المواطنة وتطور المفهوم ودلالاته
مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
2024-01-25 06:14
ان تكون مواطنا، يعني ان يعترف بك عضوا فاعلا في جماعة سياسية.. هذا يعني إعطاء حقوق (مدنية – سياسية – اجتماعية) وواجبات (مالية – عسكرية) وإتاحة إمكانية المشاركة المدنية باعمال الحاضرة أي المدينة..
لقد افسحت المواطنة المجال لنقاشات طيلة التسعينات.. فانحسار المشاركة بالانتخابات والنقابات وبحسب البعض بانحسار الحس المدني من خلال خسارة الكياسة، كل ذلك قد أضعف الإحساس بالمواطنية.
ومن اجل دوزنة هذا الحكم جرى الحديث عن (مواطنية جديدة). يشهد على ذلك ظهور بعض التعبيرات الجديدة (مشروع مواطنة)، (مستهلك مواطن)، (مواطنة بيئية)، (مواطنة اجتماعية) ما يشهد على ظهور اشكال مواطنة خارج الحقل السياسي.
من خلال المواطنة يصار الى إعادة النظر بقيم كالمسؤولية والالتزام. كذلك تكتسب المواطنة جاذبيتها من الفكرة الجذرية المتأتية من الثورة الفرنسية: التطلع للحياة معا بغض النظر عن الفوارق الاجتماعية والدينية والاثنية. وبسبب موجات الهجرة المتتالية التي حصلت في القرن العشرين صارت المجتمعات الغربية واقعا مجتمعات متعددة الثقافات.
هذا التطور ليس اشكاليا مالم يترافق مع صعود المطالبات بالاعتراف بالخصوصيات.. فإلى جانب الحقوق المدنية السياسية والاجتماعية اليس علينا ان نضيف الحقوق الثقافية؟ ففي فرنسا كانت هذه المسالة في التسعينات مدار نقاش حاد، خاصة بين علماء الاجتماع.. فالبعض منهم حبذ قيام متحدات جماعية معتدلة، تقوم على الاعتراف بالعمل الإيجابي، اما الاخرون الذين يعتبرون المواطنة المتعددة الثقافة وبشكل مسبق تناقضا لمعناها فهم ينصحون بالنضال أوليا ضد اللامساواة الاجتماعية..
كذلك ينظر الى المواطنة في علاقتها مع الجنسية.. كلاسيكيا تفترض المواطنة الحصول على جنسية البلد الذي تمارس فيه، وفي العقود الأخيرة ظهر تأكيد اشكال أخرى من المواطنة القائمة على فك ارتباط ممكن: مواطنة متعددة القوميات ظهرت بعد التحركات المعادية للعولمة: مواطنة قومية كبرى تجسدها المواطنة الاوربية التي تأسست عام 1992 بعد إقرار معاهدة ماستريشت.. وأخيرا مواطنة محلية تقوم على التزام تعاوني من دون ان ننسى ممارسة الشعوب الغربية حق الانتخاب في المجالس البلدية.
اما الحافز الثالث على إعادة السؤال في المواطنة فهو ناجم عن المعارضة التي ظهرت بين المواطنة (الرسمية) المحددة شكليا بالحقوق والواجبات والتي ترتبط كلاسيكيا بصورة (المواطن الصالح) والمواطنة (العادية) كما يعترف بها ويراها عامة الناس، او لنقل ذلك بعبارة اخرة مواطنة بحد اعلى ومواطنة بحد ادنى..
تعني المواطنة الفرد الذي يتمتع بعضوية بلد ما، ويستحق بذلك ما ترتبه تلك العضوية من امتيازات. وفي معناها السياسي، تُشير المواطنة إلى الحقوق التي تكفلها الدولة لمن يحمل جنسيتها، والالتزامات التي تفرضها عليه؛ أو قد تعني مشاركة الفرد في أمور وطنه، وما يشعره بالانتماء إليه. ومن المنظور الاقتصادي الاجتماعي، يُقصد بالمواطنة إشباع الحاجات الأساسية للأفراد، بحيث لا تشغلهم هموم الذات عن أمور الصالح العام، وفضلاً عن التفاف الناس حول مصالح وغايات مشتركة، بما يؤسس للتعاون والتكامل والعمل الجماعي المشترك.
فالمواطنة ظاهرة مركبة محورها الفرد، من حيث هو عضو مشارك في الجماعة الوطنية، وفي الدولة التي هي دولته. وهذا الفرد وهو بهذه الصفة خاضع لنظام محدد من الحقوق والواجبات. وبعبارة أخرى: الوطنية والمواطنة وجهان متباينان من وجوه الارتباط بالجماعة الوطنية، ووجودها السياسي.
لقد تعددت الرؤى حول مفهوم المواطنة فمنهم من رأى أنها المساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن الواحد، ومنهم من رأى أنها خلق المواطن الصالح، وآخرون قالوا إن المواطنة هي رديف للديمقراطية، وما لا يختلف عليه اثنان أن المواطنة هي جملة من القيم المعيارية تمثل حق الإنسان في الحياة الآمنة الكريمة وفي العدالة والمساواة في الحقوق الاجتماعية لكل فرد في المجتمع، بصرف النظر عن جنسه أو دينه أو مذهبه، وكذا حقه في التعبير عن رأيه وانتخاب من يمثله على قمة السلطة السياسية في وطنه.
واختصارا، فالمواطنة إطار يستوعب الجميع، فهو يحافظ على حقوق الأقلية والأكثرية في نطاق مفهوم المواطنة الجامعة، والمواطنة هي المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن الصبغات الدينية أو المذهبية أو القبلية أو العرقية أو الجنسية، فكل مواطن له جميع الحقوق وعليه جميع الواجبات، والمواطنة الحقيقية لا تتجاهل حقائق التركيبة الثقافية والاجتماعية والسياسية في الوطن ولا تحدث تغييرًا في نسب مكوناتها، ولا تمارس تزييفًا للواقع.
وفي الحقيقة حينما نتحدث عن المواطنة، كنظام حقوق وواجبات، فإننا نعني، في الوقت ذاته، حقوق المواطن وواجباته في الدولة، وواجباتها للمواطنين؛ فحقوق المواطنين هي واجبات على الدولة، وحقوق الدولة هي واجبات على المواطنين.
قدم توماس همفري مارشال عالم الاجتماع الإنجليزي، بمقالته (المواطنة والطبقة الاجتماعية)، وهو عمل جوهري عن المواطنة، حلل فيه فكرة أن المواطنة الكاملة تشمل المواطنة المدنية والسياسية والاجتماعية.
وقد حدد مارشال الجوانب الثلاثة للمواطنة على النحو التالي:
الحقوق المدنية: ويُقصد بها الحقوق اللازمة لحرية الأفراد، وحرية الفرد، وحرية التعبير والفكر والعقيدة، والحق في الملكية وإبرام العقود الصحيحة، والحق في العدالة.
ألغى هذا المفهوم للحقوق المدنية الفردية القوانين والأعراف التي قيدت الحق في العمل أيضًا. وأصبح الآن بإمكان العمال البحث بصورة قانونية عن عمل، وهو ما يتوافق مع حاجة الرأسمالية إلى أسواق العمل.
كما جادل مارشال بأن مبدأ المواطنة المدنية يحتوي في ذاته دافعًا نحو المزيد من المساواة خاصةً المساواة السياسية.
الحقوق السياسية: ويُقصد بها حق المشاركة في ممارسة السلطة السياسية -الاقتراع العام- انتخاب ممثلين للبرلمان.
الحقوق الاجتماعية: ويُقصد منها الحق في حدٍ أدنى من الرفاهية الاقتصادية والأمن، والحق في المشاركة الكاملة في الإرث الاجتماعي وعيش حياة متحضرة. تُفهم الحقوق الاجتماعية عادةً على أنها منافع مرتبطة بدولة الرفاهية الحديثة والحريات الإيجابية كحقوق الرعاية.
مفهوم المواطنة تاريخيا
تغير مفهوم المواطنة منذ نشوئه في الحضارة اليونانية وحتى اليوم ففي كل حقبة تاريخية مر بها المفهوم وتطور إنما كان هذا التغير والتطور يعبِّر عن التركيبة الثقافية والأخلاقية لتلك الحقبة، ومن ثم كانت المواطنة هي المؤشر على مدى تحقق المثل الأخلاقية والسياسية في زمانها، فالمواطن عند اليونان هو (اليوناني الحر)، بينما المواطن في زمن الدولة القومية هو أحد أبناء الأمة المكونة للدولة… فالمواطنة قديماً لم تكن تشير طوال الوقت إلى مبادئ وقيم أخلاقية وسياسية عامة، وإنما كانت تعبر عن وضعية خاصة يحوزها البعض، ويُحرم منها الاخرون، أي: أن المواطنة كانت حالة من عدم المساواة، يقابلها رغبة وكفاح من أجل المساواة من جانب أولئك الذين حُرموا منها، ومن هنا فإن تاريخ مبدأ المواطنة هو تاريخ سعي الإنسان من أجل الإنصاف، والعدل، والمساواة.
