مقاصد الشريعة في حجية الأمارات والظنون المطلقة
استثمار مقاصد الشريعة في الفقه والأصول والتقنين، (الفصل الأول) (القسم الخامس)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2022-04-06 07:04
سادساً: مقاصد الشريعة في حجية الأمارات والظنون المطلقة
وفي حقل الحُجج والطرق والأمارات ونظائرها نجد أيضاً بعض أجلى مظاهر الرحمة الإلهية:
أولاً: إمضاء حجية الطرق والأمارات
إمضاء أو جعل ـ على المسلكين ـ حجية الأمارات والطرق العقلائية؛ كخبر الثقة، وقول أهل الخبرة، والظواهر، وغيرها (155)، فإن ذلك من رحمة الله تعالى أنه اكتفى في امتثال أوامره ونواهيه بالوصول إليها وإلى كيفياتها بالظنون العقلائية السهلة وإن سميت بالمعتبرة؛ إذ كان يمكن له جل اسمه أن يوجب تحصيل العلم، كالخبر المتواتر والمحفوف بالقرينة القطعية وما أشبه، فإذا عَجَزَ عنه أوجب عليه الاحتياط حتى وإن أوقعه في العسر والحرج؛ إذ أن حقّ الله تعالى على العبد أعظم من ذلك، بما لا يبلغ مداه عقل بشر، فليقع إذاً في بعض العسر تحصيلاً لرضا الرب وامتثالاً لأوامره ونواهيه، لكنه من عظيم رحمته وفضله أنه اكتفى عن العلم وعن الاحتياط بالظنون الخاصة (156).
وكذلك الحال في التخيير بين الاجتهاد والتقليد والاحتياط، فإنه لولا رحمته ولطفه وفضله على العباد لكان مقتضى القاعدة أن يوجب عليهم الاجتهاد أو الاحتياط دون التقليد، وذلك كما أوجب عليهم الاجتهاد في أصول الدين والذي أدعي عليه الإجماع مكرراً (157).
ثم إن إيجاب الاجتهاد في الأحكام الشرعية الفرعية على قسمين؛ فتارةً يوجب ذلك للمكلف العسر والحرج كما هو كذلك في الكثير من الناس، وأخرى لا يوجب كما في الكثيرين أيضاً، ولولا لطفه ورحمته لأوجب التقليد أو الاحتياط حتى فيمن يوقعه ذلك في أشد العسر والحرج، وذلك لضرورة أن أحكام الله تعالى أهم وأسمى وأجل شأناً من أن نرفع اليد عنها لمجرد وقوعنا في عسر وحرج لولا أنه سبحانه هو الذي منّ علينا بذلك.
سلّمنا، لكن كان مقتضى القاعدة حينئذٍ التفصيل بين العمال والموظفين مثلاً، وبين كثير من الأثرياء والشباب، بإيجاب الاجتهاد أو الاحتياط على الفريق الأول دون الثاني، أي إيجابه على من لا يوقعه تكليفه بأحدهما في العسر والحرج، ككثير من التجار والشباب الذين يمتلكون متسعاً من الوقت يصرفونه في زيادة ثرواتهم أو في اللهو واللعب، فليصرفوه بدل ذلك في الاجتهاد والتفقه في دين الله! إذ أليس ذلك أسمى وأجل بل ألزم وأوجب؟!
فذلك كله هو المجلى الأولى للرحمة، وهو إمضاء حجية الطرق والأمارات على تقدير القول بالانفتاح (انفتاح باب العلم) وذلك بفتح باب العلمي أيضاً.
ثانياً: حجية الظنون المطلقة على القول بالانسداد
إنّ جَعْل الحجية ـ أو إمضاءها ـ للظنون المطلقة، على فرض القول بانسداد باب العلم والعلمي، لهو من مظاهر رحمة الله تعالى.
وتوضيح ذلك في ضمن الأمور التالية:
أ: إن مقدمات الانسداد هي:
أن هنالك أحكاماً كثيرةً فعلية يُقطَع بعدم رفع الشارع يده عنها.
