ملتقى النبأ للحوار يناقش.. جدلية الدين والعلمانية
علي الطالقاني
2016-06-13 02:37
ناقش ملتقى النبأ للحوار موضوعا بعنوان ( جدلية الدين والعلمانية) من الفترة الثامن للعاشر من شهر حزيران لعام 2016 ، شارك في الحوار مجموعة من النخب والسياسيين ورجال دين ونشطاء. من بينهم (النائب عبد الهادي موحان، د. توفيق الياسري، النائبة شروق العبايجي، د. خالد العرداوي، أ. عبد الحميد الصائح، الشيخ ناصر الأسدي، د. علي السعدي).
أجرى الحوار الكاتب الصحفي علي الطالقاني، وملتقى النبأ للحوار هو مجتمع يسعى إلى تحفيز المناقشات بهدف توليد الأفكار من أجل دعم المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني وإسداء النصح لها من خلال عدة فعاليات يقوم بها الملتقى.
نص الحوار
نأياً عن كل الصراعات التي نشأت بصدد نقاش الجدلية بين الدين والعلمانية، وبسبب وجود نوع من علاقة بين العلمانية وبين كل من السياسة والدين، ويرى الكثير من المفكرين ان العلمانية تتبنى الفصل بين الدين والسياسة بشكل عام، وبين الدين والدولة على وجه الخصوص، ولوجود ثمة فهم يدعي التعارض بين العلمانية والدين بدرجة التنافي، بحيث تنفي العلمانية الدين، وينفي الدين العلمانية. لذلك نطرح الموضوع من اجل النقاش بكل ما يتعلق بالموضوع المطروح متمنين اطيب الأوقات.
النائب عبد الهادي موحان:
اخواني واخواتي الاعزاء ليس هناك ولاية الفقيه بالعراق انما الدستور مقتبس من الدين الاسلامي اما القوانين الوضعية في العراق فهي بالأصل قوانين فرنسيه ومصريه وفيها ميول عالي للدولة المدنية انما لا ارى هناك واجبات ع فصل الدين ع السياسة ونحتاج الى بلوره مشاريع الاصلاح في التشريعات القانونية القادمة تنسجم مع الدين الاسلامي بما لا يكون هناك فرض الأيدولوجية الدينه ع التشريعات وخير مثال النظام الاقتصادي في العراق ليس هو نظام وفقا للدين الاسلامي ويمضي وفقا الى كتاب ايه الله العظمى السيد الصدر الاول قدسه الله سره في كتابه اقتصادنا وليس هناك نظام الاشتراكي في الاقتصاد العراقي ويمكن ان نعمل عليها
بل يوجد نظام حر احادي الجانب وما يسمى نظام ريعي يعتمد ع الواردات المحلية مثل النفظ والضرائب الرسوم وهذا النظام فاشل في كل الدول.
نحتاج الى بناء اقتصاد يعتمد ع القطاع الخاص والحفاظ ع الثروة الطبيعية في العراق ومن خلال الحديث اعلا لا اجد هناك من الضرورة بالتكلم ع نظريه فصل الدين ع السياسة
د. توفيق الياسري:
هنالك مفهوم سائد بالخطأ وهو فصل الدين عن الدولة كون الدين ورجال الدين وفلسفة الأديان عموما واستنادا لمعتنقيها هم جزء من الشعب والشعب هو أحد أهم الأركان الثلاثة التي تقوم عليها الدولة وهي الشعب .الحكومة أو السلطة. الأرض وتعني مقومات السيادة بما فيها المياه والأجواء.
ما اشرت إليه أعلاه هو ما نص عليه القانون الدولي في تعريفه للدولة وتحديد أركانها او مكوناتها الثلاث وهي الشعب. الحكومة. الأرض. ولما كان الدين مجموعة عقائد تنظم علاقة الإنسان مع السماء من جهة وبين ابناء المجتمع الواحد او بقية المجتمعات من جهة ثانية. ولما كان الإنسان هو المفردة الرئيسية في الركن الأساس في مفهوم الدولة الشعب عندها يستحيل فصل الدين عن الدولة. أعتقد الأصح فصل الدين عن السلطة لتحصين المؤسسة الدينية من مغريات الجاه والمكاسب غير الشرعية.
أعتقد من غير المناسب تعميم مصطلح فصل الدين عن السياسه بالمعنى الشامل لان فلسفة الدين تنطلق من سياسات التعريف ونشر الثقافات ومستويات التأثير والأهداف المرحلية والستراتيجية فكيف يكون فصل الدين عن السياسه وأية سياسية نقصد؟
النائبة شروق العبايجي:
مرحبا جميعا. اعتقد الاصطلاح الأصح هو فصل الدين عن السياسية مع التقدير للجميع وما اقصده بفصل الدين عن السياسية وليس عن المجتمع اي ان الدين ممارسات وقناعات شخصية لا يجب استخدامها سياسيا . كل الشعوب مرت بفترات استغل فيها الدين والمشاعر الدينية او المذهبية لأغراض سياسية بحتة مما حرف السياسية وشوه القيمة الحقيقية للدين من قبل السياسيين، ولهذا جاء هذا المبدأ ليحمي الدين اولا ولمنع استغلاله لمصالح خاصة كما حدث لدينا بشكل واضح.
د. خالد العرداوي:
في اعتقادي أن المشكلة في بلداننا لا تتعلق بجدلية العلاقة بين الثيوقراطية والعلمانية أو بين الدين والدولة، فقد جربت هذه البلدان الحكم العلماني والحكم برؤية دينية ، وفي كلا الحالين بقيت تعاني من نفس المشاكل، وتعيش نفس الظروف، بل بقي الإنسان فيها خارج معادلة الفعل الاجتماعي الإيجابي. فلم تستطع العلمانية بكل تياراتها والمتدينون بكل تياراتهم تحويل مبادئ العدالة والحرية والمساواة والتعايش والكرامة والعلم والنزاهة والكفاءة وحب الوطن وما شابه إلى قيم أخلاقية يشعر الفرد والمجتمع إزاءها بالالتزام والمسؤولية، قيم تطلب لذاتها وغير مسموح التجاوز عليها وانتهاك. لذا عندما نعقد مقارنة بين سر تقدم وتفوق الغرب وسر تراجعنا وتخلفنا نجد أن الغرب حول هذه المبادئ إلى قيم يشعر الجميع بالمسؤولية عن استمراريتها وجديدها. أما نحن فبقيت مجرد شعارات يرفعها المتدين والعلماني لمجرد توظيفها في صراع السلطة والنفوذ وتسقيط الغير. فمجتمعنا هو هو منذ مئات السنين في اطره الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بل وفي جدالاته ونقاشاته وتصوراته عن الكون والحياة والآخر. فكانت ومازالت البنى الفوقية في المجتمع انعكاس لبنى تحتية عنيدة على التغيير والتحول.
نعم قد تكون قيادات البنى الفوقية وجدت في استمرارية الأطر الحاكمة للبنى التحتية ضمان لمصالحها الضيقة لكون افقها الاستراتيجي ضيق أو لأنها أضعف من أن تملك قدرة وجرأة تحويل الجمود إلى حراك ثوري يعيد تشكيل الإنسان والمجتمع بطريقة تعيد الأمور إلى مسارها الصحيح في النظر إلى الماضي وترتيب أوضاع الحاضر بطريقة تجعل المستقبل هو ما نصنعه بأيدينا ولا نكون مجرد محكوم عليهم وخاضعين لمستقبل لم نحلم به ولم نكن جزءا من فواعل صناعته. إذن لا تشغلنا كثيرا قضية الصراع بين العلمانية والدين الموهومة ، بل لندرك أن فشل العلمانية ونقيضها سابقا ولاحقا بحاجة إلى الغور عميقا بالأسباب الكامنة وراءه. فمعرفة تلك الأسباب مع وجود الإرادة الصادقة في التغيير وتحمل تبعات هذا التغيير هو السبيل الوحيد لتصحيح العلاقة بين السياسة والدين من جهة وبين الدولة والمجتمع من جهة ثانية وبين الأنا والآخر من جهة ثالثة وبين الماضي والحاضر والمستقبل من جهة رابعة وبين الفقيه والأكاديمي من جهة خامسة
أ. عبد الحميد الصائح:
