انتخابات مجلس النواب والصناعة النمطية

القاضي سالم روضان الموسوي

2025-11-16 01:43

في كل دورة انتخابية نجلس لنراقب المشهد عسى ان يتغير فيه الحال، الا انه وعلى جري العادة ينتهي الى تكرار القوى والوجوه وكثيرا ما يؤدي الى التشظي بين القوى التي يوحدها عنوان عام واحد والسبب في ذلك هو الرغبة في الوصول الى كرسي السلطة والتحكم بمقدرات الشعب والامر والنهي.

الا ان الملفت للنظر ان على مدى تجربتنا الديمقراطية الحديثة منذ عام 2005 ولغاية الان، ومع تطور فهم الناخب العراقي، واتساع رقعة الثقافة الانتخابية والبرلمانية لدى عامة الناس، وتصدي جمع من الكفاءات الوطنية المؤمنة بوحدة العراق وشعبه ونبذ الظلم والديكتاتورية، الى المشهد الانتخابي، الا ان تلك الوجوه لا تقوى على الوصول الى مقاعد مجلس النواب، الا إذا كانت تحت عباءة قوى تهيمن على المشهد بحكم الأموال التي تحصلت عليها عبر منافع السلطة.

ومن الأمثلة على ذلك النائب (الدكتور رائد المالكي) الذي لا اتفق مع جميع ما تقدم به خلال عمله النيابي، بل اصل معه الى حد التعارض والتقاطع، لكن كان نائباً نشيطاً ومؤدياً لمهامه النيابية بشكل سليم وكان يتلمس حاجة الناس الى التشريع، وكان يدرك ان مهمة التشريع هي الأولى في أداء مهامه فضلا عن الدور الرقابي، وعندما وصل الى المقعد النيابي في حينه كان بعنوان مستقل، وكان لهذ الاستقلال اثر كبير في عمله الناجح والوطني، وفي هذه الدورة الانتخابية السادسة، واعتزازا بنفسه وتأكيدا لاستقلاليته في فكره وعمله قدم نفسه مرشحاً منفرداً مستقلاً عن أي من القوى المهيمنة، وفعلا حقق من الأصوات ما يعد نجاحاً كبيرا في ظل حجم الدعاية وهيمنة القوى الكبرى، حيث بلغ عدد الأصوات التي حصل عليها (12000) اثنا عشر الف صوت وحل سابعاً فيها ومتقدما على بعض القوى والتحالفات الأخرى، لكن لم يوفق الى مسعاه في نيل المقعد النيابي.

هذا المثال هو دليل على ان صناعة مجلس النواب، واقولها مجازاً، بان صناعة المجلس تكون عبر خط انتاج نمطي، واقصد به ان هناك قوالب معينة مصممة على انتاج نوع معين من النواب، لا يمكن ان ينتج غيره، مهما اختلفت نوعية المادة الأولية او طريقة مزجها او صبها في القالب، لان العبرة للقالب الذي سيعطي الشكل النهائي للمنتج، وقولي هذا عن تجربة عندما كنت صغيرا وكنا نعمل في تجارة المفرد واذهب مع والدي الى بعض المعامل لأشاهد كيفية انتاج هذه الكميات الكبيرة من نوع معين وبسرعة قياسية، حتى لاحظت ان جميع التغييرات في المواد الأولية او في طريق ضخها الى الماكنة او في نوعية العامل، فإنها سوف لن تعطيك الا النوع الذي حدده القالب النهائي للإنتاج.

 وبما ان قالب الإنتاج لمجلس النواب هو القانون والمطبق له والمنفذ، فان أي تغيير في آليات الإنتاج سواء بتغيير المفوضية او بتغيير العاملين فيها، فإنها لا تأتي الا بالنمط المطلوب بالقالب المعتمد، وفعلاً كم عملية تغيير حصلت في المفوضية وكم استبدلنا فيها، وكم انفقنا عليها، الا ان القالب واحد، والإنتاج واحد، وهي ذات القوى المهيمنة على المشهد، واذا تعرض كيانها الى الخطر، فإنها تتحد ثم تتصارع على نيل مراكز القوى.

ومع الأسف حتى ان القوى الساندة للعملية الانتخابية، كانت ومازالت تسير في ظل هوى تلك القوى، ولاحظنا في الدورة الانتخابية التي شارفت على الانتهاء، كيف أثر قرار المحكمة الاتحادية العليا في اختيار رئيس الجمهورية ومن ثم أدى الى تعطيل تشكيل الحكومة، بل أدى الى اقصاء كتلة تمكنت من الحصول على اكثر من سبعين مقعداً بمفردها دون أي تحالف، مما أربك المشهد على من يهيمن على الحكم، فتنادت جميع القوى المشتركة الى الوقوف بوجه هذه الكتلة وعبر جميع الوسائل، لمنعها من الوصول الى مسعاها، ونجحت.

واليوم المشهد يتكرر ولن يختلف المسار وسيبقى عنوان الفساد ظاهرا وطاغيا على المشهد وسيبقى المواطن في عزوف دائم، اما ارقام المشاركة مهما كبرت فإنها لا تمثل الطموح، لان الذين يحق لهم التصويت والمشاركة بالانتخابات اكثر من عشرين مليون شخص، والذين شاركوا في التصويت نصف هذا العدد، وهو مؤشر على ان القناعة في المشاركة غير متوفرة لدى نصف الذين يحق لهم التصويت، والسبب هو النظام الانتخابي والآلية المتبعة فيه، وعند الدخول في التفاصيل سوف تجد نسبة المشاركة في منطقة الوسط والجنوب اقل بكثير من ثقلهم الانتخابي الحقيقي.

لذلك لابد من تغيير أسلوب ادارة الانتخابات من النظام الحالي الى نظام يضمن للمواطن ان صوته لن يجير الى غير من صوت له وان يمنح فرصة اختيار اكثر من مرشح حتى لا يضطر للعزوف عن المشاركة، لان القانون النافذ يلزم الناخب بان يصوت لمرشح واحد فقط، بينما في كل محافظة عشرات الشخصيات المستقلة التي لها قدرة على التغيير في حال وصولها بكثافة الى قبة البرلمان.

اما الاعذار التي يتعلل بها البعض فهي واهية، حتى ان بعضهم حاول اسكات كل صوت ينادي بالتغيير الى الأفضل، تحت عنوان حماية المؤسسات وسمعتها وقدسيتها، مع ان تلك الأصوات تنتقد العمل ولم تتجه الى نقد المؤسسة، او ان البعض جير المؤسسة له ووظف كل السلطات لحمايته ومنع التعبير عن الرأي.

وفي الختام أقول ما قاله الشاعر الجاهلي عمرو الباهلي:

(إِذا أَنتَ لَم تَجعَل لِعِرضِكَ جَنَّةً... مِنَ الذَمِّ سارَ الذَمُّ كُلَّ مَسيرِ)

* قاضٍ متقاعد

ذات صلة

العلاقات العراقية–الصينية.. نحو شراكة استراتيجية في المجال التنموي والاستثماريالمواطن العراقي ودوره لما بعد صندوق الاقتراعمدينة تغرق قبل أن تُمطر… من يحاسب الأمانة؟كيف نبني عقلًا يُفكر بحكمة ويرى بشمول ويعمل بصدق؟التفاوت الطبقي وتضخم ثروات الأغنياء يهدد الاستقرار العالمي