وأن باب العلم والعلمي قد انسدّ فيها.
وأن العمل بالاحتياط موجب للعسر والحرج.
وأن البراءة مستلزمة للخروج من الدين.
وأن الرجوع إلى الأصول الأربعة، كلٌّ في مورده، لا يخلو عن إشكال.
وأن القرعة كذلك مستلزمة للخروج من الدين، إضافة إلى قصور أدلتها عن العموم إلا لما قام عليه العمل.
فبقي العمل بـ(الظن المطلق) لأنه الراجح، وأن في عدم جعل الحجية له ترجيح المرجوح.
ب: أن نتيجة مقدمات الانسداد السابقة، إما مطلقة وإما مهملة، والبحث فيها يقع تارة على الكشف، وأخرى على الحكومة، وذلك في ثلاث مناحٍ:
1: أنها مطلقة من حيث المنشأ.
2: أنها مطلقة من حيث المتعلَّق.
3: أنها مطلقة من حيث المراتب.
أو على العكس: أن نتيجة تلك المقدمات مهملة من حيث تلك النواحي الثلاثة كلها أو بالتفصيل.
أ) فقد يقال: بأن مقتضى الرحمة الإلهية ـ كمقتضٍ وكمؤيد لا كدليل (158) أن تكون نتيجة مقدمات الانسداد مطلقة من حيث مناشئ الظن إلّا ما خرج بالدليل كالقياس، على تفصيل مذكور في محله، ومناشئ الظن عديدة:
منها: الشهرة بأقسامها الثلاثة.
ومنها: الإجماع المنقول.
ومنها: قول المؤرّخ.
ومنها: قول اللغوي.
ومنها: قاعدة التسامح.
وذلك لأن من التسهيل على العباد اعتبارها بأجمعها حجة بدل التشديد عليهم بلزوم التحقيق المستوعب في اللغة مثلاً، بمراجعة أقوال العديد من اللغويين حتى يحصل الاطمئنان.. وهكذا الإجماع المنقول وغيره.
بل نقول: إن بناء العقلاء على ذلك أيضاً (159) ولو في الجملة؛ ألا تراهم يعتمدون على قول اللغوي وكتب التاريخ إلّا لدى التعارض أو وجود قرائن على الخلاف؟، وألا تراهم يراجعون في غير الشؤون الخطيرة العطّار أو الصيدلاني أو أحد كبار السن في تطبيب المريض مرضاً غير خطير؟. وألا تراهم يسألون عن الطريق ولو من الطفل الصغير؟ هذا كله إن لم نقل بحجية ما سبق وما سيأتي من باب الظن الخاص، كما فصلنا الكلام عن ذلك في الأصول.
حجية الظن المطلق في المواعظ وغيرها
ب: وقد يقال بأنها مطلقة من حيث المتعلَّق (فإذا كانت مهملةً اقتصر فيها على القدر المتيقن وهو أيضاً ـ بقَدَرِه ـ رحمة في مقابل عسر إيجاب الاحتياط)، والمتعلَّق يعني ما تعلق به الظن.
والمتعلَّق الذي يكون الظن فيه حجة على أقسام وأنواع: المواعظ، والسنن، والتاريخ، والسيرة، والعلوم النظرية العادية؛ ولنكتف هاهنا بالإشارة إلى بعضها:
أولاً: المواعظ والنصائح والأمثال والحِكَم، فإنه ليس المطلوب في الموعظة وأخواتها، كقصة تتضمن عبرة مثلاً، تنقيح سلسلة الإسناد والاعتبار السندي حسب مقاييس علم الرجال أبداً، ولذا جرت سيرة العقلاء بما هم عقلاء على عدم مطالبة الواعظ بما هو واعظ بسلسلة سنده إلى الموعظة الكذائية وتوثيق رجالها.
