إخفاق الشعبوية المناهضة للتقشف

بروجيكت سنديكيت

2025-09-06 04:02

بقلم: كينيث روغوف

كمبريدج ــ لكي يتسنى لنا فهم التمرد الشعبوي ضد التجارة الحرة وغيرها من ركائز الاقتصاد السائد ــ وهو التمرد الذي سَـخَّـرَه الرئيس الأميركي دونالد ترمب في خدمة طموحاته السياسية بمهارة لافتة للنظر ــ يتعين علينا أن نسترجع وقائع الحركة المناهضة للتقشف التي أعقبت الأزمة المالية العالمية في الفترة 2008-2009.

في أعقاب الأزمة، بدأ دعاة مناهضة التقشف يزعمون أن ما يسمى "تقييد الميزانية الحكومية" ليس ضرورة اقتصادية بقدر ما هو بنية فكرية خبيثة تقيد الإنفاق الاجتماعي والتحويلات الاجتماعية بقسوة. وهم يرون أن الحكومات ــ على الأقل في الاقتصادات المتقدمة ــ تستطيع على نحو دائم تقريبا إصدار مزيد من الديون بأقل تكلفة في الأمد البعيد.

أثناء العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ومع انخفاض أسعار الفائدة ــ خاصة على الديون الحكومية الطويلة الأجل ــ إلى أدنى مستوياتها تاريخيا، لم تكن الحجة لصالح مناهضة التقشف تبدو ملائمة من الناحية السياسية فحسب، بل بدت أيضا في نظر كثيرين مُـقـنِـعة فكريا. وحتى بعد ارتفاع نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة بنسبة 40% تقريبا في السنوات التي أعقبت أزمة عام 2008، تساءل كثيرون من أهل الاقتصاد: لماذا لا نزيد من الاقتراض؟

كانت الإجابة أن معظم الديون كانت قصيرة الأجل نسبيا، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة معرضة بشدة لأسعار الفائدة المرتفعة. بعد جائحة كوفيد-19، ومع عودة أسعار الفائدة إلى مستويات أقرب إلى الطبيعية، ارتفعت تكاليف خدمة الديون الأميركية إلى أكثر من الضعف، وهي مستمرة في الارتفاع مع حلول آجال استحقاق السندات القديمة وضرورة إعادة تمويلها بأسعار فائدة أعلى. وفي حين أن كثيرين من السياسيين لم يستوعبوا بعد العواقب المحتملة، فإن التأثيرات السلبية المترتبة على ارتفاع الديون وارتفاع أسعار الفائدة بدأت تتجسد بالفعل. 

في أوروبا، كان التحول مذهلا بذات القدر. فقد أعلن المستشار الألماني فريدرش ميرتس صراحة أن دولة الرفاهة، على الأقل في هيئتها الحالية، لم تعد في المتناول. تواجه الدول الأوروبية بالفعل النمو المتباطئ والشيخوخة السكانية، والآن يتعين عليها أيضا زيادة الإنفاق الدفاعي ــ وهي نفقات قد لا يصبر عليها دعاة مناهضة التقشف، لكن تجنبها أصبح متعذر على نحو متزايد.

تاريخيا، حدثت معظم أزمات الديون والتضخم عندما كانت الحكومات القادرة على الوفاء بالتزاماتها بالكامل تختار بدلا من ذلك التضخم أو التخلف عن السداد. بمجرد أن يستشعر المستثمرون والجمهور استعداد أي حكومة للجوء إلى مثل هذه التدابير المخالفة للمعتاد، قد تتبخر الثقة قبل أن تبدو الديون مفرطة بفترة طويلة، وهذا يترك لصُـنّاع السياسات قِـلة من الخيارات.

وبالتالي، في حين قد يكون السقف النظري للدين الحكومي مرتفعا للغاية، فإن الحدود العملية تكون غالبا منخفضة بدرجة أكبر كثيرا. وهذا لا يشير إلى وجود عتبة محددة يصبح عندها الدين غير قابل للاستدامة ــ الأمر ينطوي ببساطة على كثير من المتغيرات والشكوك في هذا الصدد. وكما أشرت أنا وكارمن راينهارت في ورقة بحثية صدرت عام 2010، فإن ديناميكيات الديون تشبه حدود السرعة: القيادة بسرعة أكبر مما ينبغي لا تضمن وقوع حادث، لكنها تزيد من خطر وقوعه.

في الاقتصادات المتقدمة، لا يتمثل الخطر الحقيقي الذي يفرضه ارتفاع الديون في الانهيار الوشيك بل في خسارة المرونة المالية. الواقع أن أعباء الديون الثقيلة من الممكن أن تحد من رغبة الحكومات في نشر الحوافز في الاستجابة للأزمات المالية، أو الجوائح الـمَـرَضية، أو الركود العميق. والتاريخ يثبت، فضلا عن ذلك، أنه في حال تساوي كل العوامل الأخرى ــ هيمنة العملة، والثروة، والقوة المؤسسية ــ تميل البلدان حيث ترتفع نسب الدين إلى الدخل إلى النمو بسرعة أبطأ في الأمد البعيد مقارنة بالاقتصادات المماثلة حيث ينخفض الدين.

برغم هذا، تعرضنا أنا وراينهارت لانتقادات لاذعة بسبب ورقة بحثية غير رسمية في مؤتمر عام 2010، والتي درست الصلة الموثقة جيدا بين ارتفاع الدين العام وتباطؤ النمو بالاستعانة ببيانات تاريخية مجمعة حديثا من كتابنا الصادر عام 2009 بعنوان "هذه المرة مختلفة". وتصاعدت الهجمات في عام 2013، عندما ادّعى ثلاثة من الاقتصاديين المناهضين للتقشف أن الورقة مليئة بالأخطاء وزعموا أن البيانات بعد تصحيحها لم تظهر أية أدلة تُـذكَر للتأكيد على أن ارتفاع الدين العام يحد من النمو الاقتصادي.

في الواقع، اعتمد نقدهم بشكل كبير على الاقتباس الانتقائي والمغالطة الجدلية. احتوت ورقتنا البحثية على خطأ واحد ــ وهو ليس بالأمر غير المألوف في الأعمال المبكرة غير الرسمية التي لم تخضع لمراجعة الأقران ــ ولكن لا شيء أكثر من ذلك. من المهم هنا أن أؤكد أن الاعتراف بأن الحكومات يجب أن تضع الديون في اعتبارها لا يعني تلقائيا الحاجة إلى التقشف. فقد تكون زيادة الضرائب أو زيادة معتدلة في التضخم، كما زعمت في عام 2008، أهون الشرور في بعض الأحيان.

لم تتضمن النسخة الكاملة المنشورة عام 2012 من ورقتنا البحثية والتي استندت إلى مجموعة بيانات أكبر، أي أخطاء وتوصلت إلى استنتاجات متطابقة تقريبا ــ وهي حقيقة يستمر المعسكر المناهض للتقشف في تجاهلها. منذ ذلك الحين، ربطت عشرات الدراسات الدقيقة على نحو مستمر بين مستويات الدين المرتفعة وتباطؤ النمو. وتظل القنوات السببية الدقيقة موضع جدال بين الاقتصاديين، لكن الأدلة دامغة.

يبدو أن قدرا كبيرا من الالتباس ينبع من الخطأ الشائع المتمثل في الخلط بين الدين والعجز. ورغم أن العجز أداة فعالة وضرورية للغاية أثناء الأزمات، فإن الديون الضخمة الموروثة تعمل على نحو شبه دائم كعائق للنمو وتترك للحكومات مجالا أقل للمناورة.

في السنوات الأخيرة، خسرت الحركة المناهضة للتقشف الزخم والمصداقية الفكرية، ويرجع هذا جزئيا إلى التضخم الذي أعقب الجائحة، ولكن بشكل أساسي لأن أسعار الفائدة الحقيقية تبدو وكأنها عادت إلى طبيعتها. ونتيجة لهذا، انكشف منطق الغداء المجاني الذي يقوم عليه الاقتصاد المناهض للتقشف على حقيقته التي كان عليها دائما: وهم خطير.

* كينيث روغوف، كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي سابقا، وأستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة هارفارد حاليا، من مؤلفاته: هذا الوقت مختلف: ثمانية قرون من الحماقة المالية، وكتاب: لعنة النقدية، وكتاب”دولارنا، مشكلتك“

https://www.project-syndicate.org

ذات صلة

بعثة اليونامي: الدور والمسؤولية والمصيرالنظام الدولي ما بعد قمة شنغهايتنظيم العلاقات الإنسانية في الرؤية الإسلامية وعلّم النفس الاجتماعيالنجاح يبدأ من هنا: 5 خطوات لتهيئة طفلك للعام الدراسيقطار التقسيم أم قطار نهضة سوريا..