الفصل الثاني: مقاصد الشريعة على مستوى المجتمع والحكومة
استثمار مقاصد الشريعة في الفقه والأصول والتقنين، (الفصل الثاني) (القسم السادس)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2022-04-13 07:08
المقاصد على مستوى الأمة
إن دراسة مقاصد الشريعة وتحديدها وتشخيص مستوياتها ودرجات أهميتها، أمر جوهري في تحديد الموقف العام في باب التزاحم في مختلف مفاصل الحياة، بل إن ذلك يعدّ من أعقد ما يواجهه كل إنسان في شتى أبعاد حياته، حيث قد تتزاحم الأضرار والمنافع، أو الأضرار والأضرار المضادة، أو المنافع والمنافع المقابلة عند المفاضلة والموازنة بين قرارين صعبين أو حتى عاديين في شأنٍ من شؤون الحياة، سواء في بعدها الاقتصادي أم الاجتماعي أم غير ذلك.
وبعبارة أخرى: إن مقاصد الشريعة تصلح أن تكون الموجّه والمرشد العام للأمة، حكاماً ومحكومين، والمرشد الذي يهندس لها حياتها في كيفية العِشرة والمعاشرة والتعامل مع الآخرين؛ وذلك على مستوى العشائر والأحزاب والاتحادات والنقابات، وفي الشركات والمؤسسات وفي الحكومة وغيرها.
والجامع في مقاصد الشرائع هو الرفق واللين والعدل والإحسان والسماحة، وفي الحديث: (مَا وُضِعَ الرِّفْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا وُضِعَ الْخُرْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا شَانَه) (167)، وقال (صلى الله عليه وآله): (بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَة) (168)، إضافة إلى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (169)، و: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (170).
وتلك هي القاعدة العامة في تعامل القيادات مع الأتباع والأعضاء والجماهير، بل وفي ما بين آحاد الناس، وعلى سبيل المثال: إذا دار الأمر بين أن يتعامل الزوج مع زوجته، أو الأب مع ابنه، أو المعلم مع تلميذه بالرفق أو العنف، (والمفترض هاهنا خصوص المرتبة الجائزة منه) كانت مقاصد الشريعة هي المرشد نحو ترجيح التعامل بالرفق، بل بمنتهى اللطف، بل حتى وفي سنّ القوانين.
ولذلك نجد الناس يحبون من يتعامل معهم برفق، ومن ينسى أخطاءهم ويصفح عنهم، فكما تحب أن يتعامل معك من هو فوقك بالرفق واللين فتعامل مع هو من دونك باللطف واللين كذلك، قال تعالى: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ) (171)، وذلك كله على مختلف مستويات طبقات الأمة.
المقاصد على مستوى الحكام والمسؤولين
إن مقاصد الشريعة، تؤسس لخفض، إن لم يكن تصفير، القيود والآصار والأغلال التي تضعها الحكومات عادةً على الناس، والتي قد تزيد حكومة منها أو تنقص بحسب شاكلتها، لكن الشاكلة التي تؤسس لها الشريعة الإسلامية هي تلك التي تعتبر من أهم أغراض بعثة النبي (صلى الله عليه وآله) ومن أولى مهامه، وكونه (يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (172)، والتي تنطلق من المقصد العام للشريعة وهو (الرحمة بالخلق)، ومن هنا نجد الشريعة تسمح للناس مثلاً بحيازة الأراضي وما فيها وما عليها بدون أي قيدٍ كابت أو إصرٍ لازم، إذ يقول تعالى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) (173)، و: (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) (174)، ويقول رسوله المصطفى (صلى الله عليه وآله): (الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا) (175)، وذلك على العكس من الحكومات.
والشاكلة النفسية ـ الفكرية المتولدة من الإذعان بمقاصد الشريعة، تثمر في الكثير من المجالات على مستوى علاقة الحكومة بالشعب، ونكتفي هاهنا بالإشارة إلى بعض تمظهراتها ومفرداتها:
أولاً: السياسة العامة تجاه الشعب
وفي تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده للأشتر ما يفي بالمقصود ويزيد، إذ يقول (عليه السلام): (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا "لِطَاعَةِ الرَّبِّ، وَ" (176) لِرِضَا الرَّعِيَّةِ؛ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا الْعَامَّةِ) (177)، (178).
و(أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ، وَاقْطَعْ عَنْهُمْ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ، "وَاقْبَلِ الْعُذْرَ.
وَادْرَأِ الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ" (179).
وَتَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَصِحُّ لَكَ (180).
وَلَا تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ؛ فَإِنَّ السَّاعِيَ "ظَالِمٌ لِمَنْ سَعَى بِهِ" (181)، غَاشٌّ "لِمَنْ سَعَى إلَيْهِ" (182)، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ.
وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ) (183).
(وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَالإحْسَانَ إلَيْهِمْ. "وَلاَ تُنِلْهُمْ حَيْفاً" (184) وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ.
فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ.
يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأ) (185) (186).
(فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ؛ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ؛ وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلَاكَ بِهِمْ) (187).
و: (فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِإِمَامِكَ، وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً، "وَأَجْمَعَهُمْ عِلْماً وَسِيَاسَةً" (188)، مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ؛ وَمِمَّنْ لَا يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ) (189).
وفي التعبير بـ (يستريح) لطف بالغ وحكمة كبرى؛ إذ يستفاد منه أنّ من المحبّذ ـ سيكولوجياً ـ أن يستريح المرء نفسياً من العذر الذي يعتذر إليه به مَن ظَلَمه أو آذاه أو أزعجه، ثم ينسى بعدها كل ما فعله ذلك الآخر (الصديق، الزوج، الزوجة، الشريك.. الخ) في حقه الشخصي، عكس ما يصنعه البعض حيث يتشددون في عدم قبول الأعذار متّهمين المعتذر، وواصفين اعتذاره بأنه تبرير بارد أو مرفوض، أو أنه عذر أقبح من ذنب.
والسبب واضح في حسن قبول الاعتذار؛ فإن الاعتذار دليل على إذعان المعتذر بقبح الكبرى والكليّ العام، ومجرد محاولة تبرير الصغرى والجزئي الخاص، وهذا أفضل بكثير ممن يرفض قبح الكبرى رأساً، أو يصرّ على العناد بتكرار ارتكاب الصغرى!، إضافة إلى أن قبول الاعتذار يعدّ من مقومات السلم المجتمعي، وقد قال تعالى: (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (190)، بناءً على بعض التفاسير للآية الكريمة.
ثانياً: كيفية تعامل السلطات مع المعارضة
وذلك برفقٍ وسعةِ صدرٍ انطلاقاً من منطلق الرحمة واللين، كما تعامل الإمام علي (عليه السلام) مع المعارضة، وفسح لها المجال لإبداء الرأي وتنظيم المظاهرات، بكل حرية، وهذه بعض الشواهد والأدلة:
ـ (إِنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ الْكِنْدِيَّ بَنَى فِي دَارِهِ مِئْذَنَةً فَكَانَ يَرْقَى إِلَيْهَا إِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ (191) فِي مَسْجِدِ جَامِعِ الْكُوفَةِ فَيَصِيحُ مِنْ عَلَى مِئْذَنَتِهِ يَا رَجُلُ إِنَّكَ لَكَاذِبٌ سَاحِرٌ) (192)، والمنارة في ذلك اليوم كالإذاعة في هذا اليوم، وكان يرتقيها ويسب الإمام علياً (عليه السلام) علناً، وعندما أراد أصحابه هدمها أو منعه، ردعهم الإمام عن ذلك وقال ما مضمونه: أليس قد بناها في بيته؟
ـ وكان (عليه السلام) يرى عدم مشروعية صلاة التراويح جماعةً، ولكنه سمح بخروج المظاهرات المعارضة لهذا القرار، ثم بعد ذلك قال ما يستفاد منه: بأن مسؤوليته أن يبين الحكم الشرعي وأن يسنّ القانون، وأما تنفيذه بالقوة فلا (193).
ـ وجاء في كتاب المناقب: (وَكَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ مِنْ خَلْفِهِ : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)، فَأَنْصَتَ عَلِيٌّ (عليه السلام) تَعْظِيماً لِلْقُرْآنِ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ، ثُمَّ عَادَ فِي قِرَاءَتِهِ، ثُمَّ أَعَادَ ابْنُ الْكَوَّاءِ الْآيَةَ، فَأَنْصَتَ عَلِيٌّ (عليه السلام) أَيْضاً، ثُمَّ قَرَأَ، فَأَعَادَ ابْنُ الْكَوَّاءِ، فَأَنْصَتَ عَلِيٌّ (عليه السلام) ثُمَّ قَالَ: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)، ثُمَّ أَتَمَّ السُّورَةَ وَرَكَعَ) (194).
ـ وأنه (عليه السلام) لم يقطع عطاء الخوارج والمعارضين من بيت المال، رغم معاداتهم له وإثارتهم فتنةً داخليةً كبيرةً، كما لم يمنعهم عن الحضور في المساجد والتكلم فيها، وكانت المساجد آنذاك مركزاً للإعلام مضافاً إلى العبادة والصلاة، وكان يرى أن من مسؤولية الحكومة الدفاع عنهم وتأمين الحياة والأمن لهم ولذويهم ما لم يقاتلوا المسلمين.
ـ وذكر المؤرخون: (أَنَّهُ (عليه السلام) كَانَ جَالِساً فِي أَصْحَابِهِ فَمَرَّتْ بِهِمُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ فَرَمَقَهَا الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقَالَ (عليه السلام): إِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ الْفُحُولِ طَوَامِحُ، وَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابِهَا، فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَةٍ تُعْجِبُهُ فَلْيُلَامِسْ أَهْلَهُ فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ كَامْرَأَتِهِ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ: قَاتَلَهُ اللَّهُ كَافِراً مَا أَفْقَهَهُ، فَوَثَبَ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ (عليه السلام): رُوَيْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ) (195).
ثالثاً: كيفية جباية الصدقات
والرواية الآتية تعد من أروع الروايات في هذا الحقل:
قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): (بَعَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مُصَدِّقاً مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى بَادِيَتِهَا فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، انْطَلِقْ وَعَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا تُؤْثِرَنَّ دُنْيَاكَ عَلَى آخِرَتِكَ، وَكُنْ حَافِظاً لِمَا ائْتَمَنْتُكَ عَلَيْهِ، رَاعِياً لِحَقِّ اللَّهِ فِيهِ، حَتَّى تَأْتِيَ نَادِيَ بَنِي فُلَانٍ، فَإِذَا قَدِمْتَ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ، ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ وَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قُلْ لَهُمْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ لآِخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ، فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّونَ إِلَى وَلِيِّهِ؟ فَإِنْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ: لَا، فَلَا تُرَاجِعْهُ، وَإِنْ أَنْعَمَ لَكَ مِنْهُمْ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تَعِدَهُ إِلَّا خَيْراً.
فَإِذَا أَتَيْتَ مَالَهُ فَلَا تَدْخُلْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُ لَهُ، فَقُلْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَأْذَنُ لِي فِي دُخُولِ مَالِكَ، فَإِنْ أَذِنَ لَكَ فَلَا تَدْخُلْهُ دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا عَنِفٍ بِهِ، فَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ أَيَّ الصَّدْعَيْنِ شَاءَ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضْ لَهُ، ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَأَيَّهُمَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضْ لَهُ، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ مَالِهِ، فَإِذَا بَقِيَ ذَلِكَ فَاقْبِضْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ وَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ، ثُمَّ اخْلِطْهَا وَاصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلًا حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللَّهِ فِي مَالِهِ) (196).
والحديث شاهد عظيم يفصح عن المدى الذي وصلت إليه إنسانية الشريعة الإسلامية في احترام الإنسان وتكريمه وتصديق قوله، ومع أن كثيراً ممن يقول (لا) قد يكون كاذباً، إلّا أن من رحمة الله بالناس، أنه جعل الأصل هو البناء على حسن الظن بهم وتصديقهم في أقوالهم، كما كان رسول الرحمة (صلى الله عليه وآله) التجلي الأعظم لذلك، كما يشهد به قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنينَ) (197).