناجح هو الذي سلك الطرق الصحيحة للوصول الى النجاح، أما الفاشل فإنه سلك الطرق والسبل الخاطئة، وبقيَ مصرّا على ارتكاب نفس الأخطاء، بل دائما تجده يبرر أخطاءه، ولايقبل من ان يصلح عيوبه ويرفض نصيحة الناصح، مما يؤدي إلى تراكم العيوب والأخطاء، إلى أن يصبح الفشل مستحكما به، بينما العاقل هو الذي يراجع نفسه، ويصحح أخطاءه فيصبح ناجحا.
اضاليل النسبية
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (شرقا وغربا لن تجدان علما صحيحا إلا شيئا يخرج من عندنا أهل البيت)(7)، فالصراط المستقيم هو واحد، والحق واحد لا يمكن أن يُجزَّأ، ومن يجزأه فانه يكون من الأضاليل، مثل الذي يقول ان الحقيقة نسبية أي ان كل الافكار الأديان والجماعات هي حق، ولا يوجد شيء اسمه باطل، وهذه الحقائق النسبية ليست الا مجموعة من الأضاليل، وإلا كيف يصح مثل هذا الكلام، والا لكان واحد زائد واحد يساوي ثلاثة، وأن ليس هناك قوانين ثابتة في الحياة، واذا لم يكن هناك حق وباطل، يصبح العدل والظلم نسبيان بحسب مزاج كل شخص، وهذه النسبية هي الفوضى بحد ذاتها التي تقود نحو الظلمات التي تزرعها الاضاليل النسبية.
لذلك لابد من التمسك بالصراط المستقيم، الذي اورى أهل البيت (عليهم السلام) القبس اليه، فهم معدن الحقيقة والنبع الحقيقي للماء الصافي الزلال الذي يسقينا بالقيم الصحيحة، والتي تجدها في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، وفي كلماتهم حيث الحصول على العلوم العظيمة والوصول إلى الرشاد. فلن تجد علما صحيحا إلا ما يخرج من عندهم أهل البيت (عليهم السلام).
من هو الجاهل، وكيف نعرف من هو العالم؟
وقد يتساءل البعض كيف يمكن معرفة من هو الجاهل؟ وما هي المواصفات التي يمكن استكشافها فيه وتمييزه عن العالم، وفي هذا الاطار هناك مجموعة من الضوابط في الآيات القرآنية، وروايات أهل البيت عليهم السلام، التي تصف الجاهل، فمن هو الجاهل، ومنها:
أولا: الجاهل هو المخدوع بالأهداف
عن الإمام علي (عليه السلام): (الْجَاهِلُ مَنْ خَدَعَتْهُ الْمَطَالِبُ)(8)، المطالب هي الأشياء التي يطلبها الإنسان وعلى ضوئها تتشكل أهدافه في الحياة، ولأن النفس أمارة بالسوء وتطلب المزيد، فإن المطالب لاتقف عند حد معين، وتصبح اهدافه شخصية وذاتية بحتة تتمحور حول معيشته الخاصة دون أن يكون عنده غايات سامية، فينحصر في متطلبات المادة والسلطة والشهرة وكل ماهو مرتبط بالشأن الذاتي، وهو يحسب ان هذه المطالب هي الغاية التي ستحقق له السعادة، لكنها تخدعه لأنه جاهل لايدرك الغايات الكبرى التي تتناسب مع كونه انسانا، اما العالم فهو يتعقل المطالب التي توصله الى الغايات الكبيرة، بل من خلال معرفة الغايات الكبيرة يصل إلى المطالب الحقيقية، التي تشكّل أسلوب حياته في التعامل مع الأشياء التي تتمحور حول معيشته، ومن خلال ذلك الارتباط السليم بين الغايات والمطالب يمكنه رسم الأهداف السليمة.
وهناك فرق بين الأهداف والغايات، فالأهداف تكتيكية مرحلية، والغايات كبرى ترتبط بفلسفة وجوده في الدنيا والآخرة.
وعلى سبيل المثال، هناك فرق بين الذي يدرس العلم من أن أجل أن تكون له فقط وظيفة يسترزق منها، وبين الذي يدرس العلم حتى يخدم الناس وينشر الإصلاح في المجتمع، فالاول يعيش في الإطار الضيق للمطالب بما هي معيشة مادية ضيقة.