بل نقول: إن ذلك مدعاة لإغلاق باب الموعظة والنصيحة، أو تحجيمها بقدر كبير، بل إن ما ذكرناه فطري وعقلائي، وهو مجلى من مجالي رحمة الله تعالى بخلقه، حيث فطرهم على تقبّل الموعظة من دون التحقيق السندي فيها؛ إذ لو كان كذلك لقصرت اليد عن كثير من المواعظ؛ إذ أن كثيراً منها لا سند تامّاً لها حسب مقاييس علم الرجال، بل ولَفَقَدَ الكثير من الباقي منها تأثيره، إذ سوف ينصرف الذهن حينئذٍ إلى سند الموعظة بدل التفاعل معها والتأثر بها، وأيضاً سيجري تخصيص قسم من الوقت المخصص للموعظة عادة للبحث السندي عنها، فتتقلص مساحة الموعظة إلى حدّ كبير مع أن مساحتها عادة، بالأصل قليلة.
والحاصل: أنه كان من رحمة الله تعالى أن جعل المواعظ حجةً على السامعين، وهاديةً لهم ومرشدةً من غير توقيف لحجيتها على كون إسنادها تاماً في كافة حلقات السند، بل تكفي النصيحة المرسَلَة أو المهملة سنداً، نعم لا شك في أنها لابد أن لا تبتلى بالمعارض الأقوى أو مطلق ما يوجب طرحها، وهي بذلك كالمسانيد التامة سنداً (160).
ثانياً: التاريخ، فإن بناء العقلاء في القضايا التاريخية، في غير ما وقع الخلاف فيها أو قامت قرائن على الكذب فيها أو شبه ذلك، على الاتكال على نقل المؤرخ فيها وإن لم تكن متصلةً الإسناد، وعلى ذلك الفطرة أيضاً؛ ولذا نجد كافة الأمم يعتمدون في تأريخهم على ما يذكره مؤرخوهم من دون المطالبة بسند متصل أو قرائن قطعية، بل لولا ذلك لانقطعت صلة الأمم بتأريخها وانفرطت عرى تلاحم المجتمع بعضه ببعض.
وذلك من مصاديق رحمة الله تعالى أن فتح باب التصديق بالتأريخ من دون توقيف ذلك على توّفر ضوابط علم الرجال الصعبة.
نعم، لابد من التفريق بين مقامين: مقام الواعظ الذي ينقل قصةً أو حدثاً تأريخياً، ومقام المؤرخ أو الباحث الذي يعد رسالة ماجستير أو دكتوراه مثلاً؛ ولذا نجد الأمم أيضاً يفرقون بين المقامين، ففي المقام الثاني يشترطون التحقيق والبحث والفحص والمقارنة والجرح والتعديل بعكس الأول، ولو عَكَسَ كلٌّ منهما لاستحق اللوم والعتاب.
ج: وقد يقال: إن مقتضى الرحمة الإلهية، كمؤيد، أن تكون نتيجة مقدمات الانسداد مطلقةً من حيث مراتب الظن الشديدة والضعيفة، فتأمل.
سابعاً: قاعدتا الإمضاء والإلزام
سبق: أن الرحمة من أهم مقاصد الشريعة، ولهذا المقصد المفتاحي من مقاصد الشريعة تجليات تشريعية عظمى، ومن تلك التجليات قاعدتان هامتان ذكرهما الفقهاء في كتب القواعد الفقهية بشكل مفصل، كما تطرقوا لها في الفقه بشكل موّسع وفي العشرات من المسائل والفروع.
الرحمة الإلهية في القاعدتين
وهاتان قاعدتان أساسيتان عامتان:
الأولى: (قاعدة الإمضاء)، وهي تعني: أن ما كان لأهل الكتاب من الأحكام التي تصبّ في صالحهم فهو ممضى شرعاً لهم، على الرغم من أننا كمسلمين نرى أنهم على خطأ وباطل، لكن الرحمة الإلهية اقتضت ما صرح به الحديث الشريف: (يَجُوزُ) ـ أي يمضي وينفذ ـ (عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِي دِينٍ مَا يَسْتَحِلُّونَ) (161).
