تأمَّلوا في الدنيا قبل أن تمرّ

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

شبكة النبأ

2025-09-04 04:58

(الدنيا تغرّ وتضرّ وتُلحق الضرر بالإنسان في الدنيا والآخرة)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

كثيرا ما قرأنا في أحاديث وكلمات أهل البيت عليهم السلام، عن الدنيا بأنها فانية، أو زائلة، والبقاء للدار الأخرى، وزوال الدنيا يحتّم على الإنسان أن يتأمل رحلته فيها، ويتأمل حياة الآخرين، وما مرّوا به من تجارب وأحداث وقصص، فكل إنسان عنده رحلة محددة تنحصر بين البداية والنهاية، البداية هي الولادة، والنهاية هي الموت وما بينهما رحلة العمر.

يتخلل رحلة العمر في الدنيا كثير من الدروس، عليه أن يعرفها جيدا ويتعامل معها بصورة صحيحة، وهذا لن يكون متاحا له إذا لم يعرف ما هي الدنيا، فخلال رحلة العمر سوف يتعرض الإنسان، للغرور، وللضرر أيضا، ومن ثم دنياه سوف تمرّ، بمعنى تنتهي، وعليه أن يحصد النتائج أو المخرجات التي قدّم لها في دنياه.

الغرور يحدث بسبب المغريات الهائلة، المال والسلطة والنفوذ والنساء وسوى ذلك الكثير، يقول الإمام علي عليه السلام حول ماهيّة الدنيا: (الدنيا، تغرّ، وتضرّ، وتمرّ). وهو قول في غاية البلاغة، بل قال علماء البلاغة عن كلمات الإمام علي عليه السلام (فقأنَ عين البلاغة)، فقد أوجز الإمام الدنيا بهذه الكلمات التي اختصرت جميع المعاني وأوجزت كل المضامين التي تنطوي عليها الدنيا، لهذا من المهم أن يعرف الإنسان الدنيا، لكي يكون قادرا على التعامل معها بنجاح، لاسيما أنها (تغرّ وتضر ثم تمرّ.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يقول في سلسلة نبراس المعرفة بالمحاضرة التي حملت عنوان: الدنيا تغرّ وتضرّ وتمرّ:

(إن الانسان والبشر والمؤمن والمؤمنة والعالم والتاجر والحاكم وأي شخص سلفاً، المهم ان يعرف الدنيا ما هي حتى يكون تعامله معها تعاملاً مع شيء (يغرّ ويضرّ ويمرّ)، فالدنيا تعني مال الدنيا، وتعني جمال الدنيا، وتعني الرياسة في الدنيا وتعني الشهوات في الدنيا). 

السقوط في فخ الغرور

في رحلة العمر، بين الولادة والموت، يتعرض الإنسان إلى الكثير من الاختبارات، ومنها صعبة وعصيبة، وهنالك الكثير من المغريات التي يجدها في طريقه، فقد يكون ضحية لها، ويفقد السيطرة على نفسه فيتفاعل معها ويسقط في شرَكِها، فتأخذه في طريق الانحراف، وقد يُصاب الإنسان بالغرور، خاصة عندما يحقق بعض الإنجازات.

وهكذا يكون تحت وطأة الضرر، سواء في الدنيا، حيث الغرور يدفع به نحو أعمال الشر، فيكون تحت طائلة القانون والعقاب، بالإضافة إلى الحساب الذي ينتظره في يوم القيامة، كونه ألحق أذى بالناس، وهذا يجعله خاضعا للحساب، ويلحق به ضررا، فإذا أصيب بالغرور يشعر بنفسه قويا، وهذا الشعور يفقدُه سلامة التقدير الصحيح، وبالتالي قد يرتكب أفعالا ليست صحيحة، وقد تشكل معصية أو ذنوبا يُحاسَب عليها.

ولكن بالنتيجة كل شيء يمر، العمر وسنواته المتعاقبة تمرّ، والمناصب تنتهي وتمر، والقوة التي يتباهى بها الإنسان تضمحل، وكل شيء سوف يؤول إلى الزوال، لهذا يجب على المرء أن يحسب حسابه، ويراعي ما سيحدث له سواء في الدنيا، أو في الآخرة، وعليه أن يحكّم عقله جيدا ويفكر جليّا بالعواقب التي سيتعرض لها، فلا مناصب ولا قوة ولا سلطة ولا مال يبقى دائما بل كل شيء يمضي وينتهي، وعلى الإنسان أن يفهم هذا جيدا. 

 يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(خلال الفترة بين الولادة والموت يكون الإنسان في هذه الدنيا بالغرور والضرر والمرور، ويمرّ عليه كل شيء وينتهي كل شيء، المال ينتهي والعمر ينتهي والرئاسة والحكومة تنتهي والشهوات تنتهي والجمال ينتهي والعلم ينتهي والشخصية تنتهي وكل شيء ينتهي).

هكذا هي الدنيا وعلى كل إنسان أن يفهمها جيدا، وأن يحتاط منها، فهي تجعل من الإنسان في حالة من الغرور الكاذب أو المزيّف، كونه ينطلق من أسباب ليست سليمة، فهو لا يمتلك القوة المطلقة التي يشعر بها وهو في منصب الرئاسة أو القيادة أو القدرة على اتخاذ القرارات السلطوية الكبيرة، لهذا فإن الدنيا تضع الإنسان تحت مطرقة الخداع.

