العدالة البيئية وحقوق الأجيال القادمة: نحو رؤية قانونية وأخلاقية مستدامة

د. جمانة جاسم الاسدي

2025-07-22 05:55

أصبحت قضايا البيئة من أكثر التحديات العالمية إلحاحًا في القرن الحادي والعشرين، نظراً لتفاقم التغير المناخي، التلوث، وتدهور الموارد الطبيعية، وفي هذا السياق، تبرز العدالة البيئية كمفهوم يتقاطع مع القضايا الحقوقية والتنموية والأخلاقية، مؤكداً على ضرورة التوزيع العادل للثروات البيئية وتحميل المسؤوليات البيئية بصورة منصفة بين الأفراد والدول والأجيال، ويُعد ضمان حقوق الأجيال القادمة أحد أعمدة هذه العدالة، حيث تُطرح تساؤلات جوهرية حول حق الأجيال المستقبلية في التمتع ببيئة سليمة، ومدى التزام الجيل الحالي بحماية هذا الحق.

تشير العدالة البيئية إلى العدالة في توزيع الأعباء والمنافع البيئية بين مختلف الفئات الاجتماعية والمناطق الجغرافية، دون تمييز بسبب العرق أو الطبقة أو الموقع الجغرافي، وتشمل العدالة في الوصول إلى الموارد الطبيعية، وتحمل المسؤولية عن التلوث، والمشاركة في صنع القرار البيئي، وأبعاد العدالة البيئية تكون تارة اجتماعية في حماية الفئات الضعيفة من الأضرار البيئية غير المتكافئة، وتارة قانونية عبر ضمان تكافؤ الحقوق في الاستفادة من الموارد ومساءلة الملوِّثين، واخرى أخلاقية من خلال تعزيز مسؤولية الإنسان تجاه الكوكب وكل الكائنات، وأخيرًا قد تكون زمنية في مراعاة مصالح الأجيال القادمة وعدم تحميلهم أعباء الأضرار الحالية.

وفي هذا الصدد نستعرض حقوق الأجيال القادمة في القانون الدولي مثلا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان رغم عدم ذكر البيئة صراحة، إلا أن الحق في الحياة والكرامة يفترض ضمناً وجود بيئة سليمة، وإعلان ستوكهولم (1972) وإعلان ريو (1992) أقرّا بأن للإنسان الحق في بيئة ذات نوعية جيدة، وأن على الدول ضمان ذلك للأجيال القادمة، واتفاق باريس للمناخ (2015) والتي تضمّن نصوصًا تؤكد على التزام الدول بتقليل الانبعاثات الكربونية حمايةً لمصالح الأجيال المقبلة، كذلك في مبدأ “الاحتياط” و”الاستدامة” وهي تؤكد المواثيق البيئية على أن الشك العلمي لا يبرر تأجيل التدخل لحماية البيئة، حمايةً لحقوق المستقبل.

ولكن هنالك العديد من التحديات التي تواجه العدالة البيئية وحقوق الأجيال القادمة منها الاستهلاك المفرط وغير المستدام خاصة في الدول الصناعية، يؤدي إلى استنزاف الموارد وتهديد استمراريتها للأجيال المقبلة، وعدم تكافؤ المسؤوليات حيث تتحمل الدول النامية تبعات ممارسات بيئية ضارة قامت بها دول أخرى تاريخيًا، وفي ضعف الآليات القانونية الملزمة حيث لا توجد محكمة بيئية دولية تحاسب منتهكي حقوق البيئة وحقوق الأجيال القادمة بشكل مباشر وفعال، كذلك في هيمنة الاقتصاد قصير الأجل وهو الذي يغلب منطق الربح السريع على حساب التنمية المستدامة، ما يضر بالموارد على المدى الطويل.

وفي هذا السياق نورد المقاربات النظرية لدعم العدالة البيئية التي تتجسد في العدالة التوزيعية وهي تركّز على كيفية توزيع الموارد البيئية بين الحاضر والمستقبل بشكل عادل، وفي تفعيل نظرية “الوصاية بين الأجيال” التي تنص على أن الجيل الحالي لا يملك الموارد البيئية، بل هو وصي عليها لصالح الأجيال القادمة، وأخلاقيات البيئة (Environmental Ethics) هي الاخرى تدعو إلى الاعتراف بالقيمة الذاتية للطبيعة، وعدم اختزالها إلى موارد للاستغلال فقط، وعليه فأن أدوات تعزيز العدالة البيئية وحقوق المستقبل يمكن ان تتمثل في تشريعات وطنية ملزمة فيجب أن تتضمن الدساتير والقوانين المحلية مبادئ واضحة لحماية البيئة وحقوق الأجيال القادمة، مثل إدراج “الحق في بيئة نظيفة” في الدستور، وفي إنشاء مؤسسات رقابية مستقلة تراقب تنفيذ الالتزامات البيئية وتقيّم الأثر البيئي طويل الأجل للمشاريع الكبرى، وفي إدماج البعد البيئي في التعليم لبناء وعي مجتمعي يدرك أهمية حماية البيئة للأجيال القادمة، وتحقيق العدالة المناخية من خلال دعم الدول النامية في مواجهة التغير المناخي وتحقيق انتقال بيئي عادل، كذلك في تبني مؤشرات لقياس الاستدامة كبديل للناتج المحلي الإجمالي، لقياس التقدم بناءً على جودة الحياة والبيئة.

والنماذج التطبيقية والتجارب الدولية عديدة على هذا المنوال مثلا دستور الإكوادور لسنة (2008) اعترف بحق الطبيعة في التجدد والبقاء، وأكد على مسؤولية الأفراد والدولة تجاه الأجيال القادمة، ومحكمة لاهاي الاستشارية نظرت في قضايا تتعلق بمسؤولية الأجيال الحالية عن الكوارث البيئية العابرة للحدود، وصندوق الأجيال القادمة (النرويج والكويت) أمثلة على استثمار الثروات الطبيعية لصالح مستقبل الأجيال.

ختامًا- تُعد العدالة البيئية جوهرًا لأي مشروع تنموي مستدام، وهي الضامن الحقيقي لمستقبل الأجيال القادمة. إن تجاوز الأنانية الجماعية والفردية التي تهدر الموارد البيئية يتطلب ثورة تشريعية وأخلاقية شاملة، فحقوق الأجيال المقبلة ليست ترفًا قانونيًا بل مسؤولية حضارية، وعلينا اليوم أن نكون "أسلافًا جيدين" لمن لم يُولدوا بعد، عبر ضمان بيئة قابلة للحياة، وموارد قابلة للاستمرار، ونظام قانوني يُجسّد الإنصاف البيئي عبر الزمن.

ذات صلة

ملحمة عاشوراء رموز عابرة لحدود الحاضر والمستقبلسياسة الأمن القومي العراقيإيران.. تغيير السلوك هو البديل عن تغيير النظامتقاسم مفضوح للأدوار بين واشنطن وتل أبيب في سورياما هو علم الاجتماع؟