الثانية: (قاعدة الإلزام)، وهي تعني: أن أحكامهم التي تكون عليهم هي الأخرى نافذة المفعول في حقهم وإن كانت باطلة لدينا، والملفت في الأمر أنه وحسب فقهنا، فإن أهل الكتاب لو رجعوا إلى قضاتنا وقضائنا فإن للقاضي أن يحكم عليهم على طبق دينهم أو على طبق ديننا، موكِلاً ذلك إلى اختيارهم وإرادتهم أو اختياره وإرادته (162).
والمنطلَق الأول لقاعدة الإلزام والإمضاء هو قوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)( (163، (164)، كما تدل عليه الروايات الشريفة، ومنها قوله (عليه السلام): (أَلْزِمُوهُمْ بِمَا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ) (165)، وتظهر ثمرة مقاصد الشريعة في الاستناد إليها، كدليل أو مؤيد، لعمومية قاعدة الإلزام وعدم اختصاصها بموارد الطلاق والنكاح والإرث التي وردت فيها الروايات، والتي التزم بعض الفقهاء بتخصيص القاعدتين بهذه الأبواب الثلاثة فقط.
أمثلة تطبيقية:
أ) قال السيد الوالد (قدس سره) في موسوعة الفقه كتاب الجهاد: (وقد ذكرنا في شرح العروة أنهم لا تؤخذ منهم الزكاة والخمس وإن كانا واجبين عليهم، بمقتضى مخاطبة الكفار بالفروع كخطابهم بالأصول، وإنما لا يؤخذان منهم لأن مقتضى إقرارهم على دينهم ذلك، كما لا يؤمرون بالصلاة والصيام والحج وسائر أحكام الإسلام إلاّ ما دل الدليل الخاص عليه) (166).
ب) وعلى ضوء قاعدة الإمضاء فإنه: لو تزوج مجوسيُّ أمّه مثلاً ـ وذلك من أقبح المنكرات لدينا ولدى كافة الملل والنحل إلا أنه لديهم جائز ـ فإنه يُمضى ولا يعاقب ولا يلاحق قانونياً ولا اجتماعياً، بل تجرى عليه أحكام الزوجية، وعليه: فلو ماتت وَرِث منها إرثين؛ من جهة كونه ولداً، ومن جهة كونه زوجاً لها، كما أنه لو مات هو فإنها ترث منه إرثين، باعتبارها أُماً وباعتبارها زوجةً.
ج) وهكذا لو طلق العامي زوجته بطلاق باطل عندنا، فإنه يصح وينفذ.
وليس مفاد القاعدتين حكماً ظاهرياً، بل مفادهما حسب المشهور حكم واقعي ثانوي، وليس بحكم ظاهري كما هو حال الأصول العملية.
تنبيه:
المسائل السابقة تتنوع بين ما يندرج في تنقيح حال الملاكات في عالم الجعل، استناداً إلى نفس الروايات التي تشير إلى الوجه في حكم الشارع فيها (كحجية الأمارات مثلاً، أو قاعدة اليد، أو السوق، أو قاعدتي الإلزام والإمضاء مثلاً)، وكونه (أي الوجه) بحسب المستظهر من الأدلة ونصوص بعضها هو مقصد الرحمة الإلهية والتيسير، وبين ما يندرج في تنقيح حال مرحلة الامتثال (كالترجيح في باب التزاحم مع عدم وجود المرجحات المنصوصة)، وبين ما يندرج في ما يرفد عملية الاستنباط والاجتهاد والاستظهار بنفسه (كاللين واليسر باعتباره الموازن للاحتياط، وكالانصراف المستند إلى بعض مقاصد الشريعة، وكالترجيح في باب التعارض بالمرجحات غير المنصوصة، وكسعة قاعدة الإمضاء والإلزام لبعض المراتب، وكالحكم بالتخيير بدل التعيين في قاعدة دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وكحجية الظنون المطلقة على الانسداد، على ما مضى بيانه).