التمويل الحكومي للقطاع الخاص: مصارف التنمية في ضوء التجربة الدولية
د. احمد ابريهي علي
2022-12-04 06:34
هذه الورقة تتمة للدراسة المنشورة سابقا "الائتمان والخدمات المصرفية للمالية العامة..." للاقتراب من مفهوم مصرف التنمية ضمن المصارف العامة، وهي اكفئ المؤسسات المالية الوسيطة، ولذلك يثار تساؤل حول جدوى اقتراح صناديق لتمويل النشاط الخاص، فما هي أصناف الائتمان أو اشكال التمويل الأخرى التي تؤديها الصناديق وتعجز عنها المصارف العامة!!.
أنهت الأزمة المالية حقبة الأصولية السوقية واضطرت الحكومات والهيئات المنتخبة إلى مراجعة وظيفة الدولة في النظام الاقتصادي، وبرزت من جديد الأهمية الحاسمة للضوابط التنظيمية لعمل المؤسسات والأسواق المالية والرقابة عليها. وأتاحت هذه الأجواء تسليط الضوء على الدور الاقتصادي للقطاع العام والمصارف العامة في النهوض الاقتصادي للدول.
أثبت التحليل الكمي أضرار الأمولة الزائدة في الدول المتقدمة وتسارع الانحسار الصناعي الذي أخذ طريقه إلى كثير من الدول الناهضة ويهددها بالانحباس في فخ الدخل المتوسط، أنظر التصنيع والتحولات الاقتصادية الكبرى للباحث. تلك التحولات الخطيرة أيقظت الإحساس بالضرورة العملية للتخلي عن النطاق الضيق لسياسات الاقتصاد الكلي، المالية والنقدية، نحو الاقتصاد الحقيقي والصناعة بالذات.
في العراق من الواضح أن الدولة فقدت البوصلة، منذ استنزاف العملة الأجنبية نهاية عام 1983، دوران فوضوي حول نقطة يحركها سعر النفط. تلك لمحة، من بعيد، إلى خلفية موضوع هذه الورقة، تمويل التنمية... القطاع الخاص، وقد تناولناه بالمختصر عبر مفهوم فجوة الائتمان في دراسة منشورة على موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين، تشرين الثاني 2022، ونشير صراحة أن الهم الرئيس لهذه المداخلة كيف يتجنب العراق استحداث مؤسسات لا ضرورة لها، أو إشاعة المزيد من الأوهام الاقتصادية. ولذلك نتحاشى قدر الإمكان تقاليد المقالة الأدبية في الكتابة والخواطر الذاتية والوقائع غير الموثقة نظاميا.
والخلاصة التي انتهت إليها هذه الورقة ان الحكومة ليست بحاجة إلى استحداث مؤسسات مالية غير المصارف، أو التورط بترتيبات تمويل معقدة لأجل تنشيط الاستثمار في القطاع الخاص. المصارف وحدها كافية تستطيع الحكومة عن طريقها إيصال التمويل الذي تريد للمجال المستهدف في المكان الأولى بالرعاية. كما ان المصارف، بما لديها من ادوات وقابلية خضوعها للتوجيه والرقابة، أفضل المؤسسات المالية في التعامل مع سياسات الدولة المعاصرة في التنمية الاقتصادية الوطنية، والمكانية، والعدالة الاجتماعية. وهنا نقصد المصارف بتعريف أوسع شمل المؤسسات المالية التي تقرض اعتمادا على رأس المال مثل المصارف العراقية المتخصصة، فهذه ليست مصارف بالمفهوم الدقيق للمصرف الذي يُعرّف بأنه شركة إيداع أي يعتمد الودائع للإقراض، فالمصرف الصناعي العراقي أو الزراعي والعقاري مؤسسات إقراض أكثر منها مصارف. وأحيانا يبادر المهتمون بالقطاع الخاص فيقترح على الحكومي إنشاء صناديق لإقراض القطاع الخاص، ولا أعرف فرقا وظيفيا أو من جهة مصادر التمويل بين الصندوق و"المصارف" المتخصصة العراقية.
الرافدين والرشيد والمصرف العراقي للتجاري هذه مصارف حسب تعريف المفهوم بنظام الإحصآت المالية والنقدية والقوانين الأجنبية. وقدر تعلق الأمر بمهمة لإقراض القطاع الخاص لا تؤديها صناديق تستحدث أفضل من الأداء الممكن للمؤسسات القائمة. ولقد اقترحنا إعادة تنظيمها، المصارف الحكومية مجتمعة، في الدراسة المنشورة من موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين، المذكورة آنفا. نتحدث عن مؤسسات الإقراض والتسهيلات الائتمانية الحكومية؛ أما المؤسسات المالية للقطاع الخاص، مصارف أو أية اصناف أخرى بمختلف مصادر التمويل وأساليب الإقراض، أو من الأسواق المالية، هذه حرة لا تقيدها الحكومة بل تساعد على نشأتها وتطويرها وتقدم لها الدعم والحماية اللازمة.
المصارف العامة فاعلة في الدول المتقدمة والنامية
تهتم هذه المداخلة، في المقام الأول، بالمؤسسات المالية الحكومية التي تمول الاستثمار الخاص من أجل التنمية الاقتصادية والعدالة وهي في العراق المصارف المتخصصة تضاف إليها بعض الأنشطة زاولتها مصارف حكومية أخرى، وبعد إعادة التنظيم، عند الأخذ بالمقترح، تجتمع في مؤسسة واحدة كبيرة. ونعرض أفكارا وقناعات لتسليط الضوء على ضرورة التمويل الحكومي للقطاع الخاص لتأكيد أهمية المصارف العامة وتوسعة رأسمالها ونطاق نشاطها.
المقاربات النظرية في الاقتصاد، ضمن الفضاء الليبرالي، التي تنطلق من فرضية كفاءة الأسواق لا تنظر إلى المصارف الحكومية بعين الارتياح، ولا تؤيد حكم المؤسسات المالية بضوابط ورقابة عدا القليل من بعضها. ونتيجة لنفوذ المؤسسات الدولية والحكومات على هذا المنحى صارت مصارف التنمية تعمل في بيئة ليست ودية، لكن الضرورات العملية ابقتها ثم استعادت مكانتها تدريجيا بعد الأزمة المالية الدولية. وقد واجهت فرضية كفاءة الأسواق وقائع داحضة منها شائعة تسمى، تقنين الائتمان Credit rationing وخلاصتها أن المصارف الخاصة قد ترفض إقراض طالبي الائتمان حتى لو أبدوا الاستعداد لتحمل أسعار فائدة مرتفعةـ لتحفظ المصارف ومبالغتها في تقدير المخاطر، وتحجم المصارف الخاصة عن الإقراض عندما يكون استقرار الاقتصاد بأمس الحاجة إليه. ويأتي هذا الاعتراض النظري على الموقف الليبرالي في سياق "فشل السوق" إذ يفسر تقنين الإقراض بنقص المعلومات وعدم تناظرها بين طرفي صفقة الائتمان المحتملة. ويرى Stiglitz والتيار العريض من الكينزيين وغيرهم أن فشل السوق أكثر ضررا على الاقتصاد من "فشل الحكومة" وهو الشعار الليبرالي في مناهضة التدخل الحكومي. الذين يساندون المصارف العامة ومنها مصارف التنمية يطرحون "يد الحكومة الخفيفة" في مقابل اليد الخفية للسوق في الليبرالية الكلاسيكية. وترى هذه الجماعة أن أسواق المعرفة والمعلومات، أيضا، مصابة بنقص هائل؛ والمعلومات سلعة عامة Public Goods والحكومة أولى بتقديمها على الوجه الصحيح. القصد من ذلك أن المعلومات التي يعالجها المتعاملون في الأسواق لاتخاذ قراراتهم هي نتاج تلك الأسواق الناقصة.
وضمن هذا السياق يساعد المصرف التنموي على مراكمة وتنسيق الخبرات في مجالات معينة للتطوير، بعيدة عن استعدادات واهتمامات المصارف الخاصة، وهنا يرد مصطلح " تعلم كيفية التعلم" ولذلك تنفتح على التعاون مع فاعلين آخرين لسبر الأغوار والنظر في الآفاق، وهذا النمط من التفكير والسلوك ضروري للدولة النامية لأن اللحاق يتطلب تحولات بنيوية عميقة ولذا توجد دائما حاجة إلى نقطة بدء تتجاوز توازن الوضع الراهن، ودوافع تعظيم الأرباح في الأمد القصير. مثل هذه المهمات يناسبها المصرف التنموي وتعجز عن إنجازها أغلب المؤسسات المالية الخاصة. ويُذكر خلال هذا النقاش ميل المصرف الخاص والمستثمر إلى السيولة وهو من أسباب الإحجام عن الائتمان، والمصرف العام، والتنموي على وجه الخصوص، يعالج سلبيات هذا الميل.
سبق وبيّنا ان العوائد الإجتماعية للإستثمار تختلف، غالبا، عن العوائد المالية الخاصة بلغة ابسط عند حساب معدل العائد الداخلي بأسعار المدخلات والمخرجات التي تتعامل بها الوحدة الإنتاجية الخاصة التي يقيمها المشروع المستثمر به؛ ثم يعاد الحساب بأسعار مصححة للمدخلات والمخرجات بإزالة الإعانات والضرائب غير المباشرة، والإنحرافات في أسعار الوقود والعملة الأجنبية واجور العمل... عن مستوياتها الاقتصادية، وإضافة عوائد للمجتمع لا تقابلها إيرادات للوحدة الإنتاجية وتكاليف يتحملها المجتمع مثل التلوث وهدر موارد طبيعية... نكون إزاء معدل عائد داخلي اجتماعي، وهو الاقتصادي الكلي، يختلف عن معدل العائد الداخلي المالي آنفا. وتبعا لمقدار الفرق الموجب بين الأول والثاني يكون قرار التمويل الحكومي للمشروع الخاص.
أما العدالة التوزيعية وهي المعيار الثاني فتعتمد مقارنة توزيع الدخل بين المناطق والأسر قبل المشروع أو البرنامج الاستثماري وبعده، ثم يلاحظ مقدار التحسن في التوزيع بمقاييس التفاوت المعروفة. تبقى مسألة المقايضة بين الكفاءة التي يعبر عنها معدل العائد الداخلي الإجتماعي والعدالة وهذه ليس من الصعب الإتفاق عليها، وتعتمد ذات الأسس النظرية للضرائب والإعانات، ومنها المنفعة الحدية المتناقصة للدخل.
حينما تكون الأسعار بعيدة عن معدلاتها الاقتصادية المثلى لمختلف الأسباب والاستثمارات تميل نحو التركز الجغرافي تكفي الضرائب والإعانات لمعالجة التفاوت حتى عندما تصل المالية العامة إلى النضج المنهجي وتكتمل مقومات النزاهة، ولذلك لا يستهان بالنتائج الإيجابية لتمويل المصارف العامة للاستثمار الخاص. اما في العراق لا تقوى الإيرادات الضريبية، لضآلتها، على تصحيح ذي اهمية للتفاوت بين المناطق والأسر.
لأن أوربا الغربية مكان النشأة الأولى للاقتصاد المعاصر ونظامه، ننظر في وظيفة المصارف العامة هناك،
المصارف العامة، في سياق هذه المعالجة، مؤسسات مالية مملوكة بصفة رئيسة للحكومة العامة، الوطنية أو لأي من مستوياتها، أو لكيان ضمن القطاع العام، على سعته، محكومة بسلطات عامة و مقيدة بواجبات محددة من تلك السلطات بموجب القانون. أدبيات الليبرالية الصرفة، الأصولية السوقية، لا ترى في المصرف العام سوى أداة للسياسة الحزبية ويخضع لتحيزاتها وهو دائما أدنى كفاءة من المصرف الخاص. بينما في المقاربة الأخرى، التي أراها صحيحة، أن المصرف العام ليس بديلا للمصرف الخاص بل يؤدي ما يعجز عنه الأخير أو يعزف عنه. والمصرف العام مؤهل للعناية بمشروعات التطوير والنمو، ويساعد على استقرار الأسواق ويتجاوز فشلها عند انسياق المصارف الخاصة في الصعود نحو الفقاعة أو النزول الحاد إلى قعر الدورة. المصارف العامة تختلف من دولة لأخرى كما تغيرت في التاريخ، وهي على تباين واسع هذا الزمن في حجم النشاط وتنوع المنتجات وتعقيد العمليات والثقل النسبي في مجموع نشاط المصارف، في العراق ثلاثة أرباع الودائع الخاصة والائتمان لأنشطة الأعمال الخاصة والأسر من المصارف العامة.
تُذكر المصارف العامة مقترنة بالعدالة المناطقية وما بين الأثنيات، في دول مثل الولايات المتحدة، ومقاومة تسارع الأمولة Financialisations، والإهتمام بالبيئة، والعدالة الإجتماعية.
برزت المصارف العامة في أوربا واليابان نهاية الحرب العالمية الثانية لإعادة الإعمار، وبقي الدور الرئيس لها في المانيا حتى نهاية القرن العشرين رغم قوة الليبرالية الجديدة منذ الثمانينات. أن تاريخ المصرف العام يعدو إلى البدايات المبكرة للنهضة في دويلات المدن بداية القرن الخامس عشر، ويشار عادة إلى مصرف بلدية برشلونة عام 1401. في القرنين السادس عشر والسابع عشر ظهرت المصارف العامة شمال أوربا وفي المستعمرات الأمريكية. وأيضا، إنخرطت بعض المصارف العامة في أنشطة إستعمارية وتجارة العبيد، ونزع ملكية الأرض من السكان الأصليين، وممارسات مشينة مثل هذه متوقعة لأن المصارف العامة فعلا أدوات لسياسة الحكومات آنذاك.
بعد الحرب العالمية الثانية صار المصرف العام في كل مكان، من أمريكا اللاتينية وكندا إلى أوربا والشرق الأوسط واسيا وأفريقيا. ولا يقتصر على التمويل بل أخذ المصرف العام، التنموي، دور بيت الخبرة للمساعدة في التنسيق والتهيئة لإقامة الوحدات الإنتاجية الجديدة، وهكذا كان المصرف الصناعي في العراق، إضافة على تمثيل الحكومة في مصانع مشتركة مع القطاع الخاص.
في ألمانيا تأسس عام 1948 نموذج لما يمكن تسميته مصرف التنمية الوطني، مصرف الائتمان لإعادة الإعمار KfW Credit Institute for Reconstruction""، وهو الآن اضخم مصرف عام للتنمية في أوربا موجوداته 671 مليار دولار وفق أحدث البيانات، الآن،. ولا غرابة في أن أكبر مصارف التنمية في العالم، الآن، في الصين: مصرف تنمية الصين China Development Bank موجوداته 2.362 ترليون دولار؛ ومصرف تنمية Shanghai Pudong موجوداته 1.218 ترليون دولار. بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت مصارف التنمية متعددة الأطراف، على المستوى الإقليمي والدولي، استحداث المصرف الأوربي لإعادة الإعمار والتنمية EBRD مثالا للمصرف العام متعدد الأطراف؛ وعلى المستوى العالمي البنك الدولي للإنشاء والتعمير IBRD ضمن مجموعة البنك الدولي WB. وظهرت مصارف عامة أخرى متعددة الأطراف مثل مصرف القنصلية الأوربية للتنمية عام 1965؛ ومصرف الاستثمار الأوربي EIB عام 1958؛ ومصرف الاستثمار للدول الإسكندنافية Nordic Investment bank عام 1975؛ ومصرف متعدد الأطراف في آسيا ADB؛ وبنك التنمية الإسلامي في جدة. ولم يتوقف تكوين مثل هذه المؤسسات، وهو دليل على أن المصارف الخاصة لا تكفي وحدها ولا بد من دور للدولة أو للتعاون الدولي.
خلال موجة الليبرالية الجديدة بين مطلع الثمانينات والأزمة المالية الدولية واجهت الحكومات ضغوطا قوية لخصخصة المصارف العامة. وقادت المؤسسات الدولية، ومنها البنك الدولي ومؤازرة صندوق النقد الدولي، تلك الهجمة تمثلا لدوافع أيديولوجية متطرفة. لكن الأزمة المالية وما بعدها أرغمت مراكز النظام الاقتصادي في العالم للتراجع، فتجدد الإهتمام بالمصارف العامة، لكن في العراق تصلنا الموجة القديمة عندما تبدأ موجة جديدة هناك!!. وكالعادة تستنسخ صورة نمطية Stereotype للتبرير مثل البيروقراطية المتزمتة والثقيلة لوزارة المالية، بينما في العراق يستحضر هذا التبرير وصف فولتير للإمبراطورية الرومانية المقدسة " لا إمبراطورية ولا رومانية ولا مقدسة". من المفيد التمييز بين مصارف التنمية، مصارف عامة تمول الاستثمار الخاص لصالح الاقتصاد الوطني ورفاه المجتمع وعدالة توزيع الرفاه، والمصارف التجارية المملوكة للحكومة التي لا تختلف عن المصارف الخاصة، جوهريا، في تعاملها مع القطاع الخاص مثل مصرف الرافدين ومصرف الرشيد اللذان يتميزان عن المصارف الخاصة في الخدمات المصرفية للموازنة وحفظ اموال المؤسسات العامة. بيد ان المصارف العامة لا تنضوي في الصنفين آنفا فقط بل لها دور آخر غاية في الأهمية لتشجيع الإدخار، مثل صناديق التوفير في دوائر البريد والتي تندرج ضمن صنف مصارف الإيداع. ويشار إلى اليابان من أبرز الأمثلة، خارج اوربا، في هذا المجال حيث أقامت الحكومة عام 1871 خدمات بريد حديثة، وبدأت خدمات توفير البريد عام 1875. وقد تطور المصرف في الحجم إلى أحد أكبر المصارف في العالم وأضخم مصرف عام. ساهم مصرف البريد، هذا، في تمويل المشاريع العامة في البنى التحتية، أي تحويل الإدخار الخاص إلى إستثمار عام، ويؤدي خدمات أخرى منها إستلام وتحويل ضرائب الملكية... وغيرها. لكن الموجة الليبرالية كانت قوية وقررت الحكومة خصخصته تدريجيا عام 2001. جاءت الدعوة لخصخصة المصارف العامة مطلع الثمانينات وفيما بعد إنسجاما مع مبدأ التنمية على أساس السوق Market- Based Development لأن المصارف العامة لا تعمل وفق آليات السوق وتقرض بأسعار فائدة مشوهة، وتنتقل هذه التشوهات إلى الاقتصاد الحقيقي.
عدد المصارف العامة في دول الإتحاد الأوربي موجوداتها 8.1 ترليون دولار، عدا مصارف الإدخار الألمانية موجوداتها 2 ترليون دولار. وتذكر المصارف العامة الأوربية كثيرا في تمويل مشاريع البلديات وخاصة المياه والصرف الصحي، تكاليف التمويل واطئة وطويلة الأمد، ولا تنافسها المصارف الخاصة في هذه المهمة. وثمة قناعة أوربية ان المصارف العامة تساعد في ازمة تغير المناخ وأهداف أخرى ذات أهمية لهم، وقد مولت المصارف العامة الأوربية انشطة تنموية خارج اوربا في سياق مساعدات الدول المتقدمة للنامية.
المانيا، ورغم ضغوط صندوق النقد الدولي حافظت على حجم كبير نسبيا للمصارف العامة، وتبلغ موجودات Kfwأكبر مصرف عام لديها 500 مليار يورو. ,وله أهمية لألمانيا تفوق نظيره الصيني أو البرازيلي. وجود مصارف التنمية في الدول المتقدمة يرتبط عن الليبراليين الجدد بالسياسة الصناعية وهو تعبير يراد منه تدخل الدول في البنية القطاعية للإنتاج، والصناعة بالذات، وهو ما يتطيرون منه اذ لا ينسجم مع انفراد السوق في تخصيص الموارد وقبول نتائجه. وقد درجت البرامج الحكومية في العراق على تجنب الإشارة إلى التصنيع ربما، وبلا وعي من معديها، لمجاراة هذا التفكير. التصنيع مفهوم يُعرّف بتكوين وتوسيع قاعدة إنتاجية ارتباطا بتحول عميق يطال الاقتصاد بأكمله في ظل الدولة التنموية. وبذا يختلف التصنيع تماما عن تعبير مثل " ودعم الزراعة والصناعة والسياحة..." وما إلى ذلك.
ويشار في كثير من الأدبيات إلى تقلص فضاء السياسة الصناعية في الدول النامية بتأثير الاتفاقيات متعددة الأطراف والمؤسسات الدولية ومنها خاصة صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. وقد سعت تلك المؤسسات على إتلاف أدوات السياسة الصناعية في الدول النامية، وتكرار الدعوات للتخلي عن المصارف العامة للتنمية، والتخلي عن توجيه الائتمان نحو قطاعات ذات أولوية او التأثير في أسعار الفائدة... وهكذا. ومع ذلك يمكن مقاومة الضغط الخارجي والتمسك بالخيارات الوطنية. في الدول المتقدمة، المانيا وهي الدولة الصناعية الأكبر في اوربا، ومن أبرز ثلاثة دول في الصادرات. تمسكت في سياستها الصناعية، ومصارفها العامة أدوات رئيسة لأهداف سياستها. تاريخيا كانت مصارف التنمية العامة معروفة بفعاليتها لخدمة السياسة الصناعية في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وفرنسا وكوريا الجنوبية، مثلما هي الآن في الصين والهند والعراق لديه تجربة من هذا النمط قابلة للترصين والتوسع بها.
ومن الضروري التمييز بين تقديم إئتمان للقطاع الخاص من مصارف حكومية بصفة عامة في العقار والأبنية التجارية والسياحة والزراعة؛ ونموذج آخر يختار صناعات بعينها ليركز عليها لأجل تكوين بؤرة مكانية للتنمية الاقتصادية تستقطب المزيد من استثمارات القطاع الخاص، أو الاستثمار في صناعة او صناعات تؤلف قطاعا قائدا للنمو، هذه النموذج هو المقصود بالسياسة الصناعية.
مصرف التنمية الصيني CDB بالحجم الكبير لموجوداته وسعة نشاطه فاعل رئيسي في التنمية الاقتصادية، وشريك في التخطيط الاستراتيجي على مستويات عدة، ويساعد في صياغة أطر السياسات وفي الخطط الخمسية، على المستوى الوطني والولايات والمدن، ونجح في تجسير الفجوة بين تلك المستويات الحكومية،
وتولى رعاية قطاعات معينة. وساند تطوير أسواق المال التي مولت مشاريع البنى التحتية الحضرية مع حكومة إحدى البلديات ثم إنتشر النموذج في عموم الصبن، والذي يسمى نموذج Wuhu. حيث بدا العمل أول مرة في إبتكار أدوات التمويل المناسبة لخفض المخاطر في نظر الدائنين، وترتيبات سداد مستقلة... وسواها، اضافة على تجميع المشاريع الممولة في سلال كي يدعم بعضها بعضا. النجاح في تطوير البنى التحية قاد إلى انتعاش التشييد على نطاق واسع، وإقامة صناعات للمواد الإنشائية والسيارات، هذه المبتكرات أدت إلى قفزة في منطقة Wuhu توصف بمبالغة واضحة عندما يقال إزداد متوسط الناتج للفرد إلى عشرة أمثال ما كان عليه خلال سبع سنوات، وتحسب لمصرف التنمية الصيني CDB. لكن الحقيقة الأخرى والأكثر أهمية والتي لم تذكر هي القدرات الهائلة للمجتمع الصيني في التصنيع والنهوض العمراني كانت تبحث عن سبب كي تظهر وتتجسد على الأرض مصانع ومدن عصرية. وفي الصين بقي التمويل المصرفي هو المصدر الرئيس للائتمان من المنشاة الصغيرة إلى المتوسطة والكبيرة، وحتى أنشطة البحث والتطوير تتبناها مصارف التنمية. المصارف الحكومية عوامل أساسية في التصنيع والتنمية الصينية التي لم تأت نتيجة تقليص دور الحكومة بل تغير أساليبها في الإدارة والتمويل.