يرى حمدي مهران في كتابه (المواطنة والمواطن في الفكر السياسي) أن المواطنة قد مرت بست مراحل تاريخية، كونت ستة مفاهيم مختلفة كما يلي:
1 ـ مواطنة دولة المدينة:
وهو المفهوم الذي ساد في الحقبة اليونانية الرومانية، وقد تميز هذا المفهوم بتركيزه على قيم المشاركة السياسية والمساواة بين المواطنين على قاعدة المواطنة، وكان المواطنون هم الذكور الأحرار مالكو الأراضي وأبناء الطبقات العليا، بينما جرى استثناء النساء والأجانب والأطفال والعبيد من حق المواطنة، وقد تمتع المواطنون بحقوق عديدة منها الحق في مجالات القضاء والتعليم وحق العضوية في الجمعيات والتنظيمات العامة، وحق الانتخاب للمؤسسات الرسمية والإسهام في المجتمع عن طريق الخدمة العسكرية، فطبقة المواطنين هي الطبقة الوحيدة التي تمتعت بكافة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إلا أنه ومع مرور الوقت ظهرت التفرقة بين طبقة المواطنين نفسها، حيث تفرعت إلى فئتين، (فئة الأشراف ذوي الأصول النبيلة، وفئة العامة) ونادى العامة بضرورة زوال التفرقة القائمة على أساس عراقة الأصل ونسبة المولد، واستعيض عنها بمعيار الثروة، أي أن أرستقراطية المواطن أصبحت تعتمد على ماله لا على نبالة أصله.
وإذا ما رجعنا إلى أرسطو سنجده قد حدد الأنظمة السياسية التي كانت سائدة في اليونان، وهي الأوليغارشية والديمقراطية والملكية، وهكذا فالاختلافات في حد المواطنة يرجع إلى الانتماء السياسي للنظام الذي يبعد تعريف المواطن عن سياق الموضوعية، فالمواطن الحقيقي عند أرسطو هو المالك لحق المشاركة في السلطة التشريعية وفي السلطة القضائية، فالمواطنة بالنسبة له هي (وظيفة لنظام الحكم، فالأشخاص الذين يكونون مواطنين في النظام الديمقراطي ليسوا كذلك في النظام الأوليغارشي، ومن ثم فهوية المدينة تتحدد أساسا عن طريق نوع نظام حكمها، ولا تتحدد عن طريق عوامل مثل الجغرافيا أو الجنسية)، ومن هذا يتضح أن أرسطو يميل إلى النظام الأرستقراطي، أي نظام القلة كنظام نموذجي للمواطنة.
إلا أن قيم المواطنة عند العديد من الفلاسفة بعد ذلك قد تأثرت بمفهوم المواطنة اليوناني القديم؛ نظراً لتشديده على أفكار المشاركة والمسؤولية على المواطنين، واهتمامه بالمساهمة في الحكم بصورة مباشرة، عبر مؤسسات تقوم على نشاط المواطنين.
