الاختبار الصعب بين مرارة الدنيا وحلاوة الآخرة

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

شبكة النبأ

2025-08-28 04:52

(إذا لم يصمم الإنسان ويربي نفسه على تحمل المرارات سوف يظلم نفسه ويظلم الآخرين)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

هناك مرارات كثيرة تواجه الإنسان في دنياه، منها بل وأغلبها يحمل صعوبة هائلة على الإنسان، ومطلوب منه أن يتحلى بقوة صبر كبيرة في مواجهة هذه المرارات، لكي يستوعبها ويتحملها، فالدنيا مجبولة على المرارة، ولا يصح أن يهرب الإنسان من هذه المرارات إلى عكسها بطرق وأساليب تجعله يظلم الآخرين.

الحاكم مثلا أو صاحب السلطة، إذا كرسّ سلطته لكسب الأموال والجاه وأغرق عقله وجسده بالملذات، فإنه سوف يتمتع بدنياه ويتذوق حلاوتها، ولكن ما هو الثمن الذي يقابل كل هذه الملذات والمغريات والسعادات الوقتية السريعة؟، الثمن هو لجوء الحاكم إلى ظلم الناس، وتطبيق القوانين الجائرة بحقهم، ومصادرة حرياتهم والتلاعب بحقوقهم، كل هذا سوف يقوم به الحاكم الذي لا يمكنه تحمّل مرارة الدنيا، لهذا يلجأ الحكام إلى ظلم الناس.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يتساءل في محاضرة قيِّمة عن الظلم، ورد هذا التساؤل ضمن سلسلة نبراس المعرفة:

(الحكام الظالمون في الدنيا لماذا يظلمون؟، لأنهم لا يريدون تحمل مرارة الدنيا فيلجأون إلى ظلم الرعية).

ليس الحكام وحدهم من يظلم الآخرين، فهناك آباء وأمهات يظلمون أبناءهم، واولاد يظلمون آباءهم، وأزواج يظلمون بعظهم بعضا، والسبب يكمن في عدم تحمله لمرارة الكلام أو مرارة العمل، أو مرارة المسؤولية وصعوبتها، وهذا يأتي في سياق عدم قدرة الإنسان على تحمل مرارات الحياة التي تلزم الإنسان بإنجاز الكثير ضمن إطار المسؤولية الملقاة على عاتقه.

فهنالك آباء مثلا يتخلون عن مسؤولياتهم إزاء أبناءهم، حتى يتلذذوا بالدنيا، وهذا ظلم ما بعده ظلم، وينطبق الأمر على كل ذي مسؤولية يتهرب من أدائها لأنها تتطلب جهدا أو وقتا أو جدية أو تحرم من يقوم بها من ملذات ومكاسب فردية، وهذا هو الاختبار الصعب الذي يواجه الإنسان، فعليه أن يختار بين مرارة الدنيا (أداء العمل، الالتزام بالمسؤولية، القيام بواجباته على الوجه الأمثل)، هذه الالتزامات هي عبارة عن مرارات وعلى الإنسان أن يتحملها.

الالتزامات عبارة عن مرارات

يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: (الآباء والأمّهات يظلمون أبناءهم بنفس المنطلق أيضاً، وهكذا الأولاد يظلمون آباءهم، والزوج يظلم زوجته لأنه لا يريد أن يتحمل مرارة الكلام ومرارة العمل وغيرها، وكل هذه الأمور تأتي بسبب عدم تلذّذ الإنسان بالحياة وعدم تحمله مرارتها، فإذا قلع عن نفسه ذلك الأسلوب فإنه يعيش في سلام في الدنيا وسينعم بالآخرة ويَسلَم الاخرين منه).

وهكذا فإن كل إنسان يدور في دائرة تكاد تكون مغلقة هي دائرة الدنيا، ويوجد في هذه الدائرة مصاعب ومشقات ومرارات، وما على الإنسان سوى مواجهة هذه المصاعب وتحمّل ثقلها وصعوبتها، حتى لا يذهب في الاتجاه الخاطئ ويظلم الآخرين، لأن عدم مواجهة مرارة الدنيا تعني ظلم الإنسان للناس.

الواجب على كل شخص أن يربي نفسه ويعلّمها على تحمل المرارات، فهذا التعليم والتمرين هو السبيل الوحيد لتجنب القيام بظلم الآخرين، والأمر هنا واضح جدا، فالمعلم مثلا إذا لم يتحمل مرارة التعليم الصحيح والجيد والشاق للطلبة، سوف لا يتعب نفسه في أداء التدريس الصحيح وبهذا فإنه يلحق الظلم بالطلبة، وهذا المثال ينطبق على الآباء والحكام وكل ذي مسؤولية.

لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(من لم يربِّ نفسه على تحمل المرارات سوف يصدر منه ظلم ويكون واجهة لارتكاب المظالم).

أما لو أننا تساءلنا عن طبيعة وماهيّة مرارة الدنيا، وكيف نتعرف عليها، فإنها في الحقيقة واضحة وضوح الشمس، فكل مسؤولية وكل عمل متعب ويضاعف الجهد على الإنسان سوف يدخل في إطار (مرارة الدنيا)، حيث يؤكد سماحة المرجع الشيرازي دام ظله القول بأن:

(المرارة هي نوع من العمل المُجهد والمتعب).

ويضيف سماحته توضيحا أقوى وأشد حين يقول بأن: (المرء يظلم الآخرين إذا لم يتحمل مرارة الدنيا). لهذا من الواجب على كل إنسان يسعى ويخطط للفوز بحلاوة الآخرة أن يتحمل ويستوعب مرارة الدنيا، وأن يتجاوب مع هذا الأمر ويتعاطى معه وكأنه شيء لا مهربَ منه، وعليه أن يتعامل مع الأمر وكأنه جزء من حياته وواجباته، بمعنى يجب أن عتاد على استيعاب المرارة.

لهذا إذا كان الإنسان ينظر إلى نفسه منتميا للإسلام، يؤمن بالله تعالى وبكتابه الحكيم وبرسله وأنبيائه، وبالعترة الطاهرة من أئمة أهل البيت عليهم السلام، ويؤمن بالثواب والعقاب، والجنة والنار، والوصول إلى يوم الحساب، على هذا الإنسان أن يعد العدة لهذه المواجهة، وعليه أن يخلص نفسه وينجح في الاختيار من خلال عمل الخير حتى لو كان مجهِدا ومتعِبا وفيه مرارات كبيرة، لأنه الطريق الوحيد للفوز بمزايا الدار الأخرى.

الإيمان الراسخ والإرادة القاطعة

كذلك علينا أن نعتاد ونتعلم على أن نهمل القبيح ونضعه خلف ظهورنا ولا نقترب منه حتى لو كانت فيه مغريات وملذا ومكاسب لنا، فالقبيح يجب أن يكون مرفوضا حتى لو حمل لنا في طياته مغريات، وحتى لو كان تركنا له يجعلنا نعيش المرارة، لأن المهم في نهاية المطاف أن نفوز بالصراع ما بين مرارة الدنيا وحلاوة الآخرة.

يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(نحن كمسلمين، إذا كنّا نعتقد بالله تعالى وبكتابه وأنبيائه، ونؤمن بنبيّ الإسلام وبالعترة الطاهرة صلوات الله عليهم، ونؤمن بوجود الثواب والعقاب، الجحيم والنعيم ـ فعلينا أن نخطط لأنفسنا ونعمل الخير والأمور الحسنة وإن كانت فيها مرارات، وعلينا أيضاً أن نترك القبيح وإن كان في تركه مرارة لأنفسنا).

أما إذا صممنا بإيمان راسخ وبإرادة قاطعة على الخروج بالفوز من (الدنيا) أو من قاعة الاختبار فإن مرارات الدنيا سوف تمر وتمضي من دون أن تلحق بنا وبأعصابنا التحطيم والأذى، لأننا عقدنا العزم على الفوز، وهذا يجعلنا أكثر صبرا وخبرة وتحملا لما تفرزه المرارات من أذى علينا، فنحن لدينا هدف واضح المعالم وعلينا قطف ثماره وبلوغه ألا وهو حلاوة الآخرة التي تتقدم نحونا يوما بعد آخر، ذلك أن القيامة تبدأ من لحظة الموت وحتى الخلود.

حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: 

(إذا عقدنا الإرادة على ذلك، فإن مرارات الدنيا سوف تمرّ علينا من دون أن تحطم أعصابنا أو تؤثر فينا سلباً بدرجة كبيرة، فالذي يعقد الإرادة يعلم بأن حلاوة الآخرة قادمة، ففي الحديث الشريف: (إذا مات ابن آدم قامت قيامته)، والقيامة تبدأ من لحظة الموت وحتى الخلود، وفيها سوف ينعم بالحلاوة الحقيقية).

لذا على كل إنسان أن يعزم على فعل الخير، ويتمسك بهذا كمنهج في حياته، لأن فعل الخير سوف يجعله من الفائزين في الاختبار العصيب، ولا يهم إن كان هذا الفوز ضئيلا، فالمهم أن نحقق درجة النجاح عند الخروج من الدنيا.

كما يؤكد سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: 

(من هنا فإذا عزم الإنسان على فعل الخير، سوف يوفق وإن كان بنسبة ضئيلة، لأنه سيكون رابحاً بتلك النسبة مادامت الدنيا خُلقت للمرارة والامتحان).

إذن هو اختبار عصيب، ومن لا يعد العدّة الصحيحة له قد يفشل في نتيجة الاختبار، وهو ما لا يتمناه أي إنسان في الوجود، فالخاتمة بعد رحلة الشقاء يجب أن تأتي في صالح الإنسان، ولا ينبغي أن يتلذذ ويظلم ويغرق في الشهوات، ثم يصل إلى تلك النتيجة العصيبة التي ستكون بانتظاره في يوم القيامة والحساب، لذا على كل إنسان القيام بأعمال مفيدة تزيد من حسناته، حتى لو كانت سببا في مرارات الدنيا لأنها الطريق المؤكد إلى حلاوة الآخرة.

ذات صلة

اصلاح القضاء وبناء الشرعية الدستوريةفي ذكرى وفاة السيدة سَكينة بنت الإمام الحسين: البطولة في العفّة والكَلِمةالإنسان المعاصر بين بناء الحضارة والبحث عن الذاتما وراء الفصل العنصري والإبادة الجماعية في فلسطينمن أين لك هذا امام صندوق الاقتراع؟