بينما الثاني الذي تكون غاياته فيها فائدة ونفع للمجتمع بشكل عام، فإنه سوف يحصل على ماهو اعظم من مطالب مادية ضيقة، بل يكبر حجم حياته ويتعاظم بازدياد قوة غاياته، فمن يعيش من أجل الآخرة، فإنه يربح الدنيا والآخرة. وعلى العكس من ذلك من تكون مطالبه اكبر من غاياته لاينال مطالبه بالإضافة الى انه قد ضيع الغايات، لان طبيعة المطالب هي دنيوية فتكون ضعيفة وهشة لا تملك في داخلها حيوية الاستدامة والبقاء، فالإنسان في الدنيا هو مجرد مسافر في رحلة قصيرة، إلى مكان معين للاستجمام، هذه السفرة ستكون مجرد متطلب محدود، لن يجد فيها السعادة المطلقة، وإنما هي سعادة قصيرة ورفاهية بسيطة، واستجمام عابر وينتهي بانتهاء السفرة، لأن الرحلة الأهم في حياة الانسان هي السفر الى الآخرة، فلذلك اذا كان هدف الإنسان هو الدنيا فإنه لن يجد السعادة في متطلباتها، بل يكون في حالة من الضنك والتعب والضيق والتعاسة، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)طه/124.
العلاقات المخادعة
وعن الإمام علي (عليه السلام): (مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ الْحَيَّةِ لَيِّنٌ مَسُّهَا وَالسَّمُّ النَّاقِعُ فِي جَوْفِهَا يَهْوِي إِلَيْهَا الْغِرُّ الْجَاهِلُ وَيَحْذَرُهَا ذُو اللُّبِّ الْعَاقِلُ)(9)، الغر الجاهل هو الذي يخدعه جهله فيتعجل الوصول إلى المطالب التي يقودها طمعه، ومن يخدعه جهله هو من لم يتعلم جيدا ويفتقر للمعلومات بسبب أميته ولم يتعلم من تجاربه فتكون له حكمة يتجنب فيها المخاطر.
هذا المخدوع بنفسه يكون لقمة سائغة لما لايحذر منه مثل لدغة الحية، أما العاقل فهو يعرف بأن الدنيا فيها أخطار كبيرة فيتجنبها.
وعن الإمام (عليه السلام): (إن قلوب الجهال تستفزها الأطماع، وترهنها المنى، وتستعلقها الخدائع)(10)، فالجاهل يحرك قلبه الطمع، ويصبح هذا القلب مرتهنا لأمنياته، فيكون قلبه منزلا لكل ما يخدعه، فيكون متطلبا للمزيد من الدنيا، وكل ما ازدادت متطلباته ازداد جهله، فمن تكون علائقه دنيوية تكون مطالبه ضيقة في افق محدود، فيبقى على جهله، واذا بقى على جهله تصاعدت مطالبه الضيقة المغرقة في تجهيله، فتستحكم به الجهالة.
مجتمعات الجهالة
ان المجتمعات التي تتمركز فيها الجهالة تكون مجتمعات يحكمها الثلاثي المعروف (الجهل، والفقر، والمرض)، وهو ثلاثي مترابط فيما بينه، اذا وجد أحدها وجد الآخران.
فالجاهل يستولي عليه الفقر مادام جاهلا، بسبب ضيق أفقه ومحدودية تفكيره، كذلك الامر عندما تكون المطالب دنيوية يكون في حالة جهالة حتى لو اغتنى بالأموال لأنها ليست لها قيمة حقيقية، لأنه يكون فقيرا نفسيا، أما المطالب الأخروية، فإنها تعطيه قيمة حقيقية في ذاته ونفسه سواء امتلك الثروة والمال ام لم يمتلك، فالعلائق المادية والدنيوية لاتعطي قيمة للإنسان حتى لو تعاظمت، فما يعطي للإنسان قيمة هو العقل والعلم والمعرفة والأخلاق والايمان والتقوى التي توجهه للسعي نحو غايات كبرى وهي الآخرة، وبهذا التوجه تنمو الذات، وتنصقل النفس، وتتوسع دائرة العقل في الدنيا.
ثانيا: الجاهل هو المغرور
بعض الناس الذين يعيشون في غمرة الحياة المادية، تستحكم بهم الجهالة، وتنغلق قلوبهم على تلك الجهالة، ومنهم المغرور بنفسه أو بعلمه أو بأمواله، أو المغرور بوجوده في الدنيا، فهو مغرور في كل شيء، تتحكم به حالة من النرجسية الذاتية، فيرى نفسه أنه فوق كل شيء، لا يحتاج إلى التعلم، ولا تهمه المعرفة، غني عن الآخرين.
وعن الامام علي (عليه السلام): (الجاهل من انخدع لهواه وغروره)(11)، وكلما اتبع هواه لتغذية غروره ازدادت جهالته، فإن هذا الذي يتسمى عالما وعلمه يكون قبائس جهائل من جهال تختزن في مضامينها الاضاليل، فإنها يضع في طريق الناس مصائد وافخاخ لتضليلهم وحصرهم في دوائر من الأوهام الخادعة، التي تكون في طبيعتها متزايدة في خلق المزيد من الأوهام، وهذه هي طبيعة الوهم انه لايملك أرضية راسخة لذا يحاول أن يخلق وهما آخر يستند عليه، وهكذا دواليك.
ولذلك فمن هو مغرور بنفسه وعلمه و"يحسب نفسه عالما" وهو غارق في الجهالة، ينصب أشراكا للناس بكلمات منمقة تستولي على عقولهم، فيغرّهم من هو مغرور، ويخدعهم من هو مخدوع بنفسه، وهكذا شخص يقود الناس إلى الهاوية في الدنيا قبل الآخرة، لذلك قال (عليه السلام): (وَعَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ يُؤْمِنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ وَيُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ).
الفرق بين الجاهل والعاقل
وعن الإمام علي (عليه السلام)، وهو يصف الفرق بين الجاهل والعاقل: (وَقِيلَ لَهُ صِفْ لَنَا الْعَاقِلَ فَقَالَ (ع): هُوَ الَّذِي يَضَعُ الشَّيْءَ مَوَاضِعَهُ فَقِيلَ فَصِفْ لَنَا الْجَاهِلَ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ)(12)، فالجاهل هو الذي لا يضع الأشياء في موضعها، وقد ذكره (عليه السلام) مقابل العاقل وليس العالم، لأن العالِم لابد أن يكون عاقلا، أما العالِم الذي ليس عاقلا فهو جاهل، فمن يتفلسف ويتكلم ويضع نظريات لكنها ليست في موضعها، وليس فيها حكمة، وليس فيها هدف، بل الهدف هو أن يصنع له جمهورا كبيرا كي يقوده كما يشاء، وذلك ليثبت نفسه وشهرته، ويحقق غروره، والغرور يجعل منه نرجسيا لا يهمه الفرق بين الحق والباطل، والعدل الظلم، والهداية والضلال، والواقع والوهم، بل يفكر في نفسه فقط فهو الحق بغروره، لذلك يقود الناس إلى الجهائل المستترة بأشكال علمية مختلفة ومنمقة.
المغرور المنحرف والعاقل الحقيقي
ولكن كيف نعرف الفرق بين هذا الجاهل المغرور المنحرف، وبين العاقل الحقيقي؟
عن الإمام الكاظم (عليه السلام): (وجدت علم الناس في أربع: أولها أن تعرف ربك، والثانية أن تعرف ما صنع بك، والثالثة أن تعرف ما أراد منك، والرابعة أن تعرف ما يخرجك من دينك)(13).
وهذا التسلسل منظومة حياتية ومنهج متكامل للخروج من حالة الجهالة وحيرة الضلالة.
1- أولها أن تعرف ربك، وهو التوحيد الذي ان عرفه عرف الأسباب التي تحرك الحياة، وتعلق بمن أمر الله عزوجل بطاعتهم واتباعهم.
2- أن تعرف ما صنع بك، وهو شكر المنعم، فمن لا يشكر لايعرف قيمة النعم وكيف يتعامل معها.
3- أن تعرف ما أراد منك، وهو التكليف والمسؤولية والعمل السليم بالإرادة الحرة.
4- أن تعرف ما يخرجك من دينك، وهو معرفة العقائد المنحرفة ومعرفة العقائد السليمة، بحيث يكون قادرا على تمحيص الشبهات التي يثيرها الآخرون، ويستوعب الشكوك التي تواجهه في صراع الايديولوجيات.
وهذه القواعد الذهبية المتسلسلة توجب ان يكون الانسان عالما، لأنها قواعد مترابطة لايمكن الانفكاك بينها، فمن لايعرف التوحيد لايشكر المنعم، وهو امر يستقل العقل بإثباته، فاذا قدم له المخلوق خدمة او قضى له حاجة فالعقل يأمره بالشكر، فكيف بالخالق الذي انعم بكل هذه النعم.
والذي لا يشكر هو المتبطّر، والكثير من المجتمعات والامم والحضارات سقطت بسبب بطرها، فالبطر يؤدي إلى الطغيان، والطغيان يؤدي الى الكفر، والكفر يؤدي الى الانهيار، كما في عالم اليوم حيث التكنولوجيا المتقدمة والرفاه الاستهلاكي جعلت البعض يشعر بالاستغناء عن الله سبحانه وتعالى، وانفجار الاوهام النرجسية بالوصول الى نهاية التاريخ واستبدال الإله، وهو الطغيان الذي يؤدي الى التدمير الشامل ببطء وفي أوقات بسرعة.
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) القصص/58.
لذلك لابد على الإنسان أن يتمسك بهذه القواعد العقائدية المتسلسلة، حيث الاعتماد على بنية عقائدية لبناء العلم السليم وعدم الوقوع في وديان الجهالة والضلالة، فإذا اختلّ أحد هذه الأمور، سيصبح جاهلا ويهوي من المنحدر.
ثالثا: الجاهل هو العاصي
الجاهل هو المذنب الذي يرتكب المعاصي ويستهين بها، فهو جاهل بتموجات المعصية حين يتوهم أن المعصية التي نهاه الله سبحانه وتعالى عنه ليست بذات ضرر، بل فقط لان الله سبحانه وتعالى نهاه عنها وعن المعاصي الأخرى، ويستهين بان الله تعالى ينهاه عنها من أجل مصلحة لهذا العاصي، فالمعاصي في طبيعتها تكون مدمِّرة للإنسان، فهذه المعاصي اذا ارتكبها المذنب تؤدي الى تآكله الذهني، وتبدأ بملأ قلبه بالنكات السوداء، فالذي لا يعرف معنى المعاصي ولا يهتم بها، ويستهين بها، فهو في قمة الجهل ومصيره السقوط في وادي الجهالة السحيق.
ومن صفاته انه غالبا ما تجده يجادل الآخرين في القضايا العقائدية والاحكام الشرعية، ولجهله يظن بأن كل شيء مباح، وان المعاصي هي مختلقة من قبل المتشرعة، لذلك فالعاصي هو جاهل، حتى لو كان عالِما.
وفي الآية القرآنية الكريمة: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) الزخرف 54. فالعبودية للظالم والمستبد تنشأ من ارتكاب المعاصي، فإذا استهان افراد المجتمع بالمعاصي استخف الحاكم الطاغية بهم مستغلا فسادهم بالمزيد من الافساد والاستخفاف بهم، وكلما يدخل المجتمع في عالم الفسق والفجور والمعصية يصبح مجتمعا هشًّا مريضا، في أخلاقه ونفسه، فيصبح سهل الانقياد للطاغوت، وهو معنى التبعية، ومايؤدي الى الجهالة وحيرة الضلالة.
الانبهار الاعمى بالباطل الجميل
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن الجاهل من عصى الله وإن كان جميل المنظر عظيم الخطر)(14)، ويمكن ملاحظة بعض الدول التي لها سطوة وتملك قوة عظمى، ولها هيبة وشكل، وتحمل خطرا عظيما، وقوة ضاربة وأسلحة فتاكة، فالإنسان ينبهر بهذه المظاهر، ولكنها في باطنها منغمسة في وحل المعاصي.
فهم يرتكبون شتى أنواع المعاصي مثل الربا والقمار والزنا وشرب الخمر، فهي مجتمعات مدمَرة من الداخل متآكلة في باطنها خبيثة الجوهر وان كانت متزوقة في المظهر، لذا علينا أن لا ننبهر بهكذا مجتمعات ترتع بالضلال، وأن لا ننبهر بالتقدم التكنولوجي والمادي لهذه الدول، فهي تعيش الجهالة في اعماقها. فإن الجاهل إذا عصى وإن كان جميل المنظر فإنه يبقى هشًّا ضعيفا مريضا يعيش الحيرة والبؤس وانغلاق الآفاق الرحبة للحياة السعيدة وخفوت تطلعاته للغايات السامية. فالمجتمعات المتماسكة والسعيدة، هي المجتمعات التي لا ترتكب المعاصي.
وللبحث تتمة...