لمحات عن المصارف العامة في تجارب الدول
من القواعد المتعارف عليها في إدارة التمويل والصيرفة، إضافة على التزام المناهج الرصينة في النظر والتحليل والحساب، تحري المشتركات لأفضل الممارسات في العالم دون الانتقاء المتحيز لتبرير الإسراف في الإستثناء واللانظام، ولهذا نشير إلى تجارب اليابان وألمانيا ودول أخرى.
تأسس مصرف التنمية الياباني عام 1951 لدعم الصناعات ومرتكزاتها الأساسية، خاصة الفحم والكهرباء والحديد، والموازنة المكانية للتطور الاقتصادي لأن آليات السوق الطليقة تقود إلى التركز الجغرافي. قدمت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية مثالا لعلاقة مثمرة بين المصارف وقطاع الأعمال الخاصة وبالذات في التصنيع. وتوصف المقاربة اليابانية للسياسة الصناعية، آنذاك، بالفرادة ومن أدواتها التوجيه الحكومي للإئتمان. وبعد إكتمال القاعدة الصناعية أخذت سياسات الصناعة والائتمان الحكومي بمسايرة التوجهات في الغرب مثل الاستثمار الخاص في البنى التحتية والطاقة المتجددة ومعالجة النفايات إلى جانب تخفيف الضوابط الحكومية للإستثمار الخاص... وهكذا. في عام 1999 إتحد مصرف التنمية الرئيس مع مصرف آخر للتنمية (Hokkaido-Tohoku DFPC) لتكوين مصرف التنمية الياباني الجديد. وتأثرت مهامه، ايضا، بقوة التوجه الغربي لتقليل دور الحكومة في الاقتصاد، ورهاب التلوث والإحترار، لتجد: التنمية المجتمعية؛ الإستدامة والحفاظ على البيئة... وهكذا؛ لكن النمو الاقتصادي والتطوير التكنولوجي بقيت من مهام المصرف. عام 2008 صدر قانون جديد يهيئ لخصخصته، وحالت كثرة ازمات إقتصاد السوق وتوقف النمو الاقتصادي في اليابان أو ضآلته دون ذلك، ليكلف من جديد بتخصيص إستثماراته وقروضه لمواجهة الكوارث الكبيرة، والأزمات الاقتصادية، والإهتمام بتقوية القدرة التنافسية لشركات اليابان. يعمل مصرف التنمية بتوجيه من وزارة المالية اليابانية.
ولهذا نرى أهمية سياسة الائتمان الواضحة التي لم تكن إهتماما جادا لوزارة المالية في العراق ولا وزارة التخطيط أو الهيئة الوطنية للإستثمار. ويذكر ان أهم أسباب الصعود الياباني قبل عام 1990 يعود إلى التركيز على الإنتاج الكبير، وفورات الحجم – إنتاجية عالية – كفاءة، وليس كما يراد للعراق إشاعة تمجيد الصناعات الصغيرة والمتوسطة. ومن جهة اخرى، وهو المهم البدء بصناعات أدوات المكائن، وتكررت التجربة في كوريا الجنوبية بالتركيز على صناعة المكونات، والتجميع ثانوي لاحق للنجاح في صناعة الأجزاء. أما الدول التي أغرتها إستراتيجيات الهروب من التصنيع أو صناعات التجميع إنتهت إلى الفشل. التوجيه الحكومي للإئتمان يرتبط بتركيزه في الصناعات الأكثر ديناميكية وتقتضي زمنا أطول لقطف الثمار، وهذا يستحيل إنجازه في القطاع الخاص دون إرادة الدولة وعزيمة وهمة عالية متواصلة لحكومات متعاقبة لا تحيد عن الطريق. أما إستخدام الائتمان الحكومي للمجاملات وترضية هذه الفئة أو تلك من أصحاب المصالح فمضمونه واضح، تلهية الجماهير العريضة بالمواعيد وإستغفالها، ويبقى الضعفاء مع أقدارهم بلا رحمة.
المصارف الخاصة لا تتحمل أعباء تقديم قروض لتمويل مشاريع كبيرة وارباحها مؤجلة يكتنفها الكثير من عدم التأكد، لهذا صارت المصارف العامة للتنمية ضرورية. بيد أن الحكومات قد تلجا إلى اعانة المصارف الخاصة بتحمل هوامش فائدة إضافية من الموازنة العامة وكفالة المقترضين، وترتيبات أخرى، لإقناع المصارف الخاص بالتعاون معها في سياسات التصنيع او الإسكان وما إليها. لا توجد مثل هذه التجربة في العراق، في السنوات الأخيرة مول البنك المركزي قروضا للقطاع الخاص عن طريق المصارف الخاصة والأخيرة سهّلت إيصالها فقط بعمولة. ولذا لا غنى عن المصارف العامة. وإعادة التنظيم التي اقترحناها تفضي إلى تكوين مصرف كبير للتنمية تجتمع فيه جميع إمكانات المصارف الحكومية للإقراض واجتذابها للودائع مع دفعة كبيرة في رأس المال.
ويمكن بعد تطوير نظام العمل مباشرة مرحلة جديدة في الإقراض التنموي والسكني. أما أن تستحدث صناديق صغيرة هنا وهناك فهذه بعثرة للموارد وإرتباك في الأولويات وإدارة الائتمان وتنتهي إلى الفشل كما فشلت تجربة استحداث صندوق التنمية الصناعية في وزارة التخطيط زمن الحصار، لكن الذاكرة مثقوبة. إعادة التنظيم المقترحة تعني تجميع الإمكانات الحكومية للائتمان، الإسلامي والاعتيادي، في مصرف واحد وطني كبير للتنمية الاقتصادية والإسكان؛ أما بقية أنشطة الائتمان فتترك للمصارف الخاصة في ظل سياسة واضحة وإشراف ورقابة.
الائتمان الحكومي في اليابان لم يقتصر على مصرف التنمية بل مصرف الصادرات والإستيرادات، وجهات أخرى قدمت قروضا للمنشآت لتحرير نشاطها من قيد رأس المال المحدود، وجاءت هذه التدابير بنتائج ملموسة في تسارع النمو الاقتصادي إعتمادا على التصنيع المتجه للخارج، النموذج التي صار نمطا مشتركا لآسيا من سنغافورة إلى الصين مرورا بكوريا الجنوبية وتايوان. لقد إكتشفت اليابان من وقت مبكر أهمية إزالة قيد التمويل عن حركة التصنيع التي قادت التحول نحو التخوم الرائدة في التقدم الاقتصادي. تراوحت مدد الإقراض في اليابان بين سنة واحدة و17 سنة بمتوسط حوالي ست سنوات. والائتمان من المصارف العامة لا ينافس ويزيح الائتمان من المصارف الخاصة بل ربما يشجعها، وهذا مما يستحسن الإلتفات إليه في العراق كأن يتولى المصرف الحكومي تمويل خطوط الإنتاج، ومصرف خاص للأبنية، وآخر لتوفير رأس المال التشغيلي الإبتدائي... وهكذا.
من خبرة اليابان تشتد الحاجة للإئتمان الحكومي كلما كانت مخاطر الاستثمار، في مجال معين، عالية لا يستطيع القطاع الخاص تحملها لوحده. وترتبط المخاطر طرديا مع الحجم الكبير للوحدة الإنتاجية التي يقيمها الاستثمار؛ طول المدة من بداية الإنفاق لحين التشغيل التجاري وتحقيق إيرادات، والتي تسمى إصطلاحا فترة الحمل Gestation Period؛ التكنولوجيا معقدة، وعدم التأكد من فرص التسويق. ويخفف الائتمان الحكومي بتكاليف مناسبة الكثير من تلك المخاطر ويشجع المستثمر. وكذلك، يكون الائتمان الحكومي ضروريا للمشاريع التي تفوق عوائدها الاقتصادية الكلية عوائدها الخاصة للمستثمر، أو أن التكاليف المالية أعلى من القيمة الاقتصادية للموارد الموظفة فيها، بسبب إرتفاع أسعار بعض المخلات أو الأجور أعلى من كلفة الفرصة الإجتماعية البديلة للعمل في ظروف البطالة السافرة. وتدعم مصارف التنمية بالتمويل الكافي تلك المشاريع التي تُطوّر المناطق الفقيرة أو يترتب على نشاطها تحسين في توزيع الدخل. لكن، خدمة الائتمان الحكومي للتنمية الاقتصادية وتقليص الفقر وتقليل التفاوت يثبتها الحساب الاقتصادي المتخصص أما الحديث عن تنمية وعدالة دون حساب منهجي فقد يوظف لتبرير التحيز وهدر المال العام.
يشتغل النظام المصرفي الألماني بثلاثة أصناف من المؤسسات: مصارف القطاع العام؛ والمصارف التعاونية؛ والمصارف التجارية الخاصة. عام 1778 تأسس أول مصرف ادخار عام في ألمانيا، هامبورغ، ثم أسست عدة حكومات المانية مصارف أخرى على شاكلته. وكان الهدف الحد من نمو البروليتاريا الصناعية في المناطق الحضرية عبر إنعاش الزراعة والصناعات الصغيرة والحرفية في الريف.
وتأسست مصارف، أو صناديق، ادخار عديدة في القرن التاسع عشر لإستقطاب ودائع العمال والفئات محدودة الدخل بفائدة وتعبئتها لتمويل الاستثمار. كانت أصلا خاصة، وبعد هزيمة نابليون الأخيرة وإعادة البناء السياسي للدول الألمانية، وضعت الحكومات المحلية مصارف الادخار تلك تحت سيطرتها، وهذه إضافة كبيرة للصيرفة العامة في المانيا. ولأن أموال صناديق الادخار وجهتها السلطات الحكومية نحو أنشطة بعينها وقروض للبلديات أحيانا، ظهرت الحاجة إلى مصادر ائتمان للصناعات الصغيرة فساعدت على تكوين المصارف التعاونية. وبعد الوحدة الألمانية عام 1871 أخذت مصارف الإدخار مهمات واسعة في الإقراض السكني. وإستمر التنافس بين الأصناف الثلاثة؛ وبرزت المصارف التجارية الكبيرة مطلع القرن العشرين وتنوعت أنشطتها حسب التقاليد الألمانية في الصيرفة الشاملة. لكن المصارف العامة تأكدت وظيفتها الضرورية خاصة خلال الاضطرابات والأزمات.
خلال السنوات الأخيرة انتظمت المصارف الألمانية العامة على مستويين: الأول يتألف من مصارف حكومات الولايات وتصنف بأعلى درجات الجدارة الائتمانية AAA؛ ومصارف الإدخار (sparkassen)، والتي تشترك في رأس مال مصارف الولايات؛ مصارف الحكومات والإدخار يعملان في النطاق الإقليمي. والمستوى الثاني مصارف التنمية وهذه متخصصة وإتحادية. الغرض الأساس من وجود مصارف التنمية إعادة اعمار المانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ابرزها المصرف الذي تقدم ذكره KfW الذي كانت وظيفته الأولى توزيع الأموال المخصصة من مشروع مارشال. في عام 2020 يوجد في المانيا 1408 مصرف، عدد فروعها 24060، موجوداتها 273% من الناتج المحلي الإجمالي. عدد المصارف التجارية ذات الملكية الخاصة 164، وفروعها 6453، وموجوداتها 48% من مجموع موجودات المصارف؛ ثلاثة مصارف Deutsche Bank، Commerzbank، و UniCredit تستحوذ على 70% من موجودات المصارف التجارية. باقي عدد المصارف 1244، وفروعها، للمصارف غير التجارية حصتها 52% من مجموع الموجودات المصرفية، ومنها المصارف العامة والتعاونية.
ثمة تقاليد المانية في الصيرفة حاصرتها مبادئ الليبرالية الأنكلوسكسونية التي تزايد نفوذها في أوربا. حتى المصارف الخاصة تتصرف بمسؤولية عالية تجاه الصناعة بل قد تشترك المصارف في مجلس إدارات الشركات الصناعية وتهتم بنجاحها، وقطاع الأعمال يهتم أيضا لإستقرار المصارف ويحرص على دوام نجاحها. وبقيت الأصناف الثلاثة للمصارف متعايشة لمدة 150 سنة، وهي ميزة أخرى للتجربة الألمانية.
يصف تقرير صندوق النقد الدولي المصارف العامة الألمانية بأن مصارف حكومات الولايات عددها 6 بمثابة بنوك مركزية لمصارف الإدخار التي عددها 377 مصرف، تساعدها في السيولة ومعالجة عدم الملائمة بين آماد الودائع ومدد القروض، وتقدم خدمات حسابية لها والتسويات وخدمات أخرى. نلاحظ التكامل بين المصارف العامة الكبيرة وكثرة من المصارف الصغيرة وفروعها، هذا التكامل العملياتي يقلل التكاليف. في العراق لا نحتاج لهذا بعد إعادة التنظيم لأن فروع المصرف الحكومي الذي يتعامل مع القطاع الخاص، الأسر والأعمال، له فروع في كل مكان. ويذكر تقرير الصندوق 814 تعاونية مصرفية وفروعها كثيرة 7765 وموجوداتها 11% من مجموع الموجودات المصرفية. هذه التعاونيات تماثل إتحادات الائتمان في دول أخرى تقتصر ودائعها وقروضها على أعضائها. هذه لا تختلف جوهريا، كما ارى، عن المصارف العامة في معايير ادائها، وتشترك مع الصيرفة الإسلامية في التحمل الجماعي للمخاطر والعوائد. من الممكن الإنفتاح على هذا الصنف من المؤسسات المالية بيد ان مقومات نجاحه في المجتمع ضعيفة، وتبقى المصارف العامة هي التي تضطلع بالدور الرئيس.
تفترض نماذج النمو الداخلي Endogenous أن التطور المالي Financial بالعمق والتنوع يدعم النمو الاقتصادي إذ يساعد على تبادل وتراكم الأفكار التي تنعكس في تقوية رافد الكفاءة، التقدم التقني بالمبتكرات والإستعارات الإيجابية، والتحرير المالي يصب، عندهم، في هذا المجرى. وتناولت دراسة Chung وزملائه هذه العلاقة بتحليل كمي إختباري لتجربة دول آسيان وهي أندونيسيا، الفلبين، مليزيا، سنغافورة، وتايلند للمدة 1980- 2012، والذي يهمنا ما استنتجته الدراسة بخصوص التمويل التنموي الحكومي والذي جاء إيجابيا في النمو الاقتصادي لهذه الدول. توصلت الدراسة إلى وجود علاقة، بمعنوية إحصائية، بين النمو الاقتصادي، وأنشطة البحث والتطوير R&D والتطور المالي ومتوسط رأس المال للعامل. وتبين أن العمق المالي، في بعض جوانبه، أكثر فاعلية من الرسملة السوقية، نسبة راس المال التساهمي إلى الناتج المحلي الإجمالي. وليست جميع أبعاد العمق المالي إيجابية، فلم تظهر فاعلية لموجودات المصارف التجارية الإعتيادية في النمو الاقتصادي، بينما كان لتشجيع الائتمان من القطاع العام أثرا واضحا. وأظهرت الدراسة ان الإنفتاح المالي كان سلبيا لكن تخفيف الضوابط له دور إيجابي.
مصادر تمويل مصارف التنمية الوطنية الحكومية وبعض سماتها
بيّنا في دراسة سابقة ان الودائع في العراق تبقى محدودة لأن نسبة النقود إلى الناتج المحلي قريبة من النصف، والودائع تدور حول نصف النقود، وعندما يقيد الائتمان بالودائع يبقى منخفضا دون المستويات المناسبة، وبذا تظهر الحاجة لمصادر تمويل أخرى ومنها رأس المال. وتفيد التجربة العالمية إمكانية تنويع مصادر التمويل لمصارف التنمية، وهي وسيطة بين الحكومة والقطاع الخاص. ولذا تنتفع كثيرا من الجدارة الائتمانية للحكومة فتستقطب ودائع وتسوق سندات؛ ويمكنها، أيضا، إدارة محافظ إستثمارية بالأسهم للمشاركة في تأسيس او توسيع شركات مساهمة لخدمة أهداف التمويل التنموي.
وبصفة أولية تصنف مصادر التمويل للمصرف التنموي إلى: راس المال المملوك من الموازنة العامة والأرباح المحتجزة المتراكمة؛ والدين، المطلوبات للغير: من الودائع، السندات التي يصدرها المصرف، الإقتراض من سوق ما بين المصارف والذي لم يبدأ في العراق بعد، الإقتراض من البنك المركزي، قروض من المؤسسات المالية الدولية ومصارف التنمية متعددة الأطراف. مصادر التمويل تلك على الميزانية العمومية Balance Sheet للمصرف التنموي، وثمة مصادر تمويل خارج الميزانية العمومية ومنها المستأمنات Trust Funds هي أموال توضع في المصرف لصالح فئات معينة مثل القاصرين، او تبرعات لتمويل سكن الفقراء...أو نافذة صيرفة إسلامية... وهكذا؛ محافظ إستثمارية يديرها للحكومة او مؤسسات للقطاع العام او صناديق التقاعد والضمان الإجتماعي، او شركات التامين، هذه المحافظ أداة مهمة للمصرف التنموي لتأسيس وتوسيع الشركات المساهمة للإنتاج الكبير في الصناعة، والعراق بحاجة ماسة إليها، وتساعد على تطوير السوق المالية عندما تسجل في سوق الوراق المالية لاحقا. مصادر التمويل خارج الميزانية لا يستطيع المصرف التنموي التصرف بها للإقراض والاستثمار إلاّ بشروط الطرف مالك المحفظة أو المُستأمِن، ومع ذلك تخدم أهداف التنمية التي وجد المصرف من أجلها. أما مصادر التمويل من داخل الميزانية العمومية فالمصرف يقرضها كيفما يريد مقابل إلتزامه للدائنين من مودعين وسواهم.
يتحمل المصرف التنموي المخاطر الائتمانية للانشطة التي يمولها من داخل ميزانيته العمومية، ولأنها، على الأكثر، بعيدة الأمد مثل السكن، أو إستثمار في صناعات جديدة يكتنفها عدم التأكد لذلك يكون رأس المال من الحكومة، الموازنة العامة، المصدر المعول عليه. اما مصادر التمويل خارج الميزانية العمومية فهذه تدار بتعليمات Instructions من اصحابها ولذا لا يتحمل المصرف مخاطر الائتمان والاستثمار لهذه الأموال، لكنه مستشار والمستشار مؤتمن، يعرض عليهم الفرص التي يراها مناسبة والقرار لهم.
مصارف التنمية لا تستهدف تعظيم الأرباح مثل المصارف التجارية، ولهذا من غير المتوقع توسيع رأس مال هذه المصارف من تراكم الأرباح، لكن لأن الحكومة ضامنة لها بنصوص القانون أو بالتقاليد الراسخة تُقبل عليها الودائع وسنداتها قابلة للتسويق لكن سوق أدوات الدين في العراق لم يبدا عمليا بعد. وتحتاج هذه المصارف لتواكب نمو الطلب على الائتمان إلى دفعات سنوية منتظمة لتعزيز راس المال وإعانات لتعويض فروقات أسعار الفائدة.
شخّصت مسوحات Xu وزملائه 378 مصرفا تنمويا حكوميا في العالم، منها 123 في الدول عالية الدخل، 122 في الدول متوسطة الدخل في الشريحة العليا، 111 في الدول متوسطة الدخل في الشريحة الدنيا، و 22 في الدول واطئة الدخل. ومصارف التنمية هي ليست كل المصارف الحكومية لأن بعض هذه الأخيرة تجارية إعتيادية. وتصنف 18 من مصارف التنمية الوطنية عملاقة حيث تزيد موجودات المصرف عن 100 مليار دولار فأكثر والعراق مرشح لهذه الفئة بعد إعادة التنظيم بمدة ليست طويلة. ومن هذه إثنين في الصين زادت موجودات كل منهما عن ترليون دولار، ذكرناهما آنفا. مصارف التنمية العملاقة لا تقبل ودائع من القطاع العائلي وكذلك أغلب مصارف التنمية في الدول عالية الدخل لأنها تقرض لآماد بعيدة تتطلب تمويلا من مصادر مستقرة مثل رأس المال من الموازنة العامة والسندات طوية الأمد. أما في العراق فالمصارف المتخصصة وهي تنموية، الزراعي والعقاري والصناعي، فتعتمد على مصدر تمويل وحيد من الحكومة وأخيرا من البنك المركزي إضافة على رأس المال الحكومي. وبعد إعادة التنظيم يكون المصرف التنموي العراقي شاملا ولذلك يجمع بين خصائص المصارف المتخصصة الحالية والمصارف التجارية الحكومية ولذلك يتولى قبول وإدارة ودائع القطاع الخاص مثلما تقوم بها المصارف الحكومية التجارية إلى الآن.
أكثر من نصف مصارف التنمية الوطنية تزاول جميع أنشطة الائتمان في جميع القطاعات؛ والفئة الثانية تختص بالمنشآت المتوسطة والصغيرة بنسبة حوالي 18% من مجموع مصارف التنمية؛ ثم تليها التي تختص بالتجارة؛ وبعدها الزراعة والتنمية الريفية؛ ثم الإسكان؛ وقليل منها في البنى التحتية والاستثمارات ذات الصلة بالحكم المحلي.
توصف مصارف التنمية العامة بدقة ووضوح المهام بهدف الإنجاز التنموي، ولذلك تركّز أنشطتها في المناطق والقطاعات الأكثر احتياجا للموارد، وذات العوائد الأعلى في النمو والتشغيل والعدالة الاجتماعية، والأفق الزمني البعيد. وتُنظّم الائتمان الذي تُقدّم لدعم الاستراتيجيات الوطنية وبوتائر تساعد على الاستقرار، معاكسة الدورات، وتحرص على التزام زبائنها للضوابط القانونية والإفصاح والنزاهة مع الدولة وتسديد المستحقات الضريبية وأفضل المعايير البيئية والاجتماعية وحقوق العمال. وأيضا، يراد لمصارف التنمية العامة عقلنة وتهذيب سلوك مؤسسات قطاع المال والمصارف التجارية بالذات.
وينتظر من مصارف التنمية العامة التحليل الدقيق للمشاريع التي تمول وتُحقّق وتتابع، لأن المصارف أيضا عرضة لاختراقات الفساد وهدر الموارد على حساب المصلحة العامة. وتعمل مصارف التنمية العامة بإشراف مباشر من الحكومات ومراقبة السلطة التشريعية وسلطة الرقابة على المصارف.