أما بخصوص المواطنة في الحضارة الرومانية فقد عرفت تغيرات بارزة، وذلك راجع إلى اتساع الرقعة الجغرافية للإمبراطورية، التي ضمت العديد من الثقافات المتغايرة والشرائح الاجتماعية المتفاوتة، بالإضافة إلى الحكم الجمهوري الذي فسح المجال للطبقات الدنيا للمطالبة بحقوقها، وهنا ظهر العديد من دعاة العدل والمساواة بين الطبقات الاجتماعية، ومن بينهم شيشيرون الذي يرى أن (الدولة لا تستطيع أن تضمن استمراريتها وبقاءها وهيبتها إلا إذا اعترفت بحقوق المواطنين، لأنها تمثل مصلحة الناس المشتركة)، وبهذا نجد أن الدولة الرومانية ابتعدت عما هو إثني، ومنحت المواطنة بعدا قانونيا ومنظما وذلك ابتداءً من أول إحصاء سكاني في العام 44 ق.م، الذي كان القصد منه تنظيم وإعداد القوائم التفصيلية من أجل ضبط قوائم المواطنين بما يتعلق بمسائل الخدمة العسكرية ودفع الضرائب، فالمواطن الروماني هو الذكر البالغ المنتمي إلى تراب الإمبراطورية وهو ذات قانونية يكتسب المواطنة من خلال وضعه القانوني لا من خلال أصله الإثني، بهذا يعكس المجتمع الروماني صورة مجتمع سياسي أكثر ديمقراطية، فالكل يشارك في الاقتراع، إلا أن المجتمع الروماني يشترك مع المجتمع الإغريقي في كون الكل لا يمكنه ممارسة الوظائف السياسية، لأن هناك تراتبية في المجتمع المدني الروماني الناتج عن الإحصاء الذي يؤدي إلى التمييز الدقيق لأقلية من المواطنين مدعوة للمشاركة في الحياة المدنية، وبالتالي فإن المواطنة في كلا المجتمعين لم تقدم على شكل نموذج مثالي فريد.
2 ـ مواطنة الإيمان:
وهو المفهوم الذي ساد في الحقبة الإسلامية والمسيحية في أوائل فترة العصور الوسطى، حيث المواطن هو الفرد المنتمي للعقيدة السائدة في الدولة. وتميز هذا المفهوم بعدم التزامه بحدود الدولة، وإنما كان ذا صفة عالمية بحيث يشمل كل من ينتمي إلى العقيدة السائدة في أي مكان. وقد أعطى هذا المفهوم في صورته الإسلامية حقوقاً هامة للمرأة، إلا أن التطبيق العملي لتلك الحقوق على الأرض لم يكن بالمستوى نفسه، فظلت المرأة فعلياً في أغلب فترات التاريخ الإسلامي بعيدة عن العملية السياسية، أما صورة المفهوم المسيحي فلم تعط المرأة أي حقوق تذكر لا داخل الكنيسة ولا خارجها، واكتفى المفهوم بمنح الدعم المعنوي والروحي للعبيد دون الدعم المادي، فبقي العبيد في أسوأ حال في تلك الفترة، مع ما كان يُطلب منهم من قبول للعبودية بوصفها إرادة إلهية.
3 ـ مواطنة المدن المستقلة:
وهي التي سادت في المدن التجارية في جنوب أوربا وتحديداً في إيطاليا – في فترة العصور الوسطى ـ حيث كانت تعني الحصول على امتيازات مدفوعة الأجر، تمكن التجار من البيع، والشراء، والزواج، والطلاق، والسفر، وغيرها دون الحصول على إذن أو تصريح من السيد الإقطاعي وفقاً للنظام الذي كان سائداً حينذاك، وقد منح هذا المفهوم سكان المدن نوعاً من الحرية الفكرية والاقتصادية، ومكّنهم من تقديم رؤى نقدية للنظام الكنسي والإقطاعي، وظهور تيار فكري يرفض الأفكار الكلية للكنيسة، وينادي بالروح القومية، وقد عبر هذا التيار عن آرائه في مؤلفات كان لها صدى واسع بعد ذلك في فترة عصر النهضة.
4 ـ المواطنة التعاقدية:
وهو المفهوم الذي ساد بدءاً من عصر النهضة، والذي كان يقوم على فكرة العقد الاجتماعي؛ على اعتبار أن هذا الأخير (والذي تم تأسيسه على يد فلاسفة مرموقين من مثل توماس هوبز وسبينوزا وجون لوك وجان جاك روسو) يعتبر المحدد الرئيسي لطبيعة الدولة ونشأتها وبنية المؤسسة التشريعية والقضائية والتنفيذية. فلسفة العقد الاجتماعي تأخذ نموذجين في علاقتها بالمواطنة، نموذج الاتحاد، وميثاق الرعايا، وعليه فإن المواطنة تأخذ شكلين، مواطنة الرعايا ومواطنة المواطنين؛ فالأول يقوم على علاقة الولاء التام للحاكم من طرف الرعايا ويكون بين المواطنين والحكام، وليس بين المواطنين.
أما الشكل الثاني فيظهر في ميثاق الاتحاد الذي هو تحول من الفردية إلى المواطنة أي أنهم أصبحوا مواطنين بعد أن كانوا أفرادا. أما في الفكر الليبرالي فقد أخذ مفهوم المواطنة شكلا آخر يختلف عن سابقيه، باعتبار أنه قام على أن كل فرد يتمتع بمجموعة من الحريات الطبيعية التي تجد في الطبيعة الإنسانية مرجعيتها ومهمة السلطة السياسية هي حماية هذه الحقوق وليس لها الحق في أن تتدخل في نشاطات الأفراد إلا بقدر محدد.
اما المواطنة في عصر النهضة الاوربي، خاصة في الفكر السياسي الإنجليزي يمكن الاشارة إلى وثيقة الماغناكارتا والتي هي شرعة دستورية ترمي إلى حماية امتيازات البارونات أو طبقة النخبة من المواطنين، فهي وثيقة تقول للملك (لا تستطيع انتهاك حقوق هؤلاء البارونات)، في حين يعتقد البعض أنها أول وثيقة تقيد صلاحية الملك الإنجليزي في القانون الدستوري الإنجليزي، فالماجنا كارتا تتضمن الأسس الأولية لمبدأ المواطنة، رغم أنها في صورتها العامة تقعيد قانوني لامتيازات النبلاء، إلا أنها في المادتين 30/31 نلمس فيها احتراما وحماية للذات الحقوقية للمواطن أمام جشع النبلاء. وهذا ما كان مرجعا تاريخيا لما يسمى حقوق الإنسان.
في ما يتعلق بالمواطنة في الفكر الحديث، الذي يمنح للمواطنين صلاحيات التسيير والتغيير على مستوى التشريع والتنفيذ أيضا، فهو وليد الحداثة والدولة القومية خصوصا حيث ارتبط المصطلح بالدولة الحديثة في الغرب، ففي هذا السياق أخذت المواطنة منحى آخر مختلف عما كان في الحضارتين اليونانية والرومانية، وهذا ما نلاحظه من خلال البيان الأمريكي لسنة 1776، الذي نادى بالمساواة العامة بين الأفراد المواطنين، فالمواطن يملك القدرة على تغيير وتوجيه مسار الحكومة إذا انحرفت عن مسارها الصحيح، بالإضافة إلى الثورة الفرنسية، حيث ساهمت حركة التنوير في بلورة مفهوم المواطنة، والتي لم تكن مقتصرة أو محصورة في فرنسا فقط بل اكتسحت جميع المناطق في أوروبا، لذلك ركز العديد من رواد هذا الاتجاه على مبدأ السيادة الشعبية، وأن (للإنسان بوصفه إنسانا حقوقا طبيعية تعطيه صفة حقوقية لا يمكن التنازل عنها)، كما أن القرار السياسي في هذه المرحلة نابع من قرار الأمة، باعتبار أنها مصدر كل سيادة ولا يمكن لأي فرد أو مجموعة من الأفراد أن يزاولوا أي سلطة ما لم تكن نابعة من صلب الأمة.
5 ـ مواطنة الحقوق:
وهو المفهوم الذي ساد منذ منتصف القرن الثامن عشر، وارتبط بفكرة الحقوق التي تطورت من الحقوق الطبيعية إلى حقوق الإنسان، ثم إلى حقوق المواطنة، وباقي أنواع الحقوق، مثل: حقوق العمال، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل... إلخ. وقد تلقى هذا المفهوم دعماً قوياً من الثورة الفرنسية؛ التي تبنت فكرة حقوق المواطنة، وأصدرت: إعلان حقوق الإنسان والمواطن للتعبير عن الحقوق المدنية والقانونية لكل فرد داخل الجمهورية الفرنسية.
وقد ربطت الثورة الفرنسية المواطنة بدفع الضرائب، وميزت بين المواطن الفاعل والمواطن السلبي، فالمواطن الفاعل هو الذي يدفع ضرائب مباشرة تساوي أجر ثلاثة أيام عمل لمن هم دون مستوى المهارة العليا، وقد كان للمواطنين الفاعلين أن ينتخبوا في المرحلة الأولى ممثليهم الذين سيكونون ناخبين في المرحلة الثانية على أن يدفعوا بدورهم قيمة عشرة أيام عمل على الأقل ضرائب مباشرة، وقد كان المطلوب من النائب أن يكون من دافعي الضرائب بما يوازي أجر خمسين يوم عمل، ترجمت ماليا على أنها مارك فضي.
6 ـ المواطنة العالمية او المواطنة المعولمة
وهو مفهوم مستحدث يصف إنسانًا (يُسمى: مواطن العالم) يستطيع التفاعل على مستوى عالمي مع أي شخص مهما اختلفت ثقافته وموطنه. انتشر استعماله مع تزايد الوعي حول العولمة وانتقلت هوية الإنسان من منظور وطني بحت، إلى مفهوم وطني واسع. من المهارات التي على المواطن المعولم أن يمتهنها هي: مهارات المشاركة المدنية والفعالية السياسية، التعاطف الثقافي، واحترام التنوع، والقدرة على التوفيق بين الصراعات والتوصل إلى توافق في الآراء من خلال وسائل سلمية، بما في ذلك المناقشات والمداولات والمفاوضات.
مفهوم المواطنة المعولمة يأخذ معنًى أكثر وضوحًا في سياق المؤسسات الدولية، على ضوء المشاكل التي تؤثر على جميع سكان العالم مثل ظاهرة الاحتباس الحراري والتهديدات الإرهابية، وزيادة الالتزام والترابط بين سكان بلدان مختلفة. الأساس الأيديولوجي للمواطنة المعولمة يعتمد على حقوق الإنسان، كما وردت في ميثاق الأمم المتحدة، بما في ذلك الحقوق الاجتماعية. أبعد من ذلك، فإن معظم الحركات العاملة ضمن المواطنة العالمية تؤكد على مسألة الحد من الفجوات بين الدول النامية والمناطق الفقيرة كجزء من مواطن عالمي.
وبحسب منظمة أوكسفام والتي هي اتحاد دولي لـلمنظمات الخيرية تركز على تخفيف حدة الفقر في العالم فإن من ميزات المواطنين المعولمين أنهم:
يدركون العالم أجمع وليس بيئتهم فقط ويرون دورهم كمواطنين في كل العالم -يحترمون ويعطون قيمة عالية للتنوع- لديهم فهم كاف عن الكيفية التي يعمل بها العالم من النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتقنية والبيئية -يشمئزون من الظلم الاجتماعي- يشاركون ويساهمون في الأعمال المجتمعية على كل المستويات من المحلية إلى العالمية -على استعداد للعمل لجعل العالم مكانا أكثر استدامة - يتحملون مسؤولية أعمالهم.
ووفقًا لمعهد هونغ كونغ للتعليم الدولي، فإن (المواطنة المعولمة تتجاوز الاعتراف أننا من مواطني العالم، بل هي وسيلة تفكير وتصرف. إنها نظرة على الحياة، والاعتقاد بأننا يمكن أن نحدث فرقا ونجعل العالم مكانا أفضل. على نحو متزايد، الشباب ينمون في السياق العولمي. وكثير منهم سيعيشون ويعملون ويدرسون جنبًا إلى جنب مع أناس من جميع أنحاء العالم. كل قرار نتخذه كمستهلكين، أو مهنيين ناخبين له تأثير على المجتمع العالمي).
ويرى كل من غراهام بايك وديفيد سيلبي أن التعليم العالمي للمواطنة له فرعان، يشير الفرع الأول (العقل العالمي)، إلى فهم العالم كنظام موحد وإلى مسؤولية النظر إلى مصالح كل دولة على حدة مع مراعاة الاحتياجات العامة للكوكب. أما الفرع الثاني، المتمركز حول الطفل، فهو نهج تربوي يشجع الطلاب على البحث والاكتشاف بمفردهم والتعامل مع كل متعلم كفرد لديه معتقدات وتجارب ومواهب لا تُقدر.
على المستوى الفلسفي يمكن أن تشير المواطنة المعولمة في بعض السياقات إلى نوع من الأخلاق أو الفلسفة السياسية تُقترح فيها معالجة الحقائق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية الأساسية في العالم اليوم على جميع المستويات -من قبل الأفراد، ومنظمات المجتمع المدني، والمجتمعات، والدول القومية- من خلال منظور معولم. وتشير إلى نظرة عالمية شاملة -ثقافية وبيئية- تقبل الترابط الأساسي بين كل الأشياء. تصبح الحدود السياسية والجغرافية بلا قيمة، ويُنظر إلى حلول التحديات الراهنة على أنها يجب أن تتجاوز الرؤية الضيقة للمصالح الوطنية.
على المستوى النفسي فقد وجدت الدراسات التي أُجريت على الجذور النفسية للمواطنة المعولمة أن الأشخاص الذين يتمتعون بالمواطنة العالمية يتصفون بالانفتاح على التجربة والوفاق، وهما من عناصر الشخصية الخمسة الرئيسية (الانبساط، والقبول، والانفتاح، والضمير، والعصبية)، ويتصفون بالتعاطف والرعاية. بالمقابل، إن الشخصية التسلطية وذات التوجه للهيمنة الاجتماعية والمعتلّة نفسيًا ترتبط جميعها بشكل أقل بالهوية البشرية العالمية. يتأثر بعض هذه الصفات بالوراثة وأيضًا بالتجارب المبكرة، والتي تؤثر بدورها على تقبّل الأفراد للهوية البشرية العالمية.
وجدت الأبحاث أن أولئك الذين يتمتعون بالهوية البشرية العالمية أقل تحيزًا تجاه العديد من المجموعات، ويهتمون أكثر بحقوق الإنسان الدولية، وعدم المساواة في أنحاء العالم، والفقر العالمي، والمعاناة الإنسانية، ويهتمون بنشاط أكبر بالشواغل العالمية، ويقدرون أرواح جميع البشر بقدر أكبر من المساواة، ويعطون المزيد من الوقت والمال للقضايا الإنسانية الدولية. ويميلون إلى أن يكونوا أكثر ليبرالية من الناحية السياسية في ما يتعلق بالقضايا المحلية والدولية على حد سواء، ويريدون من بلدانهم أن تفعل المزيد لتخفيف المعاناة العالمية.
شروط ومقومات وجود المواطنة
توجد بعض الشروط والمقومات الأساسية، التي لا غنى عنها في اكتمال وجود المواطنة، ويُشار إليها على النحو التالي:
المقوم الأول: اكتمال نمو الدولة
يعد اكتمال نمو الدولة ذاتها بُعداً أساسياً من أبعاد نمو المواطنة، ويتحدد نمو الدولة بامتلاكها لثقافة تلك الدولة، التي تؤكد على المشاركة والمساواة أمام القانون. وعلى هذا النحو، فإن الدولة الاستبدادية لا تتيح الفرصة الكاملة لنمو المواطنة؛ لأنها تحرم قطاعاً كاملاً من البشر من حقهم في المشاركة، أو أن الدولة ذاتها قد تسقط فريسة حُكم القلة التي تسيطر على الموارد الرئيسية للمجتمع، ومن ثم تحرم بقية الأفراد من حقوقهم في المشاركة، أو الحصول على نصيبهم من الموارد. الأمر هذا يدفعهم، بداهة، إلى التخلي عن القيام بواجباتهم والتزاماتهم الأساسية، وهو ما يعني تقلص مواطنتهم بسبب عدم حصول المواطن على جملة الحقوق والالتزامات الأساسية، التي ينبغي أن تتوافر له. وهذا يوضح أن ثمة رابطة عضوية بين اكتمال نمو الدولة واقترابها من النموذج المثالي للدولة الحديثة، والمجتمع القوي المتماسك، وبين اكتمال المواطنة في مستوياتها غير الناقصة.
المقوم الثاني: ارتباط المواطنة بالديموقراطية
وذلك بوصف أن الديموقراطية هي الحاضنة الأولى لمبدأ المواطنة. وفي هذا الإطار تعني الديموقراطية التأكيد على لا مركزية القرار، في مقابل اختزال مركزية الجماعة. كما تعني أن الشعب هو مصدر السلطات، إضافة إلى التأكيد على مبدأ المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين، بصرف النظر عن الدين أو العُرف أو المذهب أو الجنس. وحتى تكون المواطنة فعالة، فمن الضروري أن يتوافر لها قدر من الوعي المستند إلى إمكانية الحصول على المعلومات من مصادرها المختلفة، بحيث تُصبح هذه المعرفة قاعدة القدرة على تحمل المسؤولية، كما تشكل أساس القدرة على المشاركة والمساءلة.
المقوم الثالث: تمتع المواطنين بكافة الحقوق
تمتع المواطنين، بكافة الحقوق السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وهذا يعني قيام عقد اجتماعي يؤكد على أن المواطنة في الأمة، هي مصدر كل الحقوق والواجبات، وأيضاً مصدراً لرفض أي تحيز فيما يتعلق بالحقوق والواجبات وفق أي معيار، سواء الجنس أو الدين أو العرق أو الثروة أو اللغة أو الثقافة. في نطاق ذلك، فإنه من الضروري تأكيد التلازم بين الحقوق والواجبات القانونية والسياسية، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وذلك حتى تتحقق الديموقراطية الكاملة. وفي هذا الإطار يتطلب التأكيد على المواطنة التأكيد على المساواة والعدل الاجتماعي، فيما يتعلق بتوزيع الفرص الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبطبيعة الحال السياسية.
المقوم الرابع: الفرد
يُعد الفرد البالغ العاقل أحد المكونات الأساسية للمواطنة، وذلك بوصف أن هذا الفرد يخضع لعملية التنشئة الاجتماعية والثقافية والسياسية، التي تقوم بها مؤسسات المجتمع المختلفة، بإشراف الدولة وسيطرتها. وتساعد عملية التنشئة ــ في حالة اكتمالها ــ الفرد على أن يستوعب أهداف الجماعة وتراثها، ويعبّر عن مصالحها، ويتعايش مع الجماعة، دون أن يذوب في إطارها.
المقوم الخامس: الرفاهية
يُعد إشباع الحاجات الأساسية للبشر، في أبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، أحد المقومات الرئيسية للمواطنة. وفي هذا الإطار تواجه المواطنة أزمة إذا تخلت الدولة عن القيام بالتزاماتها المتعلقة بتهيئة البيئة الملاءمة لتحقيق الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية للبشر. ومن الطبيعي أن يؤدي عدم إشباع الحاجات الأساسية للبشر إلى ظواهر عديدة، تُشير في مجملها إلى تآكل الإحساس بالمواطنة. وتبدأ هذه الظواهر بالانسحاب من القيام بالواجبات، ما دامت الحقوق قد تآكلت مروراً بعدم الإسهام أو المشاركة الفعالة على كافة الأصعدة، وحتى الهروب من المجتمع، والبحث عن مواطنة جديدة، أو التمرد على الدولة والخروج عليها، والاحتماء بجماعات وسيطة، أو أقل من الدولة. وتؤدي كل هذه الظواهر إلى تآكل المواطنة، بسبب تآكل إشباع الحاجات الأساسية.
يمكن مما سبق القول إن مفهوم المواطنة عبر تاريخه قد كشف عن عدد من الحقائق التالية:
1- ظهر مفهوم المواطنة طوال تاريخه الطويل بأكثر من صورة واحدة، وذلك بحسب ما تضمنه من قيم سياسية وأخلاقية في كل مرحلة من المراحل التي مر بها، فهو يعبر عن المسؤولية أحياناً، ويعبر عن الحقوق في بعض الأحيان، كذلك فقد كان يشير إلى الخضوع للسيادة في بعض الأوقات، وفي أوقات أخرى كان يعني حيازة السيادة وممارستها، كما أن حدوده كانت تضيق بمساحة دولة المدينة، أو تتسع لتشمل العالم، وهو ما يدل على مدى التنوع الذي حققه هذا المفهوم طوال تاريخه.
2- إن مفهوم المواطنة كان صورة دائمة للاستعباد، وعدم المساواة طوال تاريخه، فقد ظل العبيد والنساء ـ مثلاً ـ مستبعدين من نيل هذا الحق على الدوام، وحتى حين انتهت العبودية، وحصلت النساء على حقوق المواطنة، بقي المفهوم مرتبطاً بصورة الاستعباد تلك عبر التفرقة بين أبناء الوطن الواحد وباقي سكان الدولة ممن يعدون من الأجانب أو المقيمين فقط.
3- المواطنة مفهوم محوري في الفكر السياسي، فهو ـ وفقاً لطبيعته ـ يرتبط بعدد من المفاهيم الهامة في أي دولة في العالم، مثل المساواة، والمشاركة، والحقوق، والواجبات، والتعددية، والديمقراطية، والحرية؛ لهذا تعد دراسة تاريخ المواطنة دراسة لمدى تطور واختلاف تلك المفاهيم عبر العصور المختلفة، مما يمكن الباحث من فهم واستيعاب الصورة التي تكون بها الفكر السياسي الغربي في صورته الحالية.