لماذا يتخلف الاعلام العراقي؟

مسلم عباس

2018-06-26 04:39

ان شاهدت نشرة إخبارية عراقية عام 2014، وانقطعت عن مشاهدة الفضائيات العراقية بسبب بؤسها وعدت اليها اليوم في منتصف عام 2018 فلا فرق هناك الا في الزمن الذي استهلك اربع سنوات منذ طلاقك نشرات الاخبار العراقية وعودتك اليها.

في وسائل الاعلام العراقية عموما هناك بروتكول معروف، اول خبر يجب ان يكون لرئيس الحزب الذي يملك المؤسسة بغض النظر عن كل المعايير الإعلامية، والاخبار التالية تكون للخط الثاني من مسؤولي الحزب او الاحداث التي تهم الحزب فقط، وما يأتي بعد كل ذلك لا بد وان تكون له علاقة شديدة الالتصاق بسياسة الحزب وتروج لها بشكل صريح ومفضوح، ومن نافلة التذكير ان الغالبية العظمي او جميع المؤسسات الإعلامية العراقية هي حزبية او متحيزة بشكل متطرف الى ايدلوجيا محددة.

قد يقول قائل ان كل مؤسسة إعلامية في العالم تحاول الترويج لسياسة معينة وهذا يتفق عليه خبراء الاعلام وأساتذة الصحافة في العالم، وهو كلام صحيح جدا، فلا توجد قناة تعمل في سبيل الله، انما تحاول التبشير بقيم معينة وتكرس جهودها لهذا الامر، الا ان الترويج لتلك القيم لا يكون عشوائيا فالاعلام هو ممارسة قائمة على أسس علمية اثبتت فاعليتها وأخرى فشلت في الوصول الى عقول وقلوب المشاهدين، وهناك أساليب يمكن من خلالها ممارسة ذلك التاثير المطلوب، وتعمل الفضائيات الكبرى على تطوير أسلوب عملها بشكل دائم لتحافظ على مكانتها او ترفعها اكثر، الا ان الثابت في كل هذا العمل ان رضى الجمهور هو الهدف الأول لكل مؤسسة يمثل المشاهد الركن الأساسي في وجودها.

وتعرفُ وسائل الاعلام المحترفة ان حشر سياستها في كل خبر هو "حماقة" لا يغفرها الجمهور، فيعزف عن متابعتها لانه يختار القناة المفضلة بحرية تامة، نتيجة توافر العدد الهائل من المنافذ الإعلامية الأخرى سواء التلفزيونية منها او الصحفية الورقية او الالكترونية وحتى مواقع التواصل الاجتماعي، ولهذا تقوم وسائل الاعلام المحترفة بتوفير كل الخدمات التي يريدها الجمهور وتصوغ الاخبار بطريقة اقرب للحيادية وتنتقي الاحداث وفق رؤية ذكية تبدو وكانها خالية من القيمة المعيارية، أي انها مستقلة عن محرر الاخبار، وبهذه الطريقة تستطيع وسائل الاعلام ان توفر ما يمكن ان نطلق عليه "مخزون الثقة"، وكلما حاولت وسائل الاعلام إرضاء الجمهور بمختلف الأساليب زاد "مخزون الثقة" وأصبحت علاقتها مع جمهورها اكثر مصداقية.

حينما تبني وسائل الاعلام جسر المصداقية والصداقة مع الجمهور يزداد عدد متابعيها وتصبح اكثر شهرة، ليضاف في كل يوم عدد اخر من المتابعين لها، وهنا تصبح للقناة الفضائية او الصحيفة سلطة رمزية كما يسميها المفكر الفرنسي "بيار بورديو"، فتمارس دورا اجتماعيا وسياسيا بارزا ولا يمكن اهمال هذا الدور بعد ان تجذر في المجتمع، ورغم تلك المكانة التي تكتسبها القناة تبقى محافظة على اسلوبها القائم على تقديم خدماتها للجمهور بطريقة مجانية، مع طرح قيمها بطريقة "ناعمة" وغير واضحة تماما، حتى لا تفقد رمزيتها وسلطتها. وهناك الكثير من النماذج الإعلامية التي تتبع هذه الطريقة يمكن للقارئ ملاحظة كيفية ادارتها لمحتواها الإعلامي.

طورت وسائل الاعلام مفهوم القيمة الإخبارية التي تعني مجموعة من المعايير المادية والمعنوية التي يتم على ضوئها انتقاء الخبر، ومن اهم هذه القيم ان يحمل الخبر جديدا للجمهور، وان يقترب من اهتماماته وحاجاته الأساسية، فضلا ضرورة إضفاء النزعة الإنسانية على الخبر. الا ان هذه المعايير لانتقاء الخبر تعد مادة لسخرية الإدارات الحزبية القائمة على المؤسسات الإعلامية العراقية، وبعضها يصفها بالافكار الغربية التي لا تتوافق مع المجتمع رغم انها اثبتت فاعليتها في كل انحاء العالم.

ان ما يجري في الاعلام العراقي يمكن تعريفه بانه تجميع اخبار الحزب ونشاطات رئيسه، خالية من أي أهمية تبدو للجمهور الذي يتابعها فيجد في مشاهدتها تضييعا للوقت في شيء لا علاقة له به، وتقدم بلغة بسيطة تخلو من الابداع، ليس لان الصحفي العراقي لا يبدع، بل لان الرقابة الحزبية القائمة على القناة او الصحيفة لا تعطي أي حرية للصحفي في صناعة مادته الإعلامية، والابداع لا يولد الا من رحم الحرية.

وهناك الكثير من القضايا المركزية التي لم تعالجها وسائل الاعلام العراقية، وجزء من أسباب الفشل في التصدي للظواهر السلبية هو تغييب الاعلام عن أداء دوره في كشف الحقائق، خذ على سبيل المثال قضايا "الكهرباء" و"الجفاف" و"تسريب الأسئلة وغش الطلبة" و"موت القانون"، فهذا المربع الخطير يمثل تهديدا استراتيجيا لمستقبل العراق، الا ان متابعة نشرات الاخبار تكشف شيئا مختلفا، مجرد صراع سياسي على تشكيل الحكومة وتحالفات الأحزاب، وكان البلد يعيش في حالة من الرفاهية في كل شيء وراح اهله يتبارزون في المجال السياسي فقط.

التغييب المتواصل لقضايا المجتمع الاساسية في المنابر الإعلامية المحلية جعل من تلك القضايا غير قابلة للحل في نظر الجمهور، كما انها دفعته لمتابعة وسائل اعلام لها مصالحها الخاصة فزرعت فيه روح اليأس من الوضع القائم، ورسمت صورة سلبية ليس للعملية السياسية فحسب بل لجميع اركان الدولة العراقية بما فيها المواطن الذي يعتبر اليوم في نظر أبناء جلدته انه غير منتج ومتخلف عن الركب الحضاري.

ان بناء المؤسسات الإعلامية العراقية وفق المعايير الاحترافية يقدم خدمة هائلة للمجتمع ويسهم في توسيع قاعدة الأحزاب السياسية نفسها عن طريق بث قيمها بطريقة قائمة على روح المنافسة التي يسمح بها القانون والأعراف السياسية، فضلا عن الخدمة التي يقدمها الاعلام لمنع هجرة المشاهد الى المنابر الإعلامية الإقليمية والدولية التي تروج لقيم وأفكار تزيد من حدة الاستقطاب داخل المجتمع العراقي.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا