القدس جماليات فنون العمارة نتاج التنوع الثقافي
د. رؤوف محمد علي الانصاري
2019-01-16 04:45
مدينة القدس الشريف إحدى أقدم المدن الحضارية في العالم والتي ما زالت محتفظة بطابعها العمراني الفريد، وتتميز عن غيرها من المدن بأنها احتضنت خلال تاريخها الحضاري العريق ثلاث ثقافات متنوعة تعود لدياناتٍ سماوية ثلاثة مقدسة. وتُعد من المدن الدينية المهمة التي لعبت دوراً بارزاً في التاريخ نظراً لقدسيتها ومكانتها الروحية. وقد ارتبط اسمها بالأنبياء والرسل، وكانت أول قبلةٍ اتجهت إليها أنظار المسلمين، وإليها كان إسراء الرسول محمد (ص)، ومنها كان معراجُه إلى السماء كما جاء في سورة الإسراء، الآية (١): (سُبحَانَ الَّذِي أَسرَى بِعَبدِهِ لَيلاً مِّنَ المَسجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسجِدِ الأَقصَى الَّذِي بَارَكنَا حَولَهُ لِنُرِيَهُ مِن آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، إلى أن تمّ فتحها على أيدي المسلمين عام ١٧هـ (٦3٨م).
وفي ظل الحكم الإسلامي لمدينة القدس وعبر قرونٍ عديدة، أصبحت المدينة محط اهتمام أتباع الديانات الثلاث وسعوا لاتخاذها سكناً لهم، حيث تمتعوا بالرعاية والاهتمام وحرية العبادة والمشاركة في جميع المجالات، وكانت المدينة رمزاً للتسامح والتعايش السلمي بين مختلف التكوينات العرقية والأثنية.
وقد لعبت الثقافتان الإسلامية والمسيحية بوجه الخصوص دوراً مهماً في تشكيل البنية العمرانية للمدينة، وباسلوبٍ جعل شُهرة القدس تصل الآفاق، حيث ساهمتا على مرّ العصور، في دفع تطور فنون وأساليب العمارة في هذه المدينة إلى مستوياتٍ راقية ومعطاءة، ومنحتها طابعاً عمرانياً جميلاً ومميزاً ما زالت آثاره شاخصةً إلى يومنا هذا، متمثلاً في العديد من المباني التي تنفرد بخصائصها ومفرداتها المعمارية وخاصة الزخارف الهندسية الرائعة.
إن ما نشاهدهُ اليوم من معالم الحضارة الإنسانية في مدينة القدس من المسجد الأقصى إلى قبة الصخرة وكنيسة القيامة وغيرها من العمائر الأخرى كالمساجد والكنائس والأديرة والمستشفيات والمدارس والخانات والحمامات والأسبلة والأسواق القديمة... إن هذا التناغم المتين بين العمائر الإسلامية والمسيحية – وكما هو متمثل في قبة الصخرة وكنيسة القيامة خاصة، واللتان تتشابهان في كثيرٍ من الوجوه – نابع من جذورها الضاربة في القدم وأصولها الشرقية، لاسيما تلك السائدة ببلاد الشام، بكل ما فيها من فنونٍ بارزةٍ بقبابها ومآذنها وعقودها وزخارفها وطابعها المعماري المُميز.
وتعتبر قبة الصخرة المثمنة أهم معلم إسلامي بعد الكعبة المشرفة والمسجد النبوي الشريف، وتبدو مهيبة في احتوائها على معانٍ قدسية رَسخت أسس الفكر المعماري الإسلامي، وشكّلت أساساً ونموذجاً يُقتدى به في العمارة اللاحقة لتلك المنطقة، حيث قال عنها المؤرخ والرحالة السويسري جوهان بوركهارت: «إن تشييد بناءٍ بهذا المستوى من الكمال والإتقان الفني، يُعتبر عملاً خارقاً في دولة الإسلام التي لم يكن قد مضى على ظهورها قرن واحد».
وقال المفكّر الفرنسي روجيه غارودي في كتابه «المسجد مرآة الإسلام»، «إذا أمعنا النظر في هذا الأثر، للوقوف على معناه الداخلي والروحي، اتضح أنه يحملُ بذور الفكرة الرئيسية لما يسمى بالفن الإسلامي. فالموضع الذي شيّد عليه هذا المسجد، وبناؤه وأبعادهُ ونسبهُ، والأشكال التي ينطوي عليها والألوان التي تبعث فيه الحياة ومظهرهُ الخارجي، وسيمفونية فضائِهِ الداخلي، كل ذلك ناتجٌ عن العقيدة التي أوحت ببنائه».
إنّ مَن يُمعن النظر في عمائر القدس التي ازدهرت وتطورت عبر مختلف العصور يرى فيها سماتٍ جمالية مميزة اختصّت بها هذه المدينة، وإن الأساليب والطرز المعمارية المتنوعة التي شيّدت بها لا تختلف بطابعها المعماري عن عمائر بقية بلاد الشام، بشكلٍ عام، فهي محافظة على طابعها الشرقي على الرغم من محاولات تهويدها وتغيير هويتها الحضارية الأصيلة.
إنّ أبرز ما ظهر في فنون عمائر مدينة القدس هو تشكيل العناصر المعمارية الجديدة وابتكار التعبيرات والمفردات الفنية، وجاء هذا نتيجة الاستفادة من الخبرات والطرق والأساليب لفنون عمائر الحضارات الأخرى كالساسانية والإغريقية والبيزنطية والإسلامية، والتي كان لعناصرها ومفرداتها المعمارية تأثيرها الواضح على الطابع المعماري الجميل لهذه المدينة.
أما فنون الزخرفة الهندسية والنباتية في عمائر القدس فقد تطورت تطوراً كبيراً بفضل تداخل عناصر ومفردات زخرفية لعمائر مختلفة بحيث شَمل هذا التطور جميع الأشكال المعروفة مبسطة أو مركبة، متداخلة أو متشابكة، وأصبحت تتمثل فيها كل صور الجمال الفني المعماري، بما فيها الزخارف الملتفة كالأغصان ومشبكات وزخارف إسلامية وفسيفساء بيزنطية يتراوح لونها بين الأرجواني والذهبي. إنها من جماليات فنون العمارة التي تَشعُ بها هذه المدينة المقدسة.
ومن المؤكد أن توظيف الفنون الإسلامية الأخرى، كاستعمال الخط العربي بأنواعه في كتابة الآيات القرآنية الكريمة إلى جانب الفنون الأخرى، قد أصبح من الحقائق المعمارية الثابتة التي ميّزت الطابع المعماري للعديد من المباني الإسلامية في هذه المدينة.
وتُعتبر زخارف الفسيفساء والقاشاني التي تُزيّن قبة الصخرة المشرفة من الداخل والخارج أول وأقدم محاولة ظهرت في العصر الإسلامي لهذا النوع من الفن الزخرفي المعماري وأحد أهم ما خلفته فنون الحضارة الإسلامية المتداخلة مع فنون الحضارات الأخرى عبر القرون، وكذلك على مدى التطور الذي وصلت إليه فنون العمارة الإسلامية في مدينة القدس.
ومن أهم الإنجازات الحضارية التي حققتها العمارة في مدينة القدس هو تأكيد توظيف مواد البناء المحلية كالأحجار والصخور والمواد التزيينية كالفسيفساء والأخشاب، واستخدامها بطرق فنية رائعة في تشييد أبنية المدينة وزخرفتها لتلائم الظروف البيئية والمناخية وتنسجمُ مع الحياة الحضارية والاجتماعية.
وأضحت مدينةُ القدس اليوم حاضرةً إنسانية بمعالمها التراثية الفريدة محفوظةً في ذاكرة الناس، حيث تستمدُ مزاياها من بُنيتها العمرانية التي استلهمت من هندسة حضاراتٍ عريقة. وهي حصيلة نتاج وخبرة قرونٍ متواصلة من البحث والتجديد قام بها فنانو العمارة للوصول إلى أسمى وأرقى أشكال الفنون، التي تُعد تعبيراً عن ارتباط الإنسان بمجتمعه وحضارته وتلبيةً لمتطلباته المادية والروحية.
وتعتبرُ معالم المدينة القديمة أحد أجمل الصروح الخالدة في تاريخ الحضارة الإنسانية، وتحتل مكاناً مرموقاً ومهماً ضمن قائمة التراث العالمي لدى منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة.