حوار مع الإمام الشيرازي حول وجود الله ونقض الإلحاد
علي الموسوي
2025-09-03 05:27
أنا شاب من هذا العصر، أعيش وسط عالم يموج بالأفكار المتناقضة، وتتهاوى على عقلي الشُّبهات من كلِّ جانب؛ من مواقع التَّواصل، ومن النِّقاشات اليوميَّة، ومن الموجات الفكريَّة التي يثيرها الإلحاد والتَّغريب. وفي كثير من الأوقات كنت أشعر وكأنني في مواجهة عاصفة، أسئلة متلاحقة تطاردني:
هل لهذا الكون إله؟
ما معنى الوجود؟
هل الدِّين حقيقة أم وهم؟
لكنني حين فتحت كتب المرجع الراحل الإمام السيِّد محمَّد الشيرازي (قدَّس الله تعالى نفسه الزكيَّة)، وتحديدًا كتابه "وقفة مع الوجوديين"، وجدت نفسي أمام تجربة مدهشة. لم يكن الأمر مجرَّد قراءة كلمات على ورق؛ وإنَّما كان إحساسًا قويًّا بأنني أجلس أمامه مباشرة، أطرح عليه ما يثقل قلبي من أسئلة، وأستمع إلى إجاباته التي تذيب الشَّك وتمنح العقل صفاءً وطمأنينة.
أدركت حينها أنَّ الأئمة من العلماء الرَّبانيينَ لا يغيبون بموت أجسادهم، ففكرهم الحيّ يسافر عبر الزَّمن، ويمدُّ الأجيال بالقوَّة والوعي. وهكذا الإمام الشيرازي حاضر في حياتي بفكره العميق وروحه الهادية، وكأنني أحاوره الآن، يناقشني بلغة العقل، ويخاطبني بلغة القلب، ويأخذ بيدي من تيه الشُّبهات إلى نور اليقين.
ولهذا السَّبب أتعامل مع الإمام الشيرازي وكأنَّه حيّ بيننا، أسمع صوته بين سطور كتبه، وأشعر بأنفاس فكره ترافقني في رحلة البحث عن الحقيقة، وأرى في علمه شعلة لا تنطفئ، تنير دروب الشَّباب والفتيات الذين يتساءلون مثلي، ويبحثون عن معنى الإيمان في زمن يغمره الاضطراب.
لهذا جئتُ إلى هذا الحوار، أفتح قلبي وعقلي مع الإمام الشيرازي (رحمة الله تعالى عليه)، أسأله كما يسأل الشَّباب اليوم، وأستمع إلى إجاباته التي تنبض بالحياة، لأجد في كلماته طريق الطَّمأنينة والإيمان. فتعالوا معي لتستفيدوا من هذا الحوار القيِّم والمفيد، فهو لكم يا شباب ويا فتيات ليضيء أفكاركم ويثري معرفتكم:
الشَّاب: سماحة المرجع، كثير من النَّاس يقولون: لم نرَ الله، فكيف نؤمن بوجوده؟
أليس الأصل أن أرى الشَّيء كي أصدق بوجوده؟
الإمام الشيرازي: بنيَّ، هل رأيتَ في حياتك شيئًا يظهر للوجود بلا سبب؟
إنَّ كل ما حولنا، من أصغر الأشياء إلى أعقدها، يصرخ بأنَّ له صانعًا؛ القلم لم يوجد من تلقاء نفسه، والسَّاعة لم تتجمع أجزاؤها بالصُّدفة، والهاتف لم يتكوَّن من ذرَّات تلاقت بلا غاية. وحتَّى الصُّورة التي تُرسم باليد تدلُّ على رسَّام بارع وقف وراءها. فكيف بالإنسان الذي في داخله عقل يفكِّر، وقلب يخفق، وروح تبحث عن الخلود؟ كيف بالكون الفسيح الذي تنتظم فيه المجرَّات والنُّجوم بدقَّة مذهلة؟
أيمكن أن يكون ذلك بلا خالق؟
إنَّ فكرة "أثر بلا مؤثِّر" لا يقبلها عقل سليم حتَّى في أبسط الأشياء، فكيف يُقبل إنكار المؤثِّر الأعظم؛ وهو الله (جلَّ جلاله)، الذي هو وراء كلِّ أثرٍ في هذا الوجود؟
يا ولدي: لو مررت بحديقة ورأيت الأزهار مرتبة بألوانها الزَّاهية، والنَّافورة تتدفق بمائها العذب، والطُّيور تغرِّد حولها، هل ستقول: هذه الحديقة الجميلة وُجدت وحدها بلا بستاني، وبلا من زرع وسقى ونظم؟
أم أنَّ عقلك سيهمس لك فورًا: وراء هذا الجمال يد خبيرة؟
هكذا الكون كله حديقة كبرى، من الذرَّة الصَّغيرة إلى المجرَّة العملاقة، كلُّها تقول لك: هناك خالق، حكيم، قادر.
فلا تدع الشُّبهات تُعميك عن الحقيقة التي تعرفها بفطرتك قبل أن تتعلمها من الكتب: أنَّ لكلِّ أثرٍ مؤثِّرًا، ولكلِّ خلقٍ خالقًا، وأنَّ الله (سبحانه) أقرب إليك من نفسك، يهديك بعقلك وقلبك إليه إن أردت أن ترى بصدق.
ولأقرب الصورة أكثر: لنفترض أنَّك وجدت على الطَّاولة قلمًا أنيقًا، أو ساعة مضيئة، أو هاتفًا جديدًا، أو حتَّى لوحة مرسومة لوجه إنسان. لو سألك أحدهم: من صنع هذا؟
ثمَّ أجابك بنفسه: لم يصنعه أحد؛ بل جاء وحده بلا صانع… هل ستأخذ كلامه على محمل الجدِّ؟
أم أنَّك ستضحك من غرابة الفكرة؛ لأنَّ عقلك ببساطة يرفضها؟
الشاب: بالتَّأكيد أضحك؛ لأنَّ عقلي يخبرني أنَّ كلَّ أثرٍ يحتاج إلى صانع.
الإمام الشيرازي: أحسنت. إذا كانت صورة الإنسان المرسومة على ورق أو لوحة تحتاج بالضَّرورة إلى رسَّام يمسك بريشته، ويراعي ملامح الوجه وخطوط العينين وابتسامة الشِّفاه، فكيف بأصل الصُّورة نفسها؛ أي الإنسان الحيّ؟
أليس هو أعقد وأعجب بما لا يُقاس؟
العقل السَّليم لا يقبل أن تُرسم لوحة بلا رسام، أو أن يُكتب كتاب بلا كاتب، فكيف يقبل أن يوجد إنسان له عقل يتأمَّل، ولسان ينطق، وقلب ينبض، وروح تبحث عن معناها، ثم يُقال: لا خالق له؟
أليس هذا قلبًا للمنطق رأسًا على عقب؟
إنَّ الفطرة –تلك البوصلة الدَّاخليَّة التي أودعها الله (تعالى) في كلِّ إنسان– تصرخ بأنَّ وراء هذا الخلق صانعًا حكيمًا. ومن يُنكر هذه الحقيقة إمَّا أنَّه غافل غير ملتفت لما يقوله عقله، أو أنَّه مكابر يُصرُّ على العناد على الرَّغم من وضوح الدَّليل؛ فالبرهان على وجود الله (سبحانه) لا يحتاج إلى تعقيد فلسفي. ويكفي أن تنظر إلى نفسك في المرآة، إلى حركة عينيك، وإلى دقَّات قلبك التي لا تملك السَّيطرة عليها... عندها سيقول لك عقلك: "هل يعقل أن تكون كلُّ هذه الرَّوعة جاءت بلا خالق"؟
الشاب: لكن يبقى السُّؤال: إذا كان الله (تعالى) موجودًا، فلماذا لا نراه؟
الإمام الشيرازي: قد يقول بعضهم: "أنا لا أؤمن إلَّا بما أرى"، وكأنَّ ما تراه العين هو المقياس الوحيد للوجود! لكن هل حقًا كل ما لا يُرى معدوم؟
انظر حولك قليلًا... هل ترى الهواء الذي تتنفسه؟ لا، ومع ذلك فأنت تؤمن بوجوده وتعيش به.
هل ترى الكهرباء التي تجري في الأسلاك وتشعل المصابيح وتشغِّل هاتفك؟ لا تراها، لكنك تراها بآثارها، وتشهد قوَّتها في كلِّ لحظة.
وهل ترى العقل الكامن في الإنسان؟ أو الرُّوح التي تحيي الجسد؟ كلا، لكن آثارها في التَّفكير والمشاعر والحياة أوضح من أن تُنكر.
إذن ليس شرطًا أن ترى الشَّيء بعينيك حتَّى تؤمن به.
نحن نؤمن بوجود أشياء كثيرة من خلال آثارها لا من خلال رؤيتها المباشرة؛ فالعين أداة محدودة؛ لكنها ليست وسيلة المعرفة الوحيدة. والعقل والفطرة يكشفان لك ما هو أوسع بكثير ممَّا تراه عيناك.
فإذا كان الإنسان يقبل بوجود الهواء والكهرباء والرُّوح مع أنَّه لا يراها، فلماذا يستغرب حين نقول بوجود الله (تبارك وتعالى)؟! ثمَّ إنَّ الله (جلَّ جلاله) أوضح من كلِّ هذه الأشياء؛ لأنَّ آثاره تحيط بنا في كلِّ لحظة: في خلقك، وفي الطَّبيعة التي تنتظم بدقَّة، وفي الكون الذي يسير بلا خلل.
إذن، من الخطأ أن يُقال: "كل موجود يجب أن يُرى". هذا منطق ناقص؛ لأنَّ الأهم من الرُّؤية هو الدَّليل، وأقوى دليل على الله (سبحانه) هو وجودك أنت وما حولك من هذا الكون البديع.
الشاب: طيِّب، هناك من يقول: إنَّ "الطَّبيعة" هي التي خلقت كلَّ شيءٍ. أليس هذا ممكنًا؟
الإمام الشيرازي: فكِّر معي قليلًا ياولدي… هل الطَّبيعة عالمة أم جاهلة؟
هل قادرة أم عاجزة؟
الطَّبيعة بلا عقل، وبلا إدراك، وبلا خطة، مجرَّد مواد وعناصر تتحرَّك وفق قوانين فيزيائيَّة. فكيف يمكن لشيءٍ جاهل عاجز أن يخلق هذا الكون المذهل بكلِّ دقَّته وإتقانه؟
تخيَّل معي أنَّك ترى قصرًا فخمًا، مليئًا بالغرف الأنيقة، والممرات المزخرفة، والمصابيح المضيئة، والأثاث المرتب بعناية، ثمَّ يقول لك أحدهم: "هذا القصر بُني من تلقاء نفسه، بلا مهندس، بلا صانع، بلا عامل واحد!". هل ستصدق؟
العقل البشري لا يقبل بهذا أبدًا؛ لأنَّه يرى بعينه أنَّ كلَّ أثر يحتاج إلى صانع، وأنَّ وراء كلِّ ترتيب وتنظيم عقل حكيم.
الشاب: حسنًا، سؤال آخر: إذا كان الله خالق كل شيءٍ، فمن خلق الله؟
الإمام الشيرازي: سؤالك ممتاز، ويحتاج إلى توضيح بسيط.
في الفلسفة الإسلاميَّة، الموجودات تُقسَّم عادة إلى ثلاثة أقسام:
الأول: واجب الوجود، وهو الموجود الذي وجوده ذاتي، أبدي، لا يحتاج إلى سبب أو خالق ليكون. هذا هو الله (سبحانه وتعالى)، الذي وجوده قائم بذاته، مستقل، لا يُستند إلى غيره في وجوده.
الثَّاني: ممكن الوجود، وهو كلُّ ما يمكن أن يوجد أو لا يوجد؛ أي أنَّ وجوده ليس ضروريًا بذاته. نحن، والكون، وكل المخلوقات من هذا النَّوع. لم نكن موجودينَ في السَّابق، ثمَّ وجدنا؛ لذا نحن بحاجة إلى خالق يجعلنا موجودين.
الثَّالث: الممتنع في الوجود، وهو الشَّيء المستحيل أصلًا، ولا يمكن أن يحدث أبدًا؛ لأنَّه متناقض أو غير منطقي. مثلًا: فكرة أن يكون لله (تعالى) شريك (والله منزَّه عن ذلك) أو أن يوجد شيء يلغـي مبدأ الضَّرورة والسَّببيَّة؛ والمقصود بـ (إلغاء مبدأ الضرورة أو السببية) هو إنكار القانون العقلي الذي يقول: كلُّ شيءٍ يحتاج إلى سبب أو علَّة تفسِّر وجوده.
بمعنى: لا يمكن أن يحدث شيء فجأة من غير سبب، ولا يمكن أن يوجد موجود بلا علَّة.
فلو جاء شخص وقال: "هناك شيء وُجد هكذا بلا أي سبب"، فهذا يناقض العقل والمنطق.
مثلًا: لو قلتَ إنَّ النَّار لا تُسبب الحرارة، أو إنَّ الزَّرع ينبت بلا بذرة ولا ماء، فهذا إلغاء لمبدأ السَّببيَّة.
إذن الفارق واضح: الله (تعالى) هو واجب الوجود الغني عن الخلق، ونحن وكلُّ ما حولنا ممكن الوجود، ومحتاج إلى خالق حكيم ليُوجدنا ويُسير هذا الكون. وبهذه الفكرة يصبح فهم وجود الله (تعالى) أمراً بديهيًا للعقل، ولا يحتاج إلى حيرة أو شك.
الشاب: هل يمكن أن توضِّح لي بمثال أبسط؟
الإمام الشيرازي: تخيَّل معي هذه الصُّورة:
كلُّ شيءٍ حولنا يعتمد على شيءٍ آخر ليظهر في الوجود؛ فالسكر يجعل الطَّعام حلوًا، لكن حلاوة السُّكر نفسها موجودة من ذات السُّكر، لا تحتاج إلى شيءٍ آخر. والضَّوء يجعل الأشياء مرئيَّة، لكن نور الشَّمس قائم بذاته، لا يحتاج إلى سبب خارجي ليضيء. والدهن يجعل الطَّعام دهنيًّا، لكن دهون الدهن موجودة بذاتها. كذلك عقل الإنسان، وكل فكرة أو شعور أو قرار صادر منه يعتمد على العقل، لكن العقل ذاته موجود بذاته ولا يحتاج إلى مصدر آخر ليعمل.
هذه الأمثلة البسيطة تضعنا أمام حقيقة فلسفيَّة واضحة: كلُّ شيءٍ في هذا الكون يعتمد على شيءٍ آخر، لكن هناك موجود واحد ذاتي الوجود، لا يعتمد على غيره، وهو الله (سبحانه وتعالى).
فكِّر معي، لو لم يكن هناك شيء قائم بذاته، أي موجود لا يحتاج إلى سبب، لكان كلُّ شيء محتاجًا إلى شيءٍ آخر بلا نهاية، فما الذي يبدأ هذه السلسلة؟
العقل يقول لنا: لا بدَّ من واجب الوجود، وهو الخالق الذي يعتمد عليه كلُّ شيءٍ، بينما وجوده قائم بذاته، مستقلًا، لا يحتاج إلى شيءٍ خارج ذاته.
الشاب: بعض الفلاسفة الغربيين، مثل سارتر، يقولون: إنَّ فكرة وجود كائن يستمد وجوده من نفسه متناقضة، ويعتبرون أنَّ الحياة كلُّها صدفة بلا مبرر. ماذا تقول؟
الإمام الشيرازي: لنأخذ الأمر خطوة بخطوة، بهدوء ومنطق. أوَّلًا، إنكار وجود الله (تعالى) هو خلاف للفطرة والعقل السَّليم. فكِّر معي: كلُّ أثر حولنا، من أبسط الأشياء مثل القلم والسَّاعة، إلى أعقدها مثل الإنسان والنُّجوم، يدلُّ على وجود مؤثِّر. وكلُّ شيءٍ له سبب وخالق، وكلُّ شيءٍ منظَّم بدقَّة. فكيف يمكن أن يُقال: إنَّ الكون كلُّه بلا مؤثِّر، وكأنَّه جاء من فراغ أو تلقائيًّا؟ هذا يخرق المنطق البديهي الذي يعرفه أي عقل سليم.
ثانيًا، فكرة أنَّ الحياة والكون مجرَّد صدفة هي أكثر غرابة وتعقيدًا. ما معنى "صدفة"؟ إذا كانوا يقصدون أنَّ الأشياء تحدث بلا سبب، وبلا ترتيب، وبلا خالق، فهذا يؤدِّي إلى تناقض واضح: حتَّى فكرة الوجودية نفسها، ونظامها الفكري، ومؤلفوها، وقارئوها، وحتَّى كل فكرة يطرحونها، وفق هذا المنطق، ظهرت بلا سبب! أليست هذه مفارقة منطقيَّة؟
كلُّ شيءٍ بلا سبب، بما فيه الفكر نفسه، يصبح غير قابل للتفسير، وهذا ينتهي إلى انهيار المنطق كله.
الشاب: لكنهم يقولون: إذا لم يكن الله موجودًا، فإنَّ كلَّ شيءٍ يصبح مباحًا.
الإمام الشيرازي: قد يكون بعض الملحدين صادقين دون أن يشعروا حين يقولون: "إذا لم يكن هناك إله، فلن يكون هناك مرجع للقيم". نعم، إذا اختفى المبدأ الأعلى الذي يضبط الخير والشَّر، وإذا انعدم المرجع الذي يوجّه السلوك ويعطي الحياة معناها، فما الذي يبقى؟
حينها يصبح الإنسان بلا بوصلة، وبلا معايير ثابتة، وكلُّ شيء يصبح نسبيًا، حتَّى الأخلاق والمبادئ تتحوَّل إلى نزوات شخصيَّة ومصالح آنية.
هذا هو فراغ الإلحاد الحقيقي وخطورته: إنَّه لا يترك للإنسان سوى العشوائيَّة والارتجال في كلِّ شيءٍ، بعيدًا عن أي قيم ثابتة؛ فالإنسان بلا إله يصبح أسيرًا لأهوائه، متقلبًا بين شهواته ومخاوفه، بلا هدف أسمى يرفعه عن الحياة الماديَّة الفارغة.
لهذا السبب، الإيمان بالله (تعالى) هو ضمان للاستقرار الأخلاقي والفكري والسلوكي. وهو الذي يعطي حياتنا معنى، ويوجه تصرفاتنا، ويرسِّخ فينا القدرة على التَّمييز بين الصَّحيح والخطأ، بعيدًا عن الفوضى والضياع النَّفسي.
الشاب: ماذا عن أوغسطين الذي قال: "إنَّ الماهيات كلُّها موجودة في ذات الله"؟
الإمام الشيرازي: الماهية، ببساطة، هي حقيقة الشَّيء، أي ما يجعله ذلك الشَّيء بالذَّات وليس شيئًا آخر. على سبيل المثال، ماهية الإنسان هي كلُّ ما يحدد أنَّه إنسان، لا حجر ولا حيوان؛ وماهية القلم هي خصائصه التي تجعل منه قلمًا، لا عصا أو ساعة. وهذه الماهيات قبل أن تظهر في العالم الخارجي هي مجرَّد أفكار ذهنيَّة في العقل، وليست موجودة بذاتها في الواقع.
لذلك، حين يُقال: إنَّ هذه الماهيات موجودة في ذات الله (تعالى)، فهذا كلام يستحيل تصديقه؛ فالله (سبحانه وتعالى) ليس مركبًا، ولا يقبل أي نوع من التَّركيب أو الثنائية. وهو وجود خالص وبسيط، غني عن كلِّ شيءٍ آخر. ولا يمكن أن تُحشر فيه الماهيات، ولا يُضاف إليه شيء؛ فهو الواجب الوجود الذي كل ما عداه محتاج إليه، بينما هو مستقل بذاته، وبلا بداية، وبلا تركيبة، وبلا نقص.
باختصار: الله (سبحانه) ليس شيئًا مركبًا كما الكائنات التي نعرفها؛ وإنَّما هو الوجود ذاته، البسيط، وأصل كلِّ الموجودات، وفهم هذا الفرق يساعد الشَّباب على إدراك عظمة الخالق وفهم فلسفة التَّوحيد بوضوح.
الشاب: بعض الفلاسفة يقولون: إثبات وجود الله (تعالى) أو نفيه كلاهما تجديف، وأنَّ الأفضل هو السُّكوت؟
الإمام الشيرازي: وهذا أغرب من كلِّ ما سبق! فهل يمكن لأي إنسان أن يبني حياته، وأن يخطط لمستقبله، وأن يحدد سلوكه وأهدافه، من دون أن يجيب عن السُّؤال الأهم: هل الله موجود أم لا؟
وجود الله (سبحانه) أو نفيه هو الذي يحدد مسار الإنسان بالكامل، ويؤثِّر على مصيره في الدُّنيا والآخرة.
فكيف يُعقل أن يُقال: "لا نثبت ولا ننفي"؟
إنَّ من يقف عند هذا الموقف، ويدعي الحياد، هو في الحقيقة ضائع، تائه بعيد عن نداء فطرته السَّليمة، التي تعرف الحقَّ من الباطل وتبحث عن خالق يملأ حياته بالمعنى والطَّمأنينة. فالفطرة والعقل معًا يحذران بأنَّ التَّسويف في هذه المسألة الكبرى هو فراغ روحي وأخلاقي يجعل الإنسان أسيرًا للتردد، وعرضة للضياع في متاهات الحياة، بلا بوصلة ثابتة تهديه للخير والصَّواب.
الشاب: إذًا يا سيدي، ما هي الخلاصة التي ينبغي أن أصل إليها؟
الإمام الشيرازي: الخلاصة يا بني، أنَّ العقل السَّليم والفطرة النقيَّة يشهدان بلا جدال بوجود الله (تعالى)، خالق هذا الكون العظيم وكل ما فيه. وإنكار وجوده ليس إلَّا مكابرة أو غفلة عن الحقيقة البديهيَّة التي يعرفها كلُّ إنسان بالفطرة، والقول بأنَّ كلَّ شيءٍ جاء بالصُّدفة ليس إلَّا لعبًا بالألفاظ، ومحاولة لتزييف العقل والمنطق. وأمَّا التردد بين الإثبات والنفي، فهو يؤدي إلى ضياع الفطرة وترك الإنسان بلا بوصلة تهديه إلى الحقِّ.
لذلك، الإيمان بالله (تعالى) هو الأساس الذي تُبنى عليه حياتك وقيمك وسعادتك الحقيقيَّة. فمن يدرك وجود الله (سبحانه)، ويثبت على هذا اليقين، يجد قلبه مطمئنًا، وعقله منيرًا، وسلوكه متزنًا، وتصبح حياته مليئة بالهدف والمعنى، بعيدًا عن الفوضى والضياع الذي يترتب على إنكار الخالق أو الصُّدفة العمياء.
الإيمان بالله (سبحانه) هو منارة تنير دروب الشَّباب والفتيات في هذا العصر المضطرب، ويمنحهم قوَّة لا تهتز أمام الشُّبهات، وطمأنينة لا يملكها إلَّا من ثبت على يقين فطرته وعقله.
الشاب: أشكرك يا سيِّدي، لقد أزلت عني كثيرًا من الغشاوات، وأدركت أنَّ وجود الله (تعالى) أوضح من أن يُنكر، وإنَّما يحتاج الأمر إلى تنبيه الفطرة وإعمال العقل.
الإمام الشيرازي: بارك الله فيك يا بنيَّ، وتذكَّر دائمًا أنَّ الله (جلَّ جلاله) أقرب إليك من حبل الوريد، يسمعك، ويعرف أفكارك، ويشعر بما في قلبك. هو حاضر في كلِّ لحظة من حياتك، يرعاك بعنايته، ويوجهك بحكمته، ويُذكّرك دومًا بأنَّ السَّعادة الحقيقيَّة لا تأتي إلَّا بالاقتراب منه والإيمان به. وهو الذي يهب حياتك المعنى الحقيقي، ويمنحك القوَّة لتواجه الشكوك والعثرات، ويملأ قلبك بالطَّمأنينة والأمل.
انتهى حواري مع الإمام الشيرازي (قدَّس الله تعالى نفسه الزَّكيَّة)، لكن أثر كلماته لم ينتهِ في داخلي. فقد أدركت أنَّ وجود الله (سبحانه) أوضح من أن يُنكر، وأنَّ الإلحاد ليس سوى غشاوة على الفطرة أو عناد أمام العقل. تعلَّمت أنَّ الإيمان هو حياة، ونور، وطمأنينة تسكن القلب. وقد أيقنت أنَّ الإمام الشيرازي وإن غاب جسده، فإنَّ علمه حاضر، يجيب عن أسئلتنا، ويبدِّد شكوكنا، ويعيدنا إلى يقين الفطرة.
خرجت من هذا الحوار أكثر ثباتًا وإيمانًا، أحمل يقينًا أنَّ الله (سبحانه) هو الواجب الوجود الذي منه تبدأ الأشياء وإليه تعود، ومن أراد أن يملأ قلبه سلامًا وعقله يقينًا، فما عليه إلَّا أن ينصت لصوت الفطرة، ويستضيء بعقل واضح، ويهتدي بكلمات العلماء الربانيين الذين يستندون في فكرهم إلى القرآن الكريم وروايات المعصومين (صلوات الله عليهم).