لماذا تذهب أَسباب التَّمكين أَدراجَ الرِّياحِ
أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ السَّابِعَةُ
نـــــزار حيدر
2020-05-02 04:45
(٥)
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}.
السُّلطة هي واحدةٌ من أَهمِّ أَدوات التَّمكين وأَخطرها في آنٍ، والمقصُودُ بها تفويض قوَّة التصرُّف بغضِّ النَّظر عن طبيعتِها ونوعيَّتِها، سواءً أَكانت سياسيَّة أَو إِداريَّة أَو إِقتصاديَّة أَو علميَّة أَو غيرِها.
أَحياناً نستغربُ من فشلِ السُّلطةِ عندنا على الرَّغمِ من أَنَّنا نُهيِّء كلَّ الأَسبابِ لزَيدٍ أَو عمرُو!.
إِذا دقَّقنا في العِلل فسنلحظ أَنَّها ليست في أَدوات التَّمكين أَو حتَّى في توقيتهِ، وإِنَّما في زيدٍ نفسهُ أَو عمرُو فهو غَير قادر أَو عاجزٌ على استيعابِ أَسباب التَّمكين للنَّجاحِ في مُمارسة السُّلطةِ، فهو سيفشل مهما تهيَّأَت لهُ الأَسباب والأَدوات وفي أَيِّ زمانٍ ومكانٍ.
إِنَّ التَّمكين للسُّلطةِ تحديداً وشروطهُ وأَدواتهُ يلزم أَن تتهيَّأ لأَصحابِها وليسَ لأَيٍّ كان، لتُؤتي أُكلَها وثِمارها وإِلَّا فسنُضيِّع الجهُود ونُفرِّط بالزَّمن وتعمُّ الفوضى.
تعالُوا نُدقِّق في الآيةِ الكريمةِ أَعلاه؛
فالملكُ كلَّم يوسُف (ع) قبلَ أَن يُقرِّر تمكينهُ من السُّلطة، أَي أَنَّهُ اكتشفَ أَوَّلاً حقيقة قدراتهِ التي يتمكَّن بها استيعابِ التَّمكينِ للسُّلطة ولمَّا اطمأَنَّ لها مكَّنهُ منها.
فهو لم يفوِّضهُ السُّلطة كونهُ نبيّاً، بل اختبرهُ فوجدهُ أَهلاً لها فمكَّنهُ مِنها، ومِن ذلكَ رجاحةُ العقلِ ورزانة الشَّخصيَّة والتَّدبير والعقليَّة الرَّاجحة.
بمعنى آخر، أَنَّ يوسُف (ع) كانَ يتمتَّع بالقُدرة على استيعابِ أَسباب التَّمكين وأَدواتهِ ولذلك نجحَ في المسؤُوليَّة التي تحمَّلها بكلِّ ثقةٍ وجدارةٍ، ولو لم يكُن كذلكَ لما مكَّنهُ الملك منها ولما تجرَّأَ على أَن يطلب السُّلطة منهُ بقولهِ {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ} لو لم يكُن يعلم عِلم اليقين بأَنَّهُ {حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.
أَمَّا عندنا، فالتَّمكينُ للسُّلطة بـ [الكيلُوات] وبـ [الكلاوات] فهي بالواسِطة وفي أَغلب الأَحيان ضربةُ حظِّ، لا توجد معاييرَ حقيقيَّة، ولذلك فالسُّلطة عندنا فاشِلة لا تجدُ الرَّجُل المُناسب في المكانِ المُناسب إِلَّا صُدفة!.
فالذي يستحِق التَّمكين منها لا يجدُ الفُرصة، فتضيعُ جهودهُ، والذي لا يستحقَّها لعدمِ كفاءتهِ فتراهُ تواجههُ فُرَص التَّمكين منها أَين ما دارَ وجههُ رُبما لأَنَّهُ مِن أَبواق [القائِد الضَّرورة] أَو [ذَيلٌ] أَو مِن مُحازبي أَحزب السُّلطةِ أَو مِن أَسرةِ الزَّعيم، ولكَونهِ فاشلٌ وعاجزٌ عن توظيفها لينجحَ، لذلكَ يمرُّ على فُرَص النَّجاح أَو تمرُّ بهِ من دونِ أَن يغتنمَها أَو حتَّى يشعرُ بها لأَنَّها ليست في حساباتهِ والسُّلطة بالنِّسبةِ له [سَطوة] أَو [تِجارة] وليست مسؤُوليَّة.
ثمَّ نلومُ أَنفسنا ونتساءَل؛ لماذا تذهب أَسباب التَّمكين أَدراجَ الرِّياحِ؟!.
يقولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) في عهدهِ للأَشتر {ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ.
وَتوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ فِي الاِْسْلاَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاَقاً، وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً، وَأَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَافاً، وَأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الاُْمُورِ نَظَراً}.
إِذن؛ فالتَّمكينُ للسُّلطة تتحقَّق نتائجهُ بشرطهِ وشرُوطهِ، وأَوَّلها التَّدقيق فيمَن ننوي تمكينهُ مِنها، ومِن المعلُوم فإِنَّ لكلِّ مسؤُوليَّة أَو موقِع شرُوطاً مُعيَّنة تحتاجها للتَّمكين تختلف عن المسؤُوليَّة أَو الموقِع الآخر، فليسَ كُلُّ المواقِع بنفس الشُّروط، وأَنَّ كلَّ مَن يتصدَّى لها يلزم أَن يتميَّز بنفسِ المُميِّزات.
أَمَّا أَن نضعَ التَّمكين موضِع التَّجربة فتلكَ هي المُصيبة العُظمى والطَّامَّة الكُبرى، لأَنَّها ستكونُ مِصداقاً للقَولِ المأثور [يتعلَّم الحِجامَة برأسِ اليَتامى]!.
(٦)
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا}.
فالتَّمكينُ لا يتحقَّقُ بالصِّدفةِ، وإِنَّما بالأَسباب والمُسبِّبات، وهذهِ واحدةٌ من أَهم سُنن الله في خلقهِ، وهي أَنَّهُ تعالى جعلَ لكلِّ شيءٍ سبباً ولكلِّ نتيجةٍ مُقدِّماتٍ.
حتَّى هلاك الأُمم جعلَ الله لهُ سبباً يتمثَّل في ذنُوب عبادهِ، ولذلكَ وردَ في القُرآن الكريم {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وقولهُ تعالى {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
وأَكثر من هذا عندما يقولُ عزَّ وجلَّ {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} وقولهُ تعالى {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.
ويتحقَّقُ التَّمكين بنوعَينِ من الأَسباب؛
الأَوَّل؛ إِلهيٌّ غيبيٌّ يمُدُّها الله تعالى عباده، كما في قولهِ تعالى {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} وهو الذي سخَّر كلَّ شيءٍ للعبادِ ليعمُرُوا الأَرضَ كما في قولهِ تعالى {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقولهُ تعالى {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}.
والثَّاني؛ إِستعداداتٌ نفسيَّةٌ وروحيَّةٌ يتمتَّعُ بها أُناسٌ دونَ غيرهِم على قاعدةِ {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ۚ} في حكمةٍ إِلهيَّةٍ تخفى على كثيرٍ منَّا.
وبالإِستعداداتِ يتقدَّم أُناسٌ بفضلهِم ويتأَخَّر آخرون، حتَّى يكونُ الوعدُ الإِلهي بالعطاءِ حسب ذلكَ كما في قولهِ تعالى {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ۖ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}.
الذي ينبغي أَن لا نغفلَ عنهُ دائماً هو أَنَّ كلَّ أَسباب التَّمكين تعودُ إِلى الله تعالى، فهوَ المصدرُ فليسَ للإِنسانِ أَن يخلُقَ شيئاً منها بإِرادتهِ المُطلقة، ولعلَّ في بلاءِ فايرُوس كورُونا اليَوم أَكبر وأَوضح دليلٌ على ذلكَ، فبلحظةٍ يقفُ الإِنسانُ عاجزاً أَمامَ ما يصفهُ القرآن الكريم بقَولهِ {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ} على الرَّغمِ مِن أَنَّهُ يمتلكُ كلَّ شيءٍ! أَو هكذا يظُنُّ!.
وعندما يغفلُ المرءُ عن هذهِ الحقيقة يتكبَّر ويتجبَّر فيتحوَّلُ التَّمكينُ إِلى بلاءٍ على نفسهِ وعلى المُجتمع، وهي الحقيقة التي نقرأَ أَرقى صُورِها في قصَّة صاحب البُستان الذي ظنَّ أَنَّ ما تمكَّنَ منهُ هو بإِرادتهِ فحسب ولا دخلَ لأَحدٍ فيهِ.
وعندما صبَّحَ عليهِ الصَّباح إِذا بهِ ينتبهُ للحقيقةِ ولكن بعدَ فواتِ الأَوان!.
تقولُ القِصَّة القُرآنيَّة؛
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا* كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا* وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا* وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا* وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا* قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا* لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا* وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا* فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا* أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا* وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا* وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا* هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا}.
وصدقَ العظيمُ الذي قالَ في مُحكمِ كتابهِ الكريمِ {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.
وبالغفلةِ ينسى الإِنسانُ ربَّهُ، وبالبلاءِ ينتبه!.