التسميم الإعلامي والتغيير الثقافي
علي حسين عبيد
2018-06-19 06:15
تطور الإعلام عبر حقب متعاقبة، فقد بدأ فقيرا في أدواته وتأثيره، ليصبح اليوم من الأدوات الأكثر أهمية في اعتماد الدول والحكومات عليها، فالإعلام هو مصطلح يطلق على أي وسيلة أو تقنية أو منظمة أو مؤسسة تجارية أو أخرى غير ربحية، عامة أو خاصة، رسمية أو غير رسمية، مهمتها نشر الأخبار ونقل المعلومات، إلا أن الإعلام يتناول مهاما متنوعة أخرى، تعدَّت موضوع نشر الأخبار إلى موضوع الترفيه والتسلية خصوصا بعد الثورة التلفزيونية وانتشارها الواسع، وتطلق على التكنولوجيا التي تقوم بمهمة الإعلام والمؤسسات التي تديرها اسم وسائل الإعلام، كما يُطلق على الأخيرة تعبير السلطة الرابعة للإشارة إلى تأثيرها العميق والواسع في توجيه الرأي العام والقضايا السياسية والثقافية والاجتماعية.
ولعلنا نجد في مصطلح الإعلام معانٍ أكثر دقة كما نلاحظ في التعريف الواضح له، فهو وسيلة لنقل المعلومة، وطريقة لترويج الفكر، او بث أهداف معينة في محيط محدد، لذا ثمة فارق جوهري يفصل بين الثقافة والإعلام، لسبب جوهري أيضا، كون الثقافة تتحكم بطبيعة حياة الإنسان، فردا كان او جماعة، وتطبعها بالتطور او التخلف، بمعنى أن حياة الإنسان ترتبط من حيث التقدم والتراجع، بجوهر الثقافة السائدة في المجتمع، أما الإعلام فهو وسيلة لا يمكنها التحكم بأعراف وقيم وأخلاقيات المجتمع، لأنه وسيلة توصيل لا أكثر، لذلك تبقى الثقافة متقدمة على الإعلام في صنع المجتمع المتطور،أما بخصوص وظيفة الإعلام فهي تؤول في الدول الديمقراطية إلى إعلام الجمهور وتكوين الرأي العام إلى الصحافة بصفة رئيسية، وهي من خلال عملها تقوم أيضا بالنشاط النقدي والرقابة العامة منها نشر الأخبار وإعطاء وتوظيف المعلومات التي يجهلها المتلقي، تلك الوظائف تختلف في مدى حيادها ومصداقيتها بحيث تنفع الجمهور.
أثر التعبيرات المادية للثقافة
أما الثقافة فهي سلوك اجتماعي ومعيار موجود في المجتمعات البشرية، حيث تعتبر الثقافة مفهوما مركزيا في الانثروبولوجيا، يشمل نطاق الظواهر التي تنتقل من خلال التعلم الاجتماعي في المجتمعات البشرية، بعض جوانب السلوك الإنساني، والممارسات الاجتماعية مثل الثقافة، والأشكال التعبيرية مثل الفن، الموسيقى، الرقص، الطقوس، والتقنيات مثل استخدام الأدوات، الطبخ، المأوى، والملابس هي بمثابة كليات ثقافية، توجد في جميع المجتمعات البشرية. مفهوم الثقافة المادية يغطي التعبيرات المادية للثقافة، مثل التكنولوجيا، والهندسة المعمارية والفن، في حين أن الجوانب غير المادية للثقافة مثل مبادئ التنظيم الاجتماعي، الأساطير، الفلسفة، الأدب والعلم يتكون من التراث الثقافي غير المادي للمجتمع.
وتذكر لنا صفحات التاريخ الثقافي في العلوم الإنسانية أن الشعور الذي كان سائدا حول الثقافة بصفتها سمة للفرد، هو الدرجة التي يزرعون بها مستوى معين من التطور في الفنون أو العلوم أو التعليم أو الأخلاق بين أفراد المجتمع الواحد، كما ينظر أحيانا إلى مستوى التطور الثقافي كمعيار أساس يقاس في ضوئه درجة ومستوى تحضّر الفرد والمجتمع.
ثمة بون واضح بين الثقافة من جهة والإعلام من جهة ثانية، على الرغم من التقارب بينهما، فالثقافة مهمتها تحسين السلوك بالدرجة الأولى، وإن لم تنتهِ مهمتها عند هذا الحد، أما الإعلام فيهتم بالدرجة الأولى بصناعة الرأي وتوجيهه، لذا فإن هذا الفارق الواضح بين الثقافة والإعلام، يؤكد ويؤصِّل دور الثقافة، ويجعلها تتقدم دائما على دور الإعلام في صناعة القيم وطبيعة السلوك المجتمعي، من هنا توجد ثمة جدلية في العلاقة بين الاثنين، أي أن هناك علاقة متداخلة تربط بين الثقافة والإعلام، لأن الأخير هو الوسيلة الأساسية لبث الثقافة وتوابعها، ونشرها وترسيخها في الوسط المستهدَف، وبهذا عندما تقود الثقافة الإعلام سوف تنفتح آفاق واسعة لتجديد الحياة عبر أطر ثقافية متجددة، كون الثقافة، منهج حياة متعدد المسارات، يتحرك وفق ضوابط متعددة أيضا منها ما هو ديني، أو عرفي، أو قانوني وضعي، أو أخلاقي، كذلك تنطوي الثقافة على فكر واضح الأبعاد يتعلق بطبيعة سلوك الإنسان الفرد والجماعة، ويتحكم باتجاهات السلوك المجتمعي وقبل ذلك بتفكيره ودرجة وعيه لهذا أعطيت الأولويات للثقافة في الأدبيات والفلسفة وسواها من موجهات أخرى.
الإعلام وأنظمة الاستبداد
لذلك يخطئ من يقول أن الإعلام يمكن أن يكون بديلا للثقافة، أو أنه قادر على قيادتها، نعم يمكن أن يسهم الإعلام في تطوير الثقافة وصناعة المثقف، ولكن تبقى الثقافة هي المورد الأساس والمطوِّر الأول للإعلام، فالتفكير وعمقه وحداثته يبقى هو المرتكز لانطلاق الإعلام الناجح في مهامهـ لذلك لا يمكن للإعلام بوسائله وقنواته وأشكاله المتعددة، أن يشكل بديلا للثقافة، ولا يمكنه القيام بدور مماثل لها، لأنه لا يمتلك الجوهر الفكري القادر على صناعة أو إدامة منظومة القيم المجتمعية، ومن الخطورة بمكان أن يتحكم الإعلام بالثقافة أو يقودها، لأنه لا يمتلك الفكر ولا القيم التي يمكن أن تعكسها الثقافة على الإعلام وليس العكس، ولكن قد يحدث أن يتقدم الإعلام على الثقافة لأسباب عديدة، أولها ضعف الوعي المجتمعي بخصوص الثقافة ودورها في البناء والتطوير، كذلك سيطرة الدولة أو الحكومة على الإعلام وجعله تابعا لها او لجهات محددة لا علاقة لها بحاجات المجتمع الثقافية والفكرية، وهذا ما يحدث في الأنظمة الاستبدادية حيث يكون الإعلام في قبضة النظام السياسي فيؤدي دورا مشوَّها وخاطئا في قيادة الثقافة من سيّئ إلى أسوأ.
ومما هو معروف في التجارب الإعلامية عبر الأنظمة غير الديمقراطية، أنها يمكن أن تلمع وجها كالحة، وتسيء لوجوه وعقول مخلصة متقدمة، فنحن نعرف مدى قدرة الإعلام على الترويج لنماذج -على الرغم من عدم أهميتها وفقدانها للجوهر الثقافي او الأخلاقي- لكن بمقدور الإعلام أن يجعل منها نماذج يقتدي بها الآخرون، على الرغم من أنها لا تستحق أن تُقدَّم على أنها نموذج للآخرين، ولكن نتيجة التلميع الإعلامي يحدث أن يتحوّل المشوَّه إلى سليم ويصح العكس أيضا وهنا تكمن خطورة الإعلام عندما لا تقوده الثقافة، وعندما يكون هو موجّها لها.
قد يقول قائل إن الإعلام الجيد يمكن أن يصنع ثقافة جيدة، ويمكن أن تكون الإجابة بنعم، ولكن كيف يمكن أن نتوقع من أنظمة سياسية مشوهة أن تترك الإعلام يمضي في طريقه إلى الأمام، فحتى في الديمقراطيات القاصرة أو الضعيفة كما في العراق حاليا، أصبح الإعلام ألعوبة بأيدي الأحزاب والشخصيات السياسية حتى الضعيفة والقاصرة منها، لذلك من الأفضل أن يبقى دور الثقافة هو الأول وصاحب القدح المعلى، لأن الثقافة في يمكن أن تغير الإعلام نحو الأجود حتى لو تمت هذه العملية بالتدريج، أما الإعلام فإنه سوف يعجز عن القيام بهذه المهمة، بسبب التأثيرات الجانبية عليه.