المعرفة النافعة والمعارف الظنية
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2017-04-15 06:31
لكي يكون البحث أكثر عمقاً ودقة وثراء، يجب علينا أن نسأل عن المعنى المقصود بالنسبية، وأن نقوم بدراسة المعاني كلها وتحليلها ونقدها.
فإن المعاني المحتملة أو المقصودة، أو النظريات النسبية متعددة، نذكر أهمها، كما سنشير الى عدد من الاعتراضات والنقوض والنقد الوارد على بعضها فقط في هذا الفصل، وقد ذكرنا سابقا عدة معاني محتملة وهي:
1- عدم الإحاطة بكل الحقائق
2- الإصابة في بعض الجوانب
3- الصحة في زمان دون آخر
4- صوابية الآراء المتعاكسة
5- لا يوجد معيار موضوعي، لتمييز الحق من الباطل
6- اللغة، نسبية لا تعكس الحقائق
وفيما يلي نذكر المعنى السابع والثامن والتاسع والعاشر.
7- (المعرفة) هي النافعة فقط
المعنى السابع من معاني النسبية: أن يراد حسب تفسير البعض لـ: (النسبية المعرفية)(1) بأن (معارفنا هي كناية عن بناءات نافعة، أكثر منها حقيقية).(2)
فـ(المعرفة النافعة) هي (المعرفة)، أما غيرها، فلا. وهنا يبدأ نطاق بحث آخر: هو ما هي حدود النفع؟ وما هو مقياسه؟ والظاهر أن المنفعة العقلية الناتجة عن الحصول على العلم في قبال الجهل، بما هو علم، لا تعد عندهم أمراً نافعاً، بل يحصرون المنفعة في الحدود المادية الضيقة.
وقد تضمنت بحوث هذا الكتاب ـ السابقة واللاحقة ـ العديد من الأجوبة على هذا الرأي والآراء الثلاثة اللاحقة، فلا حاجة للتكرار والإعادة.
8- لا وجود لمقولات عالمية
المعنى الثامن من معاني النسبية: فسرها آخرون بـ(لا وجود لمقولات عقلية عالمية) فلا قاسم مشترك بين مختلف الثقافات، في مقولات اللغة والفكر.(3)
وعلى هذا فكل (معرفة) فهي خاصة بأمة أو حضارة دون أخرى، وقد أجبنا عن هذا التفسير للنسبية في مطاوي الكتاب فليلاحظ.
9- لا وجود لحقيقة مطلقة
المعنى التاسع من معاني النسبية: وفسرها بعضهم بـ(لا وجود لحقيقة مطلقة) فإن (معارفنا وقيمنا هي نتيجة وجهة نظرنا الخاصة فقط).(4)
فالمعرفة وكذلك القيم الأخلاقية ـ على هذا ـ مسبب، وليست سبباً، وهي لاحقة(5) وليست سابقة.
والحاصل أنه يرى: إنه ليس لأننا علمنا أن الحق كذا، تكونت وجهة نظرنا تجاهه، بل لأن وجهة نظرنا كانت تجاه هذا الأمر أنه حق، لذا عرفنا وعلمنا أنه حق!
وقد اجبنا عن هذا المعنى بوجوه عديدة فيما سبق ، كما ستأتي اجوبة اخرى، فلا حاجة للاطالة.
10- الإدراك إضافي
المعنى العاشر من معاني النسبية: وقال البعض: (إن معرفتنا لا تتناول إلا ظواهر الوجود(6)، ولا تحيط إلا بالنسب بين الأشياء... وأن العقل لا يدرك الجوهر إلا منسوباً للعرض وبالعكس فكل إدراك هو إذن مشروط ونسبي)(7)، وهذا في شقه الأول، فرع من القول الأول.
ثم إن قوله (ولا تحيط..) قد يعتبره البعض عطفاً تفسيرياً، وقد يعتبره عطفاً للخاص على العام.
11- كل المعارف ظنية
المعنى الحادي عشر من معاني النسبية: ان (نسبية المعرفة) يقصد بها أنها لا تورث القطع أو العلم، بل كلها ظنية.
بمعنى انه لا توجد حتى معلومة واحدة قطعية، سواء في عالم المادة أم في عالم المجردات، عالم الغيب أم الشهود، عالم الظاهر أم عالم الباطن، سواء منها ما أدركته الحواس أم القوة المتعقلة أم القوة المتخيلة، أم القوة المتوهمة، وسواء منها ما حصل بالتجربة، أم التعلم والدراسة، أم الحدس والإلهام أم الكشف والشهود.(8)
والحاصل: إن كل علم فهو مظنون به في أحسن الفروض، إن لم يكن مشكوكاً فيه، وأن كافة أسباب حصول العلوم والمعارف للإنسان، لا تفيد إلا ظناً.
وقد استنتج بعضهم من ذلك: إنه ليس لأي شخص، من أي دين ومذهب كان، أن يحتكر الحقيقة لنفسه، وأن يقول: غيري على باطل قطعاً، حتى في البديهيات لا يحق له ذلك، بل قصارى ما له أن يقوله هو: إنني على حق، كما أظن، وغيري مخطئ، لكنني أحتمل أنه على صواب.
كما استنتج البعض أيضاً هي: لكل شخص عقلاً الحق في الانتقال من دائرة معرفية إلى دائرة أخرى، فله أن يترك (ظنونه النوعية) وينتقل إلى (المحتملات المعرفية في الدوائر الأخرى) بدعوى أن (الظن) ليس كـ(العلم)، فلا يصلح حاجزاً ولا مانعاً ـ عقلياً وعقلائياً ـ من (الانتقال) فيبقى كل شخص حراً في إهمال معارفه الظنية والتحول إلى المحتملات الوهمية، لمجرد التشهي أو رغبة في التنويع أو لغير ذلك.
وعلى ضوء ذلك قد يستنتج البعض: أن وجود الله أو عدله ظني! بل أصل أننا موجودون، ظني؛ إذ لعلنا (نتوهم) وجودنا! بل إن أصل تقسيم (المعلومات) إلى حق وباطل، ظني أيضاً! إذن فيحق لي أن أنكر ذلك كله!!! وهذه ـ كما ترى ـ درجات مختلفة من السفسطة، ولعله قال بكل منها بعض السوفسطائية.