التحول الإيجابي.. أسلوب التفكير بين الثابت والمتطور
شبكة النبأ
2023-02-15 06:14
يتأثَّر سلوكنا بمواقف ذهنية، أو أطُر مزاجية معيَّنة، نتبنَّاها إزاء أنفسنا والعالم. ومواقفنا الذهنية -التي تتضمَّن أفكارنا وقناعاتنا وتوقعاتنا- تُقرر كيف نتلقى الأحداث التي تمر بحياتنا ونستجيب لها. وهي تتضمن كذلك توقعاتنا إزاء قدراتنا وسجايانا وصفاتنا. هل نحن متفائلون أم متشائمون؟ ماهرون في الرياضيات أم لا نجيد حساب الأرقام؟ أشخاص اجتماعيون أم انطوائيون خجولون؟ إنَّ سماتنا البارزة هي ما تُميزنا كأفرادٍ على كل حال.
ومن السمات الجوهرية الأخرى لطريقة التفكير قناعتنا إزاء إمكانية أن تتغيَّر هذه الصفات مع الوقت. أجَّرت كارول دويك، أستاذة علم النفس في جامعة ستانفورد، بحثًا موسَّعًا يُبرهن على أن الناس يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا من ناحية تلك القناعات. فبعض الناس يعتقدُون أن الصفات الأساسية، مثل الذكاء والشخصية، ثابتة ومستقرة -هذه طريقة تفكير ثابتة. ويعتقد آخرون أن هذه الصفات طيِّعة ومن الممكن أن تتغيَّر مع الوقت والمجهود- هذه طريقة تفكيرٍ متطورة. وسواء كانت طريقة التفكير ثابتةً أو متطورة فهي تؤثِّر على الطريقة التي نعالج بها المواقف المختلفة، ونستجيب بها لأخطائنا وإخفاقاتنا، وكيف نرى التحديات ونستجيب لها.
إليكم مثالًا بسيطًا يُوضِّح كيف تؤثِّر مواقفنا الذهنية على سلوكنا تأثيرًا قويًّا ودائمًا: العديد من الآباء والمعلِّمين حسني النيَّة يُثنون على الأداء الأكاديمي القويِّ لدى الأطفال بنعتهم بالأذكياء. يبدو هذا النعت ظاهريًّا مجاملة لطيفة؛ فلا شك أن الذكاء من الصفات التي نودُّ جميعًا سماعها بشأن قدراتنا الذهنية.
لكن تُشير أدلة كثيرة الآن إلى خطورة هذا النعت على قدرة الأطفال على الاستمتاع والمثابرة والإنجاز في المواقع الأكاديمية. فما عساه يكون العيب في سماع أنك «ذكي»؟ يؤدي هذا الوسم بالأطفال إلى الاعتقاد بأن الذكاء يُمثِّل سمة ثابتة؛ أي إن بعض الناس أذكياء بالفطرة وعلى الدوام، بينما الآخرون ليسوا كذلك. غالبًا ما يتبنَّى الطفل الذي يُقال له إنه ذكي طريقةَ تفكير ثابتة إزاء طبيعة الذكاء ويصير قلِقًا للغاية بشأن احتمال تكذيب هذا الوسم. فإذا حصل هذا الطفل في المستقبل على درجات سيئة في اختبار، سيكون هذا الأداء السَّلبي الوحيد موحيًا بشدة - ومدمرًا: «لقد أخفقت في هذا الاختبار، من المحتمل إذن أنني لستُ ذكيًّا من الأساس.»
