من يهدد حرية التعبير؟
محمد علي جواد تقي
2025-12-27 04:54
هو مطلب انساني عفوي نابع من الفطرة الإلهية وغريزة التعبير عن الذات منذ نعومة الأظفار بطرق مختلفة تبدأ من الإشارة ثم الكلام تعبيراً عن الحاجات تارة، وفي مرحلة لاحقة عن الافكار والتصورات والقناعات تارة أخرى، ودائماً قيل أن السلامة النفسية مرهونة بتوفر القدرة على التعبير عما يجول في الخاطر، وما يكنّه القلب من مشاعر، بالمقابل يدين العلماء، الكبت كأحد أبرز اسباب هزيمة الافراد والمجتمعات أمام التحديات في الحياة.
وبما أن سلطة الدولة، بيدها القدرات الهائلة، من مال وسلاح وشرعية سياسية بمختلف الطرق، فان أكثر اصابع الاتهام موجهة لها في ممارسة الكبت وقمع الحريات، ومنها حرية التعبير، وهذا الزعم المسنود بحقيقة الصراع الدائم بين الحكم ومعارضيه، يغيب دوراً مؤثراً في هذا المضمار من الواقع الاجتماعي الذي تتحرك فيه عوامل تهديد لحرية التعبير، إنما تغيب عن الانظار الآثار المحسوسة والعميقة لهذا التهديد، بخلاف الآثار الواضحة لقرارات السلطة السياسية بتقييد وسائل الاعلام –مثلاً- او حظر التجمعات والهيئات، او فرض رقابة على النشر، وهذا بحد ذاته يثير حفيظة المؤسسات الاجتماعية والثقافية فتتوحد جهودها في همّ واحد وهدف مشترك لمواجهة تحدي السلطة السياسية.
حرية التعبير حقٌ من الصِغر وحتى الكِبر
إنه حقٌ طبيعي ولكن مشكلته أنه غير مكفول اجتماعياً لاسباب؛ ربما تعود الى التقاليد، او الى تراكمات نفسية عند الآباء بسبب ظروف الحروب مع الخارج، أو قمع السلطة من الداخل، إلا اللهم تحصل مبادرات من داخل الأسرة، وهي المجتمع المصغّر الذي يربي أفراده على طباع وثقافات مختلفة، والحلقة التربوية الأكبر؛ المدرسة والجامعة، ثم ميادين العمل في كل مكان، وحتى المؤسسات الثقافية، كلها ذات تأثير بالغ على إحياء حرية التعبير او قتلها.
فالطفل الصغير يتعرض داخل أسرته الى لجم لمحاولات التعبير عن مشاعره البسيطة، فضلاً عن افكاره وهمومه، بدعوى عدم أهليته للتكلم بما يتجاوز حدود كيانه الفسيولوجي، وما يتطلبه من طعام ومنام، ثم مستلزمات الدراسة وبعض الاحتياجات اليومية، أما السؤال عن العقيدة والتاريخ، وما فيهما من استفهامات، وايضاً؛ طريقة تعامل الكبار معه، وحتى ترتيب الاثاث، فانه يُعد عن البعض –وليس الكل- نوعاً من "اللغوّة الزائدة"، والتدخل فيما لا يعنيه.
أما في المراكز التعليمية بشكل عام، فان رأي الطالب في اسلوب التدريس، او طريقة التعامل مع الطلاب، نوعاً من التطاول والتشكيك بقدرة المدرس او الاستاذ الجامعي على أداء دوره، وفضح جهله وقصوره العلمي والثقافي.
هنا نكون أمام مبدأ "نفّذ ثم ناقش في المحيط التربوي والتعليمي، فلا مجال للتصحيح، او الاعتراض، وإن كان صائباً، مما يصيب عملية نمو شخصية الطفل والشاب بحالة من العوق النفسي، يجد أن وجوده غير ذي أهمية لدى الكبار المتنفذين، فضلاً عن الحاجة الى آرائه و افكاره.
أما الحلقة الأكثر خطورة في تهديد حرية الرأي والتعبير تتمثل في بعض المؤسسات الثقافية والاعلامية المفترض أنها تكون حلقة الوصل بين سياسات الدولة وهموم ومطالب المجتمع، وان تكون ضميره المتكلم والمعبّر عن أفكاره، لاسيما ما يتعلق بالقضايا المصيرية مثل العدالة، والحرية، والهوية، والعقيدة، فأنها تشكو احياناً من عجز في استيعاب بعض الافكار التقويمية والإصلاحية من العاملين لديها، ربما السبب يكون في اعتقادها –اعتقاد المشرفين تحديداً- أنها تمتلك اليقين بالحقانية والصواب في سياساتها وافكارها، وهذا يضعنا امام مفارقة محزنة حقاً، بأن نلحظ فقدان المصداقية لدى مؤسسات تدّعي الدفاع عن حرية التعبير والرأي في عالم السياسة، فيما هي تشرّع لنفسها تحديد هذه الحرية في عالم الفكر والثقافة.
بلى؛ ثمة معايير واضحة تحدد صحة او سقم الفكرة، أبرزها معيار الحق المطابق لفطرة الانسان، وهو ما جاءت به الرسالات السماوية، والرسالة الخاتمة، متمثلة بالإسلام، بنبيه الأكرم، وكتابها المجيد، والسيرة العملية للمعصومين، عليهم السلام، وقد نبّه الى هذه الحقيقة، أمير المؤمنين، عليه السلام، لتحديد المسار الفكري الصحيح بأن "أعرف الحق تعرف أهله". فهو جسّد حرية الرأي في عدم إجبار عدد من الاشخاص مبايعته خليفة وحاكم أعلى للأمة، ولكنه لم يعط للبعض الآخر حرية الرأي عندما قرروا إشعال نار الفتنة والحرب لإراقة دماء المسلمين، وهو ما حصل في حرب الجمل.
الديكتاتور لا يخشى حرية التعبير!
اعتقد أن ثمة مبالغة ضخمت تهديد النظام السياسي لحرية التعبير، وأنها تشكل خطراً على حياته وحياة الزعيم، رغم أن دورها لا ينكر في كل الاحوال في صناعة الأرضية المناسبة للتغيير، بيد أن تجاربنا مع الديكتاتوريات –وما نزال- تؤكد سهولة تقييد هذه الحرية وقتلها عندما تكون شعاراً فئوياً خاصاً بجماعة معينة، او صوتاً إعلامياً، وليس ثقافة عامة بين افراد المجتمع، ولذا نرى سهولة تطبيق سياسة الترغيب والترهيب بتصفية هذا وشراء سكوت ذاك، وينتهي كل شيء دون تكاليف تذكر.
بل احياناً نجد حاجة هذا الديكتاتور الى هذه الحرية لامتصاص النقمة تارةً، ولتوفير بعض الشرعية لنظام حكمه، فيطلق حرية الصحافة في ميدان محدود لا يمسّ قمة السلطة ومنهج الحكم، فتتحدث عن الخدمات، والمشاريع الاقتصادية، وتشهّر بالفاسدين، وحتى تتوغل في متاهات الفضائح الصحيحة منها والمزيفة.
إن حرية التعبير تكون خطيرة على النظام السياسي الموبوء، وعلى الفاسدين، عندما يكون لقرار تقييدها أصداء في أوساط المجتمع المتابع لما تنتجه هذه الحرية من رؤى وأفكار، وإلا ما فائدة هذه الحرية لهذه المؤسسة الثقافية، او الاعلامية، او الصحفي، او المدون على الانترنت، اذا كان غيابها لا يعني شيئاً عند الجمهور، وإن كان، فإن مبررات التحديد تكون جاهزة او مسوّقة سلفاً من منابر السلطة، بدعوى أن المستهدف ساعٍ وراء الشهرة أو "الطشّة"، او الظهور السياسي "لزعزعة الامن والاستقرار".