تتراوح الآراء فيها بين التحليل المنحاز وبين الانفعال الرافض لتجسيرها، هناك رؤيا تاريخية بدئية منذ انشاء الخلية الانسانية الاولى ، ونشوء بوادر السلطة والحكم بين توفير الحماية وتطويع الطبيعة ، او السلطة الروحية التي نمت باتجاهات اكثر تعقيدا ، هذه العلاقة المتقلبة بين السلطتين اصبح لها تاريخ من النزاعات والدماء والقصص منذ الاغريق الى العصور الوسطى الى جدلية النزاع بين حكم الملك وحكم الكنيسة، ولعل قصة الملك هنري الثاني وهو من أوائل الحكام الأوروبيين الذين عملوا على تقليص نفوذ الكنيسة الكبير بذلك الزمان وقتله للأسقف توماس بيكيت داخل الكنيسة الإنجليزية الكبرى وكان مبرره الأكبر هو تطبيق قانون مشترك يجمع سلطة الملك وسلطة الكنيسة معا في قبضته على الجميع، وهي الحادثة الاشهر لنزاع سلطة الدين وسلطة الملك .وقد الهمت كتابا مثل الفرنسي جان انويه في عمله الكبير – بيكيت او شرف الله _ الذي قدم للسينما فيلما بهذا الخصوص وت اس اليوت وعمله جريمة قتل في الكاتدرائية . قراءة الحق الالهي بالحكم هذه ، ونزاع الملوك والكهنة في ضوئها. تقابلها نظرية اجتماعية تتصل بمركزية الحكم ، العمل ام الايمان ، السلطة المطلقة ام القانون النسبي القوانين المنزلة ام العقد الاجتماعي .وهو امر يطول الحديث فيه .. بالنسبة لنا حتى اليوم وباختصار وقعت الحقوق المباشرة للمواطنين فريسة السلطات الدينية .. خاصة مع تأسيس احزاب دينية الاخوان او الدعوة او النهضة وغيرها الكثير تعلن نشر الدين وتبطن السعي للاستيلاء على السلطة .. مشكلتها انها تعيش (شيزوفرينيا التاويل ..) فهي تدخل الانتخابات وما ان تصل الى السلطة من خلالها حتى تتنصل عن آلياتها . تضطرب الدولة في ظلها لتداخل الروحي بالعملي ، القانون الوضعي المباشر المتصل بحياة الناس القائم على تطبيق النظام والخضوع لسلطة القانون، وبين سلطات غامضة مهوّله تحكمها تشويش مبدأ الحلال والحرام ، والعدالة وفق حكم الله – غير المتفق عليه بين المسلمين انفسهم – من هنا ، الدين نظام اجتماعي اخلاقي تربوي ،جدلي ، يتصل بالأزمات .فيما تعنى السياسة بإدارة الخدمات والتعامل المباشر العملي مع القانون .. لذلك ارى ان ثوابت الدين ومطلقياته ، لا يمكن ان تتفق مع متغير السياسة ونسبيتها ، وما يتصل بهذين المفهومين من تنازلات ومكر وتعاملات مع قوى مناهضة شتى لا يمكن للدين المحض الخالص ، ان ينسجم معها دون ان تخدش مواطن هامة في جوهره .
الشيخ ناصر الأسدي:
المسلك العلماني ظهر بعد الثورة على سلطان الكنيسة الديكتاتوري في أوروبا وهو يرفع شعار فصل الدين عن الحياة برمتها وليست السياسة فحسب الطب والتربية والنفس وكل الشؤون العلاقاتية والانسانية الاخرى ايضا هذا المسلك انبثق من واقع الظلم الاجتماعي والسياسي الفاحش هناك والذي قام على اسس من الخرافات الكاثوليكية والذي انتج اعدام حوالي ثلاثمائة الف عالم فيلسوف وفلكي ورياضي حرقا بالنار احياء لئلا تسقط قطرة دم واحدة منهم على الارض فيدنس تراب المعمورة البيئة والقواعد التي انتجت العلمانية المناقضة مع الدين معدومة عندنا الا بمقدار التأثر بتلك الافكار والفلسفات المستوردة العلمانية تعني ادارة الامور بناءا على اسس علمية بمنأى عن تعاليم الدين وهذا معناه تفريغ الادارة من الورع والتقوى واطلاق يدي المتصدي يصنع ما يريد لمجرد رأي عالم مادي في السياسة او الاقتصاد او.. وهذا اكبر جناية عظمى بحق الامة اذ كان قادة الدنيا اليوم في الغرب والشرق يعتقدون بعلمانية مسلكهم وهم يجرون الشعوب الى مطاحن الحروب والفقر والمرض يحرقون آلاف الطنان من القمح والسكر والفواكه لغرض الحفاظ على سقف الاسعار العالية هذا بناءا على بحوث مراكز دراساتهم العلمانية.
ان التجربة السياسية للأحزاب الدينية الوصولية ليست معيارا للحكم على المبادئ الشرعية بأنها تتناقض بشكل او آخر مع السياسة والاجتماع والاقتصاد فلو ان متدينا كذب او بهت او احتال او سرق او اعتدى على عرض لا يجوز بحال الصاق تجاوزاته المشينة بالعقيدة والنظام والدين الذي ينتمي اليه نموذج تجاوزات بني امية وبني العباس وبني عثمان نفسها ممارسات التيارات الاسلامية الحاكمة حاليا فالقضية تتطلب بحوثا معمقة للوصول الى صلب الحقيقة قدر المستطاع حسب قاعدة الميسور الاصولية.
د. علي السعدي:
مأزق العلماني - إشكاليات الديني كان الفصل بين الدين والدولة أو الدمج بينهما ، هو الموضوع الأكثر اشتغالاً بين المفكرين على امتداد قرون ، بداء من عصر الثورة الصناعية في أوروبا وإقامة دولة الرفاه والعقد الاجتماعي طبقا للنظريات التي تبنتها ( العلمانية ) الصاعدة .
لكن العلمانية وعلى رغم نجاحها في إقامة دولة مدنية لا يلعب الدين دوراً مباشراً في وظيفتها السياسية ، الا انها لم تستطع زحزحة الدين بمحمولاته الاجتماعية ، وان حجّمته بقوانين منعت ان يكون حاسماً في مسار الدولة ، التي أوجدت (دينها) الجديد المتمثل بالدستور .
لقد تشابه الدستور بجوهره مع الدين بنصّه ، فاذا كان النصّ المقدس – وهو أهم مرتكزات الدين – يلزم الإنسان بالطاعة لله والعمل بمقتضى ذلك النصّ في السلوك الاجتماعي ، ما يجعل الخروج منه بمثابة معصية تستوجب إيقاع الحرم في المسيحية أو الكفر الذي يتطلب العقوبة في الإسلام ، فإن نصوص الدستور هي أيضاً مقدسة للحاكم وملزمة للمواطن الفرد ، إذ ينبغي على من ينتخب حاكماً ، أن يقسم على احترام الدستور والعمل بموجبه ، وأي خروج عن ذلك، يعدّ بمثابة معصية تستوجب العزل أو المحاكمة ، كذلك يلزم المواطن التقيد بالقوانين المرعية الإجراء والمنبثقة بدورها عن نصوص ذلك الدستور.
أما في الأنظمة الثيوقراطية، فقد بقي الدين هو الدستور الفعلي الذي ينظم شؤون الحكم ويمنح الحاكم شرعيته ، لكن الإشكالات في النظم العلمانية كما في الأنظمة الدينية، بقيت واحدة في الجوهر .
لقد تواصل بنسبة واضحة ، تأثير المعتقدات الدينية على المجتمع وتحديد خيارات أفراده السياسية في الأنظمة الديمقراطية ، كما انبثقت أحزاب اتخذت أسماء دينية ( الحزب الديمقراطية المسيحي في ايطاليا – حزب المحافظين في بريطانيا – الخ ) كذلك ظهر تيار سياسي كبير في الولايات المتحدة سمي باليمين المسيحي ، أوصل رئيساً لقيادة أمريكا ( رونالد ريغان ) .
وعلى هذا ، واجهت العلمانية وأنظمتها ، مأزقاً في نظرية فصل الدين عن الدولة ، ففي حين فعلت ذلك في مواد الدستور ، بقي للدين تأثيره في السلوك السياسي لجموع الناخبين الذين يحددون شكل النظام وهيكلية الحكم طبقاً لذلك .
اما في الأنظمة التي تنادي بالدين أو تعتمد عليه ، فقد واجهت إشكالاتها منذ البداية ، حيث صعوبة الجمع بين متطلبات النصّ المقدس الثابتة ، وضرورات السياسة المتغيرة ، ما أسهم في ارتباك التطبيق في السياسة واستغلال الدين في إقامة الدكتاتورية ، وهكذا لم يربح الدين ممارسة سياسية متطورة ، ولم تطور السياسة نظرية فكرية تبعاً للمتغيرات .
لقد دخلت نظريات الفصل بين الدين والدولة كما في العلمانية ، أو اعتماد الدين في الدولة كما في الأنظمة الثيوقراطية ( حكم الدين ) حقل الفراغ ، ولم تستطع إيجاد ما يمكن تفسيره في تأثيرات الدين المجتمعية / السياسية في الأنظمة الديمقراطية ، كذلك عجز منظرو الدين في الدولة ، عن إيجاد حلول منطقية للأزمة التي تعيشها الأنظمة الدينية.
قد يكمن ذلك في ان النظرة الى ثنائية الدين والدولة، باعتبارهما كينونتين مستقلتين ، يجري جمعهما أو فصلهما طبقاً لنظام الحكم المتبّع ، لكن ماذا لو كانا في الأصل حقلاً واحداً بكينونة واحدة في وجهه الاجتماعي السياسي ؟ وبالتالي يمكن النظر الى كلّ منهما بمقاربة مختلفة عما هو سائد .
في تفكيك أولي لمفردة الدين ، سنجد انها قد تكون مستمدّة من الإدانة ،حيث الخطيئة الأولى التي ارتكبها آدم وسرت مفاعيلها على ذرّيته ، التي تكاثرت الى درجة احتياجها الى ظهور وسيلة للتوبة والسعي الى المغفرة ،والتوبة في الجوهر لا تتم الا عند الإقرار بالذنب أولاً ، لذا تحوّل الدين الى إقرار واستغفار معاً - قبول الإدانة وطلب المغفرة - .
كذلك قد يكون الدين من الدَين بمعنى القرض ، فالله يقرض الإنسان الحياة لأجل محدود هي العمر المكتوب له قبل الموت ، وفي مقابل هذا القرض الإلهي ، يطلب من الإنسان الطاعة والصلوات وحسن التعامل مع الآخرين وأداء العمل الصالح وما شابه ، ثم يستردّ الله قرضه ليتحول الى هبة دائمة في الجنة إذا أحسن الإنسان التصرف في القرض الدنيوي ، ويتحول الى عقاب – مؤقت أو دائم – في النار إذا أساء ، والله يطالب الإنسان قرضاً " واقرضوا الله قرضاً حسناً " أي اعملوا صالحاً لتستردوه ثواباً في يوم الدين – الآخرة –.
ذلك هو الجوهر في موضوع الدين .
أما الدولة ، فهي كذلك تقرض الكائن الاجتماعي – المواطن – حماية ومواطنة وحقوقاً ووسائل عيش وسواها ، مقابل ما يؤديه من واجبات =، خدمة وعملاً والتزاماً بالقانون – الخ ، وهو ان أحسن التصرف بهذا القرض ، يتمتع بكل موجباته ، فيما يعاقب بعكسها .
أما السياسة ، فهي الوسائل والأساليب التي يمكن من خلالها تنظيم أداء الدولة في قروضها ، وأداء المواطن في السداد ، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ما يسمح باستقامة المعادلة بين الجانبين – صاحب القرض والمستقرض - .
المقاربات للدين ، يمكن ان تتم من خلال اعتباره منجزاً اجتماعيا قابلاً للتغيير في جانبه الاجتماعي السياسي حسب الحاجة ، والمقدّس منه هو ما يدخل نصّاً أو استلهاما في الدستور الوضعي ، اما النصّ الديني بعموميته ، فيبقى شأناً خاصّاً بالفرد .
لا تعامل مع النصّ الديني إذا احتفظ بقدسيته المجتمعية ، إذ انه والحالة هذه سيبقى عرضة للاستخدام من قبل المؤسسة الدينية بكل أشكالها وإشكالياتها – أكليروس كنسي أو كنيس يهودي أو مرجعيات إسلامية – وهذه بدورها تضع اجتهاداتها في المقام الأول على حساب النصّ ذاته ، ما يجعل منها سلطة فعلية تتحكم بمسارات المجتمع ،خارج ما أقره الدستور الذي ارتضاه المجتمع وصوّت عليه.
الدستور الوضعي يمكن تعديله ويحاسب فيه الحاكم وفق بنود واضحة ، اما النصّ الديني فيمكن شرحه لا تغييره ، ولما كانت الشروحات تختلف بين رجل دين وآخر حتى في المؤسسة الواحدة ، لذا تحدث تلك الفوضى التي تقود الى اضطراب سلوكي مجتمعي حيث تنقسم الناس الى طوائف ومذاهب، يرى كلّ منها ان الحقّ الإلهي الى جانبه طبقاً لتفسيرات علمائه، التي تصبح بدورها بمثابة دين قائم بذاته، وهكذا ففي الوقت الذي يكون فيه دستور واحد يحتكم اليه جميع مواطني بلد ما وان تعددت أديانه وطوائفه ، يوجد في المقابل دساتير دينية متعددة بلا ضوابط بينها سوى ما قد تجود به تفسيرات المجتهدين في هذه الملّة أو تلك ، وبالتالي لا يمكن الاحتكام اليه سوى من قبل أبناء الطائفة المعنية ذاتها ، ليكون بذلك عامل تفرقة وتناحر، لا توحيد ومساواة كما هو الأمر في الدستور الوضعي .
فلسفة الدين والحالة هذه ، ستكون حقلاً مستقلاً يبقى اشتغاله ما دون تقديم إجابات قاطعة للإنسان بخصوص مصيره الآخروي، ومن ثم يتحول الإيمان الى قضية شخصية قد لا تكون بحاجة الى وجود مؤسسة لتنظيمها وضبطها بالضرورة ، كما هو الحال في موضوع السياسة والدولة ، حيث الانتظام في دستور منبثق من اشتغالات فلسفية ، تختلف معياراً ومنهجاً واستنتاجاً ، عما تشتغل عليه فلسفة الدين باعتباره قضية شخصية لا مجتمعية كما أسلفنا .
لكن ماذا لو تحوّل الفصل هنا ، ليس بين الدين والدولة ، بل بين الفرد والمجتمع ؟ وهي نظريات لم تثبت ناجعتها كذلك ، باعتبار ان الفرد كائناً اجتماعيا ، فقد أشكلت الماركسية حين حاولت إذابة الكينونة الفردية لمصلحة الجماعة ، في مقابل أزمة العلمانية التي جعلت الفرد في الاعتبار الأول .
تلك حالة يمكن تلمّس حلولها في مظاهر الذوق والهوايات التي تتمايز بين إنسان وآخر ، فلا خلاف ان الذوق والهواية حالة شخصية ، إذ بإمكان الفرد ان يحبّ لوناً دون غيره أو يستمع الى موسيقى معينة ، كذلك قد يمارس هواية من نوع ما ، وكلها نشاطات فردية وان دخلت في إطار اجتماعي ، لكنها لا تؤثر في علاقة الفرد بالمجتمع ، مادامت تمارس ضمن ضوابط القانون والحرية الفردية .
ولما كانت الهواية والذوق قابلان للتطور وفقاً لتطور الفرد في ثقافته وتجربته الحياتية ، كما انهما يشكّلان جزءاً رئيساً من شخصيته عبر مراحلها العمرية والمعرفية ، لكنهما في كلّ حال ، لا يعتبر ان بالنسبة له ، شيئين مقدسين لا ينبغي تجاوزهما أو اعتناق هوايات أخرى بديلة ، كذلك يمكن النظر الى المعتقدات الدينية من منظورها الفردي ، إذ تصبح والحالة هذه بمثابة ( ذوق ) فردي قابل للتطور أو التبدل حسبما يراه الفرد عبر مراحل حياته ، من دون ان يلزم في منظومة دينية موروثة تحتّم عليه البقاء ضمن جماعة محددة ،ذلك لأن المعتقدات الدينية حين تتغير وظيفتها الاجتماعية من الإلزام الى الاختيار ،تتغير تبعاً لذلك وظيفتها الفردية ، لذا يصبح اعتناقها في جماعة ، كما في اجتماع أصحاب الهوايات المشتركة ، انجذابا حرّاً أو افتراقاً دون إكراه .
ذلك ما نرى تجسيداته في حقّ الطلاق في الإسلام ، انه أبغض الحلال عند الله ، لكنه يعتمد على قاعدة جوهرية في السلوك المجتمعي والفردي على حدّ سواء( إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) فاذا كان التصرف بالخليّة الاجتماعية الأهم في حياة الأفراد ، يتمّ على هذه الشاكلة ، فلماذا لا ينتقل ذلك الى اختيارات الفرد في حريته المعتقدية ؟.