وجميعنا نعرف بأن الخداع ليس في صالح الإنسان، فإذا تمكنت الدنيا من أن تخدعك، هذا يعني أنها ستلحق بك ضررا جسيما، وبالنتيجة أنت معرض أيضا للانتهاء أو الزوال، فكل شيء يمضي، ولا شيء باق إلى الأبد في الدنيا لأنها هي نفسها ستمضي إلى الزوال، وهذا درس بليغ على الإنسان أن يفهمه جيدا ويعرف نتائجه مسبقا.

وفي كل الأحوال الدنيا تغرّ الإنسان وتضره وهو على قيد الحياة، وهذا أمر جربناه ولمسناه وعشناه بأنفسنا، إلا من كان متعقلا وحكيما ومؤمنا وعارفا بشكل دقيق بأن الدنيا تغرّ البشر وتلحق به الضرر ثم تمضي، باستثناء من يفهمها جيدا ويقاومها بقلبه وعقله وإيمانه.

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله، يبيّن هذه النقطة حينما يقول:

(الدنيا أولاً تغرّ الانسان وتخدعه، خداع وليس حقائق، وثانياً هذا الخداع ليس نافعاً للإنسان بل يضرّه، وثالثاً الإنسان لا يبقى أيضاً. فالدنيا تغرّ وتضرّ وتُلحق الضرر بالإنسان في الدنيا والآخرة وتمرّ وتنتهي).

ترك المغريات والتباهي بالسلطة

ولكن كيف يتمكن الإنسان من الإفلات في هذه الدنيا، والعبور إلى ضفة الأمان بعيدا عن الغرور والضرر؟

هل هناك سبل للخلاص من ذلك؟، بالطبع توجد سبل وأسباب تجعل الإنسان قادرا على حماية نفسه من غدر الدنيا، وفي المقدمة من ذلك أن يحصل على العِبَر اللازمة التي تقيه من حبائل الدنيا، وغرورها وخداعها، فعندما يبحث عن الدروس والعِبَر في هذه الدنيا، سوف يحصل عليها، ولكن حتى لو لم تكن له قدرة على ذلك هناك فرصة أخرى تتوفر لديه.

وهي تتمثل بحالة التأمل التي يجب أن يبديها هو تجاه الدنيا والناس الذين يقيمون حوله سواء كانوا من أقاربه أو من زملائه وأصدقائه، فهو يمكن أن يحصل على الدروس التي تنقذه من الضرر في الدنيا إذا تأمل تجارب الآخرين، كالطغاة عبر التاريخ وما حصل لهم، وأنظمة الحكم الظالمة التي دخلت التاريخ عبر أخطائها ومساوئها وظلمها للناس.

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يقول: 

(لو لم يأخذ الإنسان من العِبر وهي كثيرة وكثيرة جدّاً، فيكفيه التأمّل في الدنيا وفيمن حول الانسان من اقرباء ومن زملاء، التأمّل في تاريخهم وما صنعت الدنيا بالآخرين اخذاً من الطغاة امثال فرعون ونمرود وشدّاد وبني امية وبني العباس واضرابهم أمثلة).

وكذلك يمثل أصحاب الثروات الحرام كقارون وغيره، هؤلاء دروس يمكن أن يتعلم منها كل إنسان يريد أن يحمي نفسه من مكائد الدنيا وأضرارها، والتي لا تكتفي بذلك، بل تريد أن تلحق به ضرر الآخرة أيضا.

وهناك علماء يمكن أن يكونوا بمثابة الدروس التي تساعد الإنسان كي يتقي الضرر، فيوجد منهم غرّته الدنيا وأساء للآخرين، حتى بعض الشباب وحماستهم يمكن أن ينزلقوا في طرق الانحراف لاسيما أنهم محاطين بالشهوات والملذات والمغريات، بل حتى مختلف النساء والرجال يمكن أن يكونوا دروسا للإنسان عندما يتأمل تجاربهم جيدا.

كما يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

كذلك هناك (أصحاب الاموال الكبيرة كقارون وغيره، والى العلماء الذين جاؤوا الى الدنيا وذهبوا في مختلف الفنون الدنيوية والفنون الدينية، والى الشباب وما عندهم من الشوق الأكيد الى شهوات الدنيا وملذّاتها والى النساء والرجال جميعاً).

خلاصة القول، لابد لكل شخص أن يدرك رحلة العمر الخاصة به، وعليه أن يعرف ويفهم طبيعة الدنيا بصورة دقيقة، حتى لا يكون ضحية الغرور الدنيوي ولا الضرر في الدار الأولى أو الأخرى، فكل إنسان معرض في الدنيا لهذا الاختبار العصيب، وعليه أن يجتازه وذلك عندما يتجنب الغرور والمغريات والتباهي بالمناصب والسلطة والرئاسات، فلا شيء ينقذه من الحساب والعقاب سوى سلوكه العقلي المتمكن والقادر على حمايته من فخاخ الدنيا.

ذات صلة

الجمود الفكري والانحطاط الحضاريولادة الأمة الإسلاميَّةيا حَيدَر.. لقَد بكَّرتَ الرَّحيلبلاد النهرين تموت عطشاًثعلب الشاعر احمد شوقي في فترة الانتخابات