قد يستجيب الأطفال لمَخاوِفِهم بشأن العجز عن البقاء على مستوى هذا التوقُّع بالتقصير في الأداء؛ فإنهم لا يُقبِلُون إلا على المسائل التي يعلمون يقينًا أن باستطاعتهم حلَّها (وبذلك يَحرمون أنفسهم فُرَص تحدِّي أنفسهم والنمو). ومثلما ذكر روبرت ستيرنبيرج، عميد كلية الآداب والعلوم في جامعة تافتس: «إذا كنتَ تخشى ارتكاب الأخطاء، فإنك لن تتعلَّم أثناء العمل، وسيَصير أسلوبك برمَّته دفاعيًّا كأنك تقول: «لا بدَّ أن أحرص على ألا أُخفق.»
في المقابل، الناس الذين يتبنون مواقف ذهنية مُتطوِّرة، ويرَون أن بإمكان قُدراتهم وصفاتهم التغيُّر ببذل الجهد والممارَسة، يُحقِّقون فوائد كبرى. فتُرى الأخطاء فرصًا للتعلُّم والنمو؛ ومن ثَم يَشعُر الناس بالتحفيز للاضطلاع بالمهامِّ الصعبة حتى يكتسبوا تلك القوى. فمثلًا طلاب الصف السابع الذين كانوا يَعتقدُون أن الذكاء من المُمكِن أن يتنامى شهدتْ درجاتهم زيادة خلال العامَين الأوَّلين في المدرسة الإعدادية، حيث يصير العمل المدرسي أشدَّ صعوبة ومعايير الدرجات أشد صرامة، في حين لا ترى مثل هذا التحسُّن لدى الطلبة الذين ليس لديهم تلك القناعات.
على نفس المنوال، يدرك الرياضيون الذين يتبنَّون طريقة التفكير المتطورة أن الموهبة وحدَها ليست كافية، وأن الجهد الدؤوب والتدريب الصارم شرطا النجاح، ويحققون مستويات أعلى. بل وقد اكتشفت دراسة حديثة أنه عند إعطاء مراهقين (كانوا جميعًا يُعانون بالفعل من مُشكِلاتٍ صحِّية ذهنية) درسًا لمدة ٣٠ دقيقة حول طريقة التفكير المتطورة، وقدرتنا على التغيُّر والتحسُّن مع الوقت، أدَّى ذلك إلى انخفاض مستوى القلق والاكتئاب لمدة تسعة شهور فيما بعد. اختصارًا، تبنِّي طريقة تفكير تُركِّز على نقاط القوة والقدرة على التغيير يؤدي إلى فوائدَ كبرى.
طريقة التفكير بالغة الأهمية
أفكارنا حول ما إذا كانت صفاتُنا الشخصية الجوهرية بوسعها التغيير تؤثِّر على جميع جوانب حياتنا تقريبًا. فمثلًا الناس الذين يظنُّون أن مستويات القلق والاكتئاب لديهم لا يمكن أن تتغير، مهما حاولوا، تتجلَّى عليهم أعراض القلق والاكتئاب أكثر من أولئك الذين لا يَملكُون تلك الأفكار. فأصحاب تلك الأفكار يبلغون عن مستويات أعلى من القلق والحزن، بل والأعراض الجسدية للقلق مثل تعرُّق الأيدي ونوبات الهلع.
بالمثل، تؤثِّر طريقة التفكير التي نتَّخذها من الشيخوخة في كلٍّ من أدائنا المعرفي وصحَّتنا البدنية. ففي إحدى الدراسات، كان كبار السن الذين كانت أعمارهم بين ٦١ و٨٧ والذين يعتقدون أن عملية الشيخوخة ثابتة ولا فِرار منها يُسجِّلون درجات أدنى في اختبار الذاكرة وضغط دم أكثر ارتفاعًا بعد تذكيرهم بالصور النمطية السَّلبية عن الشيخوخة. على النقيض، لم تُر تلك الاستجابات لدى الذين يعتقدون أن عملية الشيخوخة يمكن تغييرها؛ فهم غير مقتنعين بحتمية تلك الصور النمطية؛ ومِن ثمَّ لا يُعانون من هذه العواقب السلبية.
كذلك تؤثِّر مواقفنا الذهنية تأثيرًا جذريًّا على الطريقة التي نتعاطف بها مع الآخرين ونتفاعَل معهم. فقد تحرَّى الباحثون في إحدى الدراسات أفكار الناس بشأن ما إن كان التعاطف طيعًا؛ أي ما إن كانت قدرة المرء على وضع نفسه مكان شخص آخر يمكن أن تتغير مع الجهد. حدَّد المشاركون في الدراسة ما إذا كانوا يعتقدون أن مستوى التعاطف لدى كل شخص من الأشياء الأصيلة جدًّا فيه، حتى إنه لا يمكن تغييره، أو ما إذا كانوا يَرَون أن كل شخص بإمكانه تغيير مقدار ما يشعر به من تعاطُف. ثم قاس الباحثون درجة استعداد الناس لأن يُحاولوا التعاطف مع شخص اختلف معهم في مسألة اجتماعية أو سياسية مهمَّة.
وكما توقَّع الباحثون، أبدى الأشخاص الذين يحملون أفكارًا أكثر مرونة بشأن التعاطف استعدادًا أكبر للإصغاء باحترام ومحاولة فهم آراء الآخرين. ومن الممكن أن يؤدي ذلك الجهد إلى علاقات أفضل بين الناس ومستويات أقل من الخلاف.
لا عجب إذن أن مواقفنا الذهنية تؤثر على استعدادنا للتغلب على المشكلات في العلاقات الوثيقة. فالأشخاص المؤمنون بوجود توءم للرُّوح يَعتقدون أن العلاقة الجيدة مرهونة في المقام الأول باختيار الشخص المُناسِب. فهم يرون أن العلاقات يجب أن تكون مثالية وإلا فلا. وللأسف يؤدي هذا الاعتقاد إلى نوعَين من السلوكيات المختلة: تجاهل المشكلات -بما أن أي مشكلة ستعني أن العلاقة سيئة- أو الاستِسلام. تُثبت الدراسات التي أُجريت على المرتبطين عاطفيًّا من طلبة الجامعات أن أولئك المؤمنين بمبدأ توءم الروح يَقضون وقتًا أقل في محاولة حل الأمور عند مواجهة موقف متأزم في العلاقة - فهم غالبًا ما يُوفِّرون جهدهم ويَستسلمُون. أما أولئك الذين يتمتعون بعقليات تخطِّي العقبات، فإنهم يرُون أن الاعتراف بالمُشكِلات وحلها بأسلوب صريح وبناء هو جزء أساسي من بناء علاقات قوية. فهم، عند مُواجَهة المواقف المتوتِّرة، يَبذُلون قصارى جهدهم لتذليل العقَبات ومُحاوَلة إعادة صياغة تلك المشكلات بطريقة إيجابية.
تقصَّى الباحثون في إحدى الدراسات أفكار الناس بشأن الاكتفاء الجنسي، وما إن كان بلوغ الاكتفاء الجِنسي يكون بالعثور على الشريك «المناسِب» (طريقة التفكير الثابتة) أم يتطوَّر بالجهود والمثابرة (طريقة التفكير المتطورة). تتجلَّى لدى أولئك الذين لديهم قناعات متطوِّرة بشأن الاكتفاء الجنسي مستويات أعلى من الاكتفاء الجنسي والرضا عن علاقاتهم. كذلك يُفصِح رفقاؤهم عن مستويات أعلى من الاكتفاء الجنسي، مما يدلُّ على أن الاعتقاد بأن العلاقة الجنسية المُمتعة تستغرق وقتًا ومجهودًا يُفيد كلا الطرفَين في العلاقة.
هذه الأمثلة دليل على أن اعتقادنا بشأن ما إذا كانت صفاتنا الشخصية ثابتة أم متغيرة له أكبر التبعات على مستوى علاقاتنا بالآخرين وطول أمَدِها وكذلك رفاهنا النفسي والجسدي.