الأزمة الاقتصادية في مِـصـر فرصة ذهبية

بروجيكت سنديكيت

2023-01-21 06:47

بقلم: رباح أرزقي

واشنطن، العاصمة ــ توشك مِـصر على الانزلاق إلى هاوية مالية واقتصادية. فقد نضب معين تدفقات المحافظ الاستثمارية التي غذت سوق ديونها السيادية، ودفعت التخفيضات المتكررة لقيمة الـعُـملة الجنيه الـمِـصري إلى الهاوية، وبلغ معدل التضخم 21% في أعقاب التآكل السريع لاحتياطيات البلاد من النقد الأجنبي.

بعد التعافي في البداية من جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، تضرر الاقتصاد الـمِـصري بشدة بفعل تداعيات الحرب الدائرة في أوكرانيا. باعتبارها أكبر مستورد للقمح في العالَـم، عانت مِـصر من ارتباكات العرض وارتفاع الأسعار الشديد، مع زيادة تكاليف المواد الغذائية والمشروبات بنسبة 37.2% خلال العام الماضي. وعلى الرغم من تخفيف تأثير ارتفاع تكاليف استيراد النفط على ميزان مِـصر الخارجي بفعل صادراتها السريعة النمو من الغاز الطبيعي، فإن الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة والغذاء كان شديد الوطأة على سكان مِـصر.

تسبب ارتفاع أسعار القمح، فضلا عن اتساع العجز الخارجي وانخفاض قيمة الجنيه، في فرض ضغوط شديدة على برنامج دعم الغذاء، وخاصة إعانات دعم الخبز التي يعتمد عليها ما يقرب من ثلثي السكان، أو نحو 60 مليون شخص. وأدى الضغط المفروض على ميزانيات الأسر إلى زيادة معدل الفقر، الذي يبلغ الآن 32.5%، في حين أصبح 60% من الـمِـصريين إما فقراء أو معرضين لخطر الانزلاق إلى براثن الفقر.

في محاولة لكبح جِـماح التضخم، رَفَـعَ البنك المركزي الـمِـصري أسعار الفائدة إلى 16.25%. ولكن مع ارتفاع الفارق على السندات المصرية إلى عنان السماء، أصبحت مِـصر مستبعدة فعليا من الأسواق المالية الدولية. في مواجهة أزمة السيولة المتنامية، نجحت مِـصر في تأمين قرض بقيمة 3 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي في ديسمبر/كانون الأول. من المتوقع أن يعمل برنامج صندوق النقد الدولي على تحفيز التمويل بما يصل إلى 17 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات للمساعدة في تغطية فجوة التمويل في مِـصر، في انتظار الإصلاحات الاقتصادية. ولكن لأن مِـصر تلقت بالفعل حزمة إنقاذ بقيمة 12 مليار دولار من الصندوق في عام 2016 وفشلت في تحويل اقتصادها، فسوف تستمر حالة عدم اليقين.

يتلخص أحد الدروس المستفادة من المتاعب الاقتصادية التي تبتلي مصر حاليا في أن أسواق رأس المال لا تستطيع وحدها مساعدة البلدان النامية على احتواء الصدمات الخارجية أو الداخلية. بل إنها تميل إلى تضخيم التأثير الذي تخلفه الصدمات. لبعض الوقت، ساعدت بيئة أسعار الفائدة المنخفضة التي أعقبت أزمة 2008 المالية العالمية البلدان النامية مثل مِـصر على الدخول في نوبة عارمة من الاقتراض الدولي، الذي ساعد فقط في إخفاء نقاط الضعف التي تعيب الاقتصاد الكلي والضعف البنيوي في هذه البلدان. ثم سقط القناع عندما أغلق بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وغيره من البنوك المركزية الكبرى صنبور الأموال الرخيصة وبدأت ترفع أسعار الفائدة، مما أدى إلى عودة المستثمرين أفواجا إلى الأصول المقومة بالدولار.

يتمثل درس آخر مستفاد من تجربة مِـصر في أن المؤسسات المالية الدولية تستطيع أن تضطلع بدور حاسم في التخفيف من العواقب المترتبة على تقلب تدفقات رأس المال على هذا النحو. تميل تدفقات الأموال الساخنة إلى البلدان النامية إلى تغذية التمويل بالاستدانة وفقاعات الأصول الخطيرة التي تستفيد منها الشركات ذات الصلات السياسية في مجال العقارات وغيره من القطاعات، وخاصة في بلدان مثل مِـصر، والتي تعاني من تضخم الدولة وضَـعف القطاع الخاص المبتلى بالمحسوبية. وعلى هذا، فبالإضافة إلى العمل كآخر ملاذ للإقراض في أوقات الاضطرابات المالية، من الممكن أن تساعد مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي في توجيه رأس المال الأجنبي بعيدا عن الرهانات المتقلبة التي تستند بدرجة كبيرة إلى المضاربة ونحو استثمارات أكثر صحة وإنتاجية.

ولكن عندما تندلع أزمات ميزان المدفوعات، يميل صندوق النقد الدولي إلى الاعتماد على برامج تركز على خفض أسعار الصرف لاستعادة استقرار الاقتصاد الكلي. وفي حين تركز هذه البرامج عادة على تقليص النفقات المالية والذي يؤثر بشكل غير متناسب على الفقراء، مثل تخفيضات إعانات دعم الوقود والغذاء، فإنها نادرا ما تؤدي إلى زيادة في الصادرات وكثيرا ما تهمل الإصلاحات البنيوية الحقيقية للحد من إعانات الدعم الحكومية والريع للشركات والأفراد من ذوي الصِلات القوية.

لتجنب ردة فعل شعبية عنيفة، يتعين على الجهات الـمُـقرِضة المتعددة الأطراف أن تعمل على منع التقاسم غير العادل للأعباء وتنفيذ الإصلاحات البنيوية المطلوبة بشدة والتي تتجاوز ضبط الأوضاع المالية. وفي حين قد تساعد الضوابط التنظيمية الاحترازية الكلية في منع الاعتماد المفرط على الروافع المالية في القطاع المالي، فإنها لا تعالج الفساد وغير ذلك من العوامل البنيوية التي تشوه تدفقات رأس المال.

الواقع أن إنقاذ صندوق النقد الدولي لـمِـصر يمثل فرصة ذهبية لكسر حلقة الازدهار والكساد المفرغة في البلاد وضمان الرخاء المشترك لكل الـمِـصريين. من خلال تقليص الدور الضخم الذي تضطلع به المؤسسة العسكرية في الاقتصاد، تستطيع مِـصر ضمان تكافؤ الفرص وتطبيق معايير المنافسة العادلة في قطاعات مثل الاتصالات، والخدمات المصرفية، والسياحة، والتصنيع، والزراعة. وعن طريق إزالة الحواجز التي تحول دون الدخول إلى الأسواق والتجارة، تصبح مِـصر قادرة على اجتذاب الاستثمار الأجنبي، وتعزيز النمو الاقتصادي، وتوفير فرص العمل اللائقة لشعبها الطامح ذي الأغلبية الساحقة من الشباب.

لطالما كانت مِـصر رائدة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا. ومن خلال وضع اقتصادها على المسار الصحيح الذي يقودها إلى استغلال كامل إمكاناتها، تصبح قادرة على إلهام كثيرين آخرين في المنطقة لتنفيذ إصلاحات مماثلة.

* رباح أرزقي، كبير الاقتصاديين السابق ونائب رئيس بنك التنمية الأفريقي وكبير الاقتصاديين السابق لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالبنك الدولي ، وزميل أول في كلية هارفارد كينيدي.
https://www.project-syndicate.org

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي