ثورة التنوُّع البيولوجي
دورية Nature
2021-12-07 06:50
بقلم: ريتشيل سيرنانسكي
كان إيميت دافي يسبح على عمق نحو خمسة أمتار تحت الماء قبالة ساحل بنما، عندما لفتت انتباهه سمكة نيص عملاقة من نوع القنفذ يجمع لونها بين السُّمرة والبياض. ونظرًا إلى بطء حركتها، كانت تلك السمكة ستصبح هدفًا رئيسًا للكائنات المفترسة، لولا الفروع الضخمة للشعاب المرجانية المعروفة باسم "مرجان الخورن" ("أكروبورا بالماتا" Acropora palmata) التي تشبه أغصان الشجرة والتي كانت تلك السمكة تحتمي بها. كان المشهد بمنزلة مصدر إلهام لدافي، عالِم الأحياء البحرية. لقد ذهب دافي إلى مواقع في الكاريبي كانت فيها أسماك المرجان أكثر عددًا وتنوُّعًا، ولكنها أصغر حجمًا، كذلك كانت الأسماك هناك أصغر حجمًا أيضًا. أما هنا في أرخبيل بوكاس ديل تورو فقد رأى تشكيلة متنوعة من الأسماك الكبيرة تختبئ بين فروع مرجان الخورن. يقول دافي: "كان السبب الذي جعل تلك الأسماك الضخمة قادرة على النمو في ذلك المكان يتمثل في توفُّر أماكن للاختباء وأماكن للعيش".
بالنسبة لدافي، أحيت تلك المقابلة مع سمكة القنفذ (واسمها العلمي "ديودين هيستريكس" Diodon hystrix) مفهومًا كان قد ظل يتأجَّج ببطئ في خبايا عقله وقتًا طويلًا، ألا وهو أن صحة النظام البيئي ربما لا تعتمد فقط على عدد الأنواع الموجودة فيه، وإنما تعتمد أيضًا على تنوُّع صفات تلك الأنواع. هذه الفكرة التي يطلق عليها اسم إيكولوجيا الصفات الوظيفية كانت تشكل جزءًا من عمله المختبري على مدار سنوات، ولكنها كانت دائمًا ما تبدو مجرد فكرة أكاديمية نظرية، وفق قول دافي، الذي يشغل حاليًّا منصب مدير شبكة تينينباوم للمراصد البحرية التابعة لمؤسسة سميثسونيان في واشنطن العاصمة.
تشهد هذه الفكرة رواجًا متزايدًا هذه الأيام لعلماء الإيكولوجيا. تنص الفكرة على أن التنوع البيولوجي لا ينبغي أن يقتصر على العدد المتوفر من نوعٍ ما في نظام بيئي، ف؛ وإنما بنفس قدر أهمية الحفاظ على صحة النظام الإيكولوجي وقدرته على التكيف، ينبغي مراعاة الخصائص المختلفة للأنواع والأشياء التي تستطيع القيام بها؛ إذا ما قيست وفقًا لصفات محددة مثل حجم الجسم أو طول الفرع.
يمكن لذلك التحول في التفكير أن تكون له مدلولات كبيرة لعلم البيئة؛ فقد يكون ضروريًّا لفهم طريقة تكيُّف النباتات والحيوانات مع تغيُّر المناخ والتنبؤ بها. وقد بدأ التنوع الوظيفي يؤثر على طريقة تفكير علماء البيئة بشأن المحافظة على الأنواع؛ بل إن بعض الحكومات قد بدأت في إدراج تلك الصفات في سياساتها الإدارية. فعلى سبيل المثال، تحركت حكومة بليز منذ عدة أعوام لحماية أنواع سمك الببغاء من الصيد الجائر، ليس بالضرورة لأن أعدادها في تناقص، ولكن لأن تلك الأسماك تقوم بتخليص المرجان من الطحالب ولها أهمية بالغة في بقاء الشعاب المرجانية على قيد الحياة.
تقول ساندرا دياز -عالِمة البيئة بالمجلس الوطني للبحوث العلمية والتقنية بالأرجنتين وجامعة قرطبة-: "إن التركيز على أعداد الأنواع فحسب لا يتيح لنا في الأساس تسخير كل تلك المعلومات المفيدة جدًّا التي لدينا بشأن آلية عمل العالم الفعلية". مع ذلك لا يزال بعض الخبراء يشعر بالقلق؛ إذ تظل الكيفية التي يجري بها تعريف الصفات مصدرًا للجدل، ومن دون توفر بيانات محكمة بشأن تنوع الصفات والأنواع في البيئات المختلفة حول العالم، قد يتبين أن أية خيارات موجَّهة بواسطة ذلك النهج ذات نظرة محدودة. يقول والتر جيتز -عالِم البيئة والأحياء التطورية بجامعة ييل في نيو هيفن بولاية كونيتيكت-: "أشعر بحماس حقيقي، ولكن يساورني القلق. فنحن المجتمع علمي بحاجة إلى توخي الحذر حقًا في تقدير محدودية البيانات المتاحة".
