العقل الرادع للشهوات
قبسات من فكر المرجع الشيرازي
شبكة النبأ
2025-11-06 05:20
(العقل يأمر بالقناعة، والشهوة تأمر باتّباع النفس والهوى)
من الهِبات العظيمة التي وهبها الله تعالى للإنسان، هِبَة العقل، بحيث أصبح الإنسان سيد الكائنات بعقله، وكما هو المعروف فإن عقل الإنسان هو (الكونترول) الذي يتحكم بكل شيء في الإنسان، فيمنع انحداره في مستنقع الشهوات الخارجة عن طوق المعقول والمقبول والمشروع أيضا، وذلك عبر استخدامه للقناعة التي تضبط إيقاع الملذات والشهوات، وتجعلها ضمن الحدود السليمة التي لا تؤذي الإنسان ولا تقوده إلى الشرْ.
فكما يؤكد الدارسون والباحثون المهتمون بالإنسان وعقله وتقييمه النفسي، أن هنالك قوَّتين تخالف إحداهما الأخرى، فواحدة منهما تصب في صالح الإنسان وتجعله في حالة وسطية متوازنة وصحيحة، والقوة الثانية، تسعى لدفع الإنسان نحو الشهوات (المحرَّمة)، وهي بذلك تريد أن تلحق به الأذى، ولأن طبيعة النفس البشرية تميل نحو شهواتها، فتندفع نحو الملذات المتنوعة، حتى لو كانت خارج المسموح به.
وهكذا يجد الإنسان نفسه مدفوعا برغباته وشهواته نحو الملذات غير المشروعة، لكن هناك دائما ما يصدّ الشهوات ويشذبها ويعيدها إلى الصواب، وهو العقل الذي يستخدم القناعة كأداة يحارب بها أي خروج للشهوات خارج المقبول، فالقناعة تجعل الإنسان (وسطيا)، لا يوغل في اللذات، ولا يصبح أسيرا لشهواته، بل يحتمي بعقله ويجعل من القناعة درعا يقاوم الانحراف، ويمنع الانزلاق في المسالك المتعرجة للشهوات.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يقول في إحدى محاضراته القيمية ضمن سلسلة نبراس المعرفة وتحمل عنوان القناعة وحب الشهوات:
(لقد أودع الله تعالى في الإنسان قوّتان، وغالباً ما تكون هاتان القوتان متعارضتين تمضي إحداهما نقيض الأخرى. وهاتان القوتان هما: القناعة، وحبّ الملذات من الشهوات. ولكلّ واحدة منهما أنصار يدفعون باتجاهها، فالعقل يؤكّد دوماً على الأخذ بجانب القناعة في مختلف مجالات الحياة، لأنّ القناعة هي التي تجعل الإنسان سعيداً في الدنيا والآخرة).
الاستفادة من نور العقل
كذلك هنالك تأكيد في القرآن الكريم على أهمية القناعة في معالجة الخلل الذي يحدث نتيجة للشهوات المنفلتة، حيث تكون القناعة سبيلا لتقويم الشهوة، ولا تسمح بانفلاتها، بل تُبقي عليها ضمن الحدود الصحيحة والمقبولة، لأن الشهوات عبارة عن غرائز موجودة في الإنسان، ولا يصح تركها كما تريد أو ترغب، بل لابد من تحجيمها ضمن المعقول.
لأن حالة الانفلات، وغياب الضوابط، تعني إطلاق العنان للطمع والأهواء والرغبات الجامحة، وهذا لا يصب في صالح الإنسان، كونه في حالة إطلاق الشهوات سوف يعيش تعيسا كئيبا، لا يشبع من الملذات، وكلما حصل على ما يريد يطالب بالمزيد، والنتيجة يصبح شقيّا ليس في الدنيا وحدها بل في الدار الأخرى أيضا.
كما يؤكد سماحة المرجع الشيرازي دام ظله قائلا:(إن القرآن الكريم أكّد مراراً على القناعة وعدم الطمع والجشع واتّباع الشهوات، فالشهوات هي رغبات جامحة تنطلق غالباً من الحرص والطمع على طلب لذائذ الدنيا ونيلها، مما تجعل الإنسان شقيّاً في الدنيا والآخرة).
ويضيف سماحته أيضا: (الإنسان الذي يسير خلف رغباته وشهواته ويتخلّى عن عقله ولا يستفيد من نور عقله، سوف يخسر دنياه وآخرته).
لهذا ترتبط سعادة الإنسان بدرجة أو مقدار قناعته، بمعنى كلما كان الإنسان معمَّدا بالقناعة، كانت سعادته أكبر، ويصح العكس بطبيعة الحال، لهذا عليه أن يستثمر (نور العقل) بالطريقة التي تفتح له الطرق نحو الخير ونحو التوازن، فلا فائدة من جعل الشهوات تسرح وتمرح كما تشاء، ولا يصح ترك النفس تتحكم بكل شيء، بل العقل يجب أن يتحكم بكل شيء.
لأن النفس إذا تحكمت بالإنسان وعقله، سوف تجعل من حياته عبارة عن سلسلة من الفشل المستمر، بسبب لهاثه خلف شهواته الخارجة عن طوق المقبول، والملذات هنا تشمل كل شيء ترغبه النفس، مثل الأطعمة وتناولها بكثرة بحيث تكون التخمة هي النتيجة، ويكون الموت هو النهاية، لذا ينبغي أن يفهم جميع الناس بأن القناعة هي أداتهم التي تنقذهم من السقوط في مستنقع الانحراف.
حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(يكون الإنسان سعيداً في الدنيا والآخرة بمقدار نسبة اتّباعه للقناعة وبمقدار ما يستفيد من نور عقله الذي خلقه الله تعالى له. وفي المقابل يكون الإنسان شقياً في دنياه وآخرته بمقدار ما يسير وراء ملذّاته وشهواته المحرّمة وحتى المكروهة، كالأكل بمقدار التخمة الذي يؤدّي بالإنسان إلى الموت).
كيف تفوز بدار البقاء؟
ولابد أن يدرب الإنسان نفسه على التعامل مع القناعات والشهوات، ويصنع حالة من التوازن بينهما، بحيث لا يسمح للشهوات أن تُضعف القناعة وتجعلها هامشية ولا قدرة لها في صدّ الشهوات المنفلتة، وفي نفس الوقت لا يجب أن تكون نسبة القناعات عالية جدا بحيث تحرم الإنسان عن الشهوات المقبولة والمسموح بها شرعا وعقلا.
فإذا فهم البشر هذه النسبة المتوازنة بين القناعات والشهوات، سوف يكون قادرا على العيش في أجواء سعيدة، ولن يكون مسرفا في شهواته ولا محرما منها، بل هذا علاقة متوازنة بين الاثنتين، تجعله متحكما بشهواته وفي نفس الوقت يحصل على المستوى المقبول شرعا وعقلا من الشهوات، وهذه العملية ليست سهلة، والوصول إليها يحتاج إلى تدريب متواصل للنفس، حتى يمكن بلوغ النِسَب المتوازنة بين القناعات والشهوات.
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يقول حول هذه القضية:
(المهم أن يُلقّن الإنسان نفسه على حقيقة النِسب المختلفة من القناعات ومن الشهوات، ويصمّم عند تعارض القناعات مع الشهوات أن يرجّح عملياً كفّة القناعة على كفّة الشهوات والملذّات، فالإنسان بفهمه لهذه النسبة والعمل بها سوف يكون سعيداً ويعيش في الدنيا بما خلق الله تعالى لأجله).
إن الكلام عن المقادير والنِسَب أمر لابد منه، بل من المهم معرف هذه المقادير والنِسِب، وفي كافة مجالات الحياة، ولا يصح الاهتمام بمجال معين وترك المجالات الأخرى، فالسياسة مثلا تحتاج ممن يعمل فيها إلى معرفة المقادير والنسب، وكذلك في حقل الاقتصاد، والاجتماع، والصحة، وعموم مجالات الحياة الأخرى.
لماذا على الإنسان معرفة هذه المقادير، لأن العقل يكون بحاجة لمعرفة هذه النسب والمقادير، حتي يكون في ضوئها قادرا على التعامل السليم المتوازن في هذا المجال أو ذاك، فلا إسراف في الاقتصاد، ولا تحجيم، بل وسطية، وهذا ينطبق على مجال السياسة وجميع المجالات الأخرى، حيث يتمكن العقل من خلال معرفة المقادير والنسب، أن يوازن بين القناعات والشهوات، ويخرج بحصيلة النجاح ويبعد الفشل عن الإنسان.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(يحتاج الإنسان الى مقادير ونسب في جميع المجالات، ومنها مجال السياسة والاقتصاد ومجال الاجتماع وعلم النفس ومجال صحّة البدن ومجالات أخرى يُستفاد منها في مختلف شؤون الحياة، وهذه النسب هي التي تحكّم العقل ليحكم بالقناعة وتكبح جماح الشهوات لمنعها من أن توصِل الإنسان الى الموت والهلاك).
بالنتيجة نستطيع أن نقول بأن ما جاء في أعلاه، يعطي للناس صورة واضحة عن العقل الرادع للشهوات، حيث نحتاج جميعا إلى هذا النوع من العقول القادرة على التحكم بالغرائز والشهوات، ولا يسمح لها بالانفلات أو الخروج عن الطوق المسموح به، سواء من الناحية العقلية أو الشرعية أو العرفية والأخلاقية، فالنتيجة التي يهدف إليها الإنسان الحكيم، أن يمتلك هذا النوع من العقول (ونقصد العقل الرادع للشهوات)، حتى يخرج من هذه الدنيا بدرجة نجاح تؤهله للفوز بسعادة دار البقاء والهناء.