الكيف مقابل الكم
على مدار عقود، كانت دراسة التنوع البيولوجي في الأساس لعبة أرقام؛ فكلما زاد عدد الأنواع التي يتضمنها النظام البيئي، زاد الاعتقاد بأن ذلك النظام أكثر استقرارًا ومرونةً في مواجهة التغيير. بدا ذلك الأسلوب في التفكير منطقيًّا نتيجة لضآلة المعلومات المتاحة عن هياكل النظام البيئي ووظائف الأنواع داخله. ولم تكن التقنية التي يمكنها قياس الكثير من الصفات أو معالجة القدر الضخم من البيانات متوافرة. وقد تغير ذلك بفضل العديد من التطورات المتنوعة. فالتقدم الذي حدث في علم الأحياء الجزيئية مكَّن العلماء من دراسة الميكروبات بأعداد غفيرة. كذلك يمكن للأقمار الصناعية تقييم بعض الصفات مثل ارتفاع ظل الأشجار وإنتاجية البلانكتون البحري. كما أن القفزات التي حدثت في تطوير الأدوات الإحصائية والقدرة الحاسوبية قد ساعدت على الاستفادة من جميع البيانات التي يجري توليدها حاليًّا.
ينسب البعض أسلوب التفكير الجديد بشأن النظم البيئية -على الأقل في البحوث الرسمية- إلى عالِم البيئة ديفيد تيلمان بجامعة مينيسوتا في سانت بول. ففي عام 1994، نشر تيلمان بحث بارز1 تتبَّع فيه تنوُّع الأنواع في مراعي مينيسوتا خلال موجة من الجفاف الشديد وقعت في ثمانينيات القرن الماضي. كانت المناطق الثرية بالأنواع أكثر قدرةً على تحمل الجفاف من المناطق التي تحتوي على أنواع قليلة، مما أكد الصلة بين التنوع والاستقرار. ولكن تلك العلاقة لم تكن تسير بشكل مستقيم، فلم يكن مطلوبًا سوى بعض الأعشاب المقاومة للجفاف فقط لتعزيز قدرة قطعة من الأرض على التعافي بدرجة كبيرة.
بعد ذلك بثلاثة أعوام نشر تيلمان ومعاونوه النتائج التي توصلوا إليها من دراسة 289 قطعة أرض مستخدَمة كمراعٍ كانوا قد زرعوها بأعداد متباينة من الأنواع وراعوا فيها مستويات مختلفة من التنوع الوظيفي. أدى توفر بعض الصفات -مثل مسار عملية التمثيل الضوئي رباعي الكربون أو تثبيت النيتروجين- إلى صنع فارق في الصحة العامة لقطع الأرض أكبر من الفارق الذي أحدثه عدد الأنواع.
في الوقت ذاته تقريبًا، كان شهيد نعيم -مدير مركز الاستدامة البيئية بمعهد الأرض التابع لجامعة كولومبيا في نيويورك- يبحث أيضًا فيما وراء أعداد الأنواع لدراسة وظيفة النظام البيئي، مع التركيز على تنوُّع الأنواع عند مستويات مختلفة من الشبكة الغذائية. وفق ما يقول نعيم، فإن النظر في عدد الأنواع على حِدَة يشبه ذكرنا لأجزاء السيارة دون توضيح وظيفة كل جزء منها، ذلك من شأنه ألا يوفر أية إرشادات لما ينبغي عمله عندما تصاب تلك الأجزاء بأعطال، ويضيف: "لا يكون بوسعنا حينئذٍ سوى أن نقف أمام السيارة مكتوفي الأيادي، مثل إنسان بدائي لم ير سيارة في حياته مطلقًا، ونقول: ’السيارة تعطلت الآن! تُرى أين يكمن العيب؟‘".
بدأت دراسات التنوع الوظيفي تترسخ منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين. جاء في الطليعة الأبحاث الخاصة بالنباتات والغابات لأنه من السهل نسبيًّا التعامل مع تلك النظم. ولكن ذلك النهج شهد توسُّعًا تدريجيًّا فشمل الطيور والحياة البحرية وأنواع التربة. تقول ديانا وول -عالِمة البيئة المتخصصة في مجال التربة بجامعة كولورادو ستيت في فورت كولينز- إنها وزملاءها ركزوا على الصفات والتنوع الوظيفيين لسنوات، بصفة جزئية لأنه غالبًا ما يكون التعرف على أنشطة الكائنات المجهرية في التربة أسهل من التعرف على الأنواع نفسها. تشعر وول بالحماس لأن استيعاب الباحثين للصفات والأنواع التي تعيش فوق الأرض وتحتها صار أفضل. تقول وول: "إن المعارف الجديدة على كلتا الجبهتين تساعدنا في فهم الاعتماد على الأنواع والوظائف".
حدِّد أولوياتك بوضوح
يتحمس علماء الأحياء المهتمون بالحفاظ على الطبيعة للصفات الوظيفية؛ لأنها يمكن أن تؤثر على القرارات الخاصة بما ينبغي حمايته. يركز الباحثون ودعاة حماية البيئة في المعتاد على الأقاليم والمناطق الزاخرة بالأنواع، مثل الغابات المطيرة في الأمازون والحيد المرجاني العظيم في أستراليا. ولكن ريك ستيوارت-سميث -عالِم البيئة بجامعة تسمانيا في تارونا بأستراليا- أشار إلى إعادة صياغة تعريف النقاط الهامة للتنوع البيولوجي. من الممكن أن يشير دمج الصفات الوظيفية إلى أهمية المجالات التي لم تحظَ بقدرٍ كاف من الدراسة مسبقًا. يرى ستيوارت-سميث أنه من المبكر للغاية تحديد أماكن معينة يمكن أن تصلح لذلك الغرض؛ فلا تزال هناك حاجة إلى إجراء مزيد من الأبحاث المتعمقة. ولكن وفق ما يقول سميث، فإن علم البيئة الخاص بالصفات الوظيفية يجب أن يشمل في النهاية استراتيجيات الحفظ البيئي وكيف تختار الحكومات المناطق التي ينبغي حمايتها.
كذلك يمكن لأسلوب التفكير الجديد بشأن التنوع أن يكشف عن جوانب الضعف التي لم تكن معروفة من قبل. فربما يبدو أن المناطق الثرية بالأنواع تتمتع بنوع من الحماية ضد فقدان الصفات لأنه يُفترض أن الوظائف التي تقدمها تلك الصفات موجودة لدى الكثير من الأنواع، وفق ما يقول ديفيد مويو، عالِم البيئة البحرية بجامعة مونبلييه في فرنسا. ولكن بعض الوظائف لا يوفرها سوى نوع واحد فقط أو بضعة أنواع. ويسابق مويو وزملاؤه الزمن لتحديد تلك الوظائف النادرة.
تساعد عدسة التنوع الوظيفي في رسم صورة أكثر دقة للنظم البيئية. استخدم جريج أسنر -عالِم البيئة بقسم علوم البيئة العالمية التابع لمؤسسة كارنيجي للعلوم بجامعة ستانفورد في كاليفورنيا- مُصوِّر طيف فريدًا لوضع خريطة لخمس عشرة سِمة للغابات في أنحاء بيرو. وكانت الدراسات التقليدية قد حددت ثلاثة أنواع من الغابات في البلاد باستخدام مفهوم ثراء الأنواع، كما يقول أسنر، وهي الأراضي الجافة والسهول الفيضية وغابات المستنقعات. ولكن أسنر وفريقه بحثوا عن الصفات التي يمكنها المساعدة في تمييز المجموعات الوظيفية الجديدة، ووجدوا أن سبعًا منها كانت أساسية. ثم عمل الباحثون في أعقاب ذلك على تصنيف الغابات بناء على تلك الصفات، وخلصوا إلى ـ36 فئة تمثل توليفات مختلفة من الصفات السبعة. استخدم الباحثون النتائج التي توصلوا إليها في مساعدة دولة بيرو على إعادة التوازن لملف حماية الطبيعة في البلاد.
يقول أسنر إنه طُلب منه أيضًا اختيار مساحة من الأرض تقدر بأربعمئة ألف هكتار في شمال جزيرة بورنيو من أجل تخصيصها للحماية بناء على الصفات. يقول أسنر: "يريدون أن يعرفوا: أين تقع المليون فدان التي يمكنك فيها الحصول على أكبر قدر من التباين في الصفات؟ أين يمكنك وضع سياج حول أقصى درجات التباين الوظيفي؟".
كان ذلك المستوى من الاهتمام كفيلًا بتشجيع أسنر وغيره من الباحثين؛ لأن النظم البيئية في غاية التعقيد، لدرجة أنه إذا فُقدت أنواع أو وظائف معينة أو عمليات خاصة بالنظام البيئي فلا توجد طريقة لاستعادتها، على الأقل ليس باستخدام الأساليب أو المعارف الحالية. يقول أسنر: "ليس لدينا على وجه البسيطة العلوم أو التكنولوجيا التي تمكِّننا من تصميم غابة من الصفر بنفس الطريقة التي أنشأت بها الطبيعة والتطور تلك الغابة".
مع ذلك ينصح بعض الخبراء بعدم اتخاذ القرارات بناءً على الصفات الوظيفية إلى حين توافر بيانات أكثر اكتمالًا. يقول جيتز -الذي درس الصفات الوظيفية في النباتات والحيوانات الفقارية، وبالأخص الطيور-: "بمجرد أن تفقد نوعًا واحدًا في مصفوفة البيانات الخاصة بك، ربما تفقد بذلك صفة أساسية لا يمثلها إلا ذلك النوع". ويحذر جيتز ليس فقط من وجود فجوات في البيانات وإنما من التحيُّزات أيضًا، مثل اختيار الباحثين للأماكن التي يحصلون منها على العينات، وهو الأمر الذي بإمكانه الانحراف بمجموعة بيانات إما نحو أقاليم أو أنواع معينة من البيئات أو بعيدًا عنها.
يرغب نعيم أيضًا في رؤية جهد عالمي منظم لإنشاء قاعدة بيانات أكثر اكتمالًا وشمولًا للصفات الخاصة بعالم الطبيعة. يقول: "عندما نتحمس حقيقةً لمجال معين فإن واحدًا من أكبر الاستثمارات والجهود وأهمها، التي يجب على الجميع دعمها، يتمثل في الحصول على البيانات التي نحتاجها".
"التركيز على أعداد الأنواع فحسب لا يتيح لنا في الأساس تسخير كل تلك المعلومات المفيدة جدًّا التي لدينا بشأن آلية عمل العالم الفعلية "، هناك بعض الأعمال التي تجري على قدم وساق لبناء قواعد البيانات تلك للبيئات البرية والمائية على حد سواء. هناك على سبيل المثال شبكة "تراي" TRY، التي يستضيفها معهد ماكس بلانك للكيمياء الجيولوجية الحيوية في ينا بألمانيا، وهي شبكة عالمية لعلماء النبات الذين يعملون منذ عام 2007 على بناء قاعدة بيانات للصفات والوظائف يكون الوصول إليها متاحًا للجميع. تحتوي قاعدة البيانات تلك حاليًّا على سجلات لعدد 100 ألف نوع من أنواع النباتات.
توجد أيضًا قاعدة بيانات "ريفيش" ReeFish، التي يقودها مويو حاليًّا، والتي تهدف إلى توفير المعلومات الخاصة بالصفات والمعلومات الجغرافية عن جميع أسماك الشعاب الاستوائية. كما أن برنامج "مسح عالم الشعاب"، الذي دشنه ستيوارت-سميث وعالِم العلوم البيئية البحرية جراهام إدجار في تسمانيا عام 2007، يتضمن سجلات للصفات لأكثر من 5000 نوع تنتمي إلى جميع أحواض المحيطات.
في الوقت ذاته يقود دافي برنامج مرصد الأرض العالمي البحري، التابع لمؤسسة سميثسونيان، الذي يقول عنه إنه "فرصة عظيمة لتحديد الروابط والصلات بين تنوع النظم البيئية البحرية ووظائفها على نطاق عالمي". توجد حاليًّا عشرة مواقع على الشبكة، وهو الأمر الذي يهدف إلى ترسيخ حضور عالمي يغطي الكرة الأرضية بأكملها.
جميع تلك الأعمال قيد التنفيذ، ورغم الاتفاق الكبير على أهمية التركيز على الصفات الوظيفية عبر النظم البيئية، لا يبدو حتى الآن أن هناك تعريفًا واضحًا لماهية الصفة. وسوف يكون من الصعب الاتفاق على تعريف يشمل مملكة النبات ومملكة الحيوان على حد سواء. ما قدر التفصيل المطلوب؟ وهل من المناسب التوقف عند الصفات القابلة للرصد، مثل حجم الورقة، أم البحث في التسلسلات الجينية الفردية؟
يبدو النظام الغذائي بمنزلة صفة غير واضحة المعالم. يُدرج بعض الباحثين الأنماط الغذائية عند تقييم الصفات الوظيفية لكائن حي، على سبيل المثال، عن طريق البحث فيما إذا كان بإمكان ذلك الكائن أن يتناول تشكيلة متنوعة من الكائنات أو أنه متخصص في الاقتيات على نوع واحد من الزهور. ويسخر باحثون آخرون من فكرة إدراج النظام الغذائي. يقول نعيم: "إذا لم تكن الصفة مدرجة على جينوم، فهي ليست صفةً إذًا"، ويبين أن الثعالب ربما تكون لها تفضيلات غذائية معينة، ولكنها مع ذلك سوف تظل تتناول طعام الكلاب المعلب إذا ما أتيحت لها الفرصة. يقول نعيم أيضًا إن الصفات المرتبطة بالجينات، مثل حجم الأسنان لدى الحيوانات المفترسة، سوف تؤثر على النظام الغذائي، ويمكن الاستدلال منها على أنماط التغذية.
الحديث عن الصفات
تفتح التفاعلات بين الأنواع بابًا آخر للنقاش. ربما يفسر البعض احتماء سمكة القنفذ بالشعاب المرجانية -كما لاحظ دافي في بنما- بأنها عملية تفاعُل بين الأنواع، ولا يعدُّونها من الصفات. رغم ذلك، يرى دافي أن الصفات يمكن أن تؤثر على طريقة التفاعل بين بعض الأنواع وبعضها كما يمكنها أن تكون انعكاسًا لذلك التفاعل. فصفات الشعب المرجانية -مثل بنية فرعها وحجمه- هي ما يُمكِّن الأسماك من أن تنمو وتترعرع.
كذلك يُعَدُّ ترتيب أهمية الصفات لنظام بيئي من عدمه مسألةً أخرى مثيرة للجدل. يعمل بعض الباحثين على تحديد الصفات الأكثر قيمة، في حين يتبنى باحثون آخرون -مثل مويو- نهجًا لا أدريًّا بدرجة أكبر. يقول: "إننا لا نصنفها. لا نقول إن صفتين أو ثلاث صفات هي الأكثر أهمية والبقية صفات هامشية".
أما فيما يخص التركيز على التنوع الوظيفي فهو من المحتمل أن يكون بمنزلة خطوة فحسب في اتجاه إيجاد وجهة نظر شاملة بحقٍّ للتنوُّع البيولوجي، وهو الهدف الأسمى لعلماء البيئة ودعاة الحفاظ على الطبيعة. كذلك يجري في الوقت ذاته العمل لوضع مسارات تاريخية لتطور الأنواع في نظام بيئي، في محاولة لفهم فقدان التنوُّع البيولوجي وتخفيف آثار ذلك الفقد. يرى البعض ذلك "التنوع في السلالات" بمنزلة الركن الثالث من أركان البناء الذي يضم معه التنوع الوظيفي وتنوُّع الأنواع. ويعمل الباحثون في شتى أنحاء العالم على سد الفجوات الأخرى أيضًا. إضافة إلى ذلك، يعمل اتحاد ألماني كبير على دراسة طريقة تأثير تكثيف استخدام الأراضي على التنوع الوظيفي، وهناك حاجة إلى مزيد من العمل بشأن دور البيانات المكانية وعمليات التفاعل على مستوى البيئة الطبيعية وليس على مستوى النماذج المصغرة أو مواقع الدراسة الفردية.
ومع ذلك، يتبنى الباحثون في الوقت الحاضر الصفات الوظيفية نتيجة لمستوى التعقيد الذي أضافته تلك الصفات بالفعل إلى فهم النظم البيئية. ومن بين هؤلاء الباحثين جيتز، رغم تحذيراته من الاستعجال في اتخاذ القرارات بناء على التنوع الوظيفي. ربما لا تكون البيانات مكتملة، ولكن الصفات الوظيفية من المحتمل أن تتمكن من نقل أهمية النظم البيئية إلى الأشخاص خارج المجتمع العلمي –ومنهم صانعو السياسات والاقتصاديون- بطريقة ملموسة أكثر مما يستطيع ثراء الأنواع أن ينقلها بأي حال. يقول جيتز: "إذا فقدت نوعًا أو اثنين، فمن الصعب تفسير ماذا يعني ذلك". ولكن إذا استطعت أن تُبين صراحة كيف أن فقدان وظيفة يمكن أن يؤدي إلى إبادة نظام بيئي، فربما كان لذلك تأثير أكبر. "إنه أمر يمكن لعدد أكبر من الأشخاص فهمه".