شبكة النبأ تكشف مع ثناء مهدي صالح: كيف يُصنع التاريخ وكيف يٌصنعنا؟

أوس ستار الغانمي

2025-07-12 05:19

السادة القراء، ضيفتنا اليوم هي الباحثة ثناء مهدي صالح، باحثة في قسم التاريخ بكلية التربية للعلوم الإنسانية – جامعة بابل، والتي أنجزت رسالةً علميةً بعنوان "تطور التدوين التاريخي في بلاد المشرق الإسلامي من القرن الثالث إلى نهاية القرن الثامن الهجريين". تأتي هذه الدراسة في سياق بالغ الأهمية، حيث تُسلّط الضوء على كيفية تشكيل الكتابات التاريخية القديمة للهويات والصراعات التي لا تزال حيةً في وعينا المعاصر. 

في هذا الحوار، سنستكشف مع الطالبة ثناء كيف يمكن لدراسة الماضي أن تكون عدسةً لفهم الحاضر، خاصةً في ظل الصراعات الهوياتية التي تعصف بالمنطقة. سنناقش أيضًا. 

- دور النخب السياسية القديمة (كالعباسيين والمغول) في توجيه الرواية التاريخية، وما أوجه التشابه مع أدوات الهيمنة الإعلامية اليوم. 

- إشكالية الموضوعية في الكتابات التاريخية بين الماضي والحاضر. 

- كيف يمكن توظيف التاريخ كأداةٍ للمصالحة بدلًا من تأجيج الصراع. 

- التحديات التي تواجه الباحثين، مثل أزمة المصادر المفقودة أو المتحيزة، وما يقابلها في عصرنا من أزمة تضليل المعلومات الرقمية.

انضموا إلينا في هذا الحوار الثري، حيث نربط بين الماضي والحاضر عبر أسئلةٍ تلامس جذورَنا وتُضيء على تحدياتنا المعاصرة. 

مرحبًا بكِ ثناء...  

بدايةً، كيف يمكن لدراسة تطور التدوين التاريخي في المشرق الإسلامي أن تساعدنا في فهم الصراعات الهوياتية اليوم؟  

يربط بين الماضي والحاضر، ويكشف أن "التاريخ" ليس مجرد سرد وقائع بل نتاج صراعات سياسية وهوياتية لا تزال تتفاعل حتى اليوم.

وتساعدنا دراسة التدوين التاريخي على فهم الصراعات الهوياتية من خلال:

1. كشف أصول الروايات الهوياتية المعاصرة

-كثير من السرديات التي تغذي الهويات المذهبية والقومية اليوم (مثل سني/شيعي، عربي/فارسي، عثماني/عربي) تجد جذورها في التدوين التاريخي القديم.

-مثلًا: الروايات التي تمدح الأمويين أو تذم العلويين لم تكن بريئة، بل ساهمت في تشكيل هويات مذهبية ما تزال حية اليوم.

2. فهم آليات التلاعب بالهوية عبر التاريخ

التاريخ كُتب وفق آليات مثل:

-الانتقاء والإقصاء

-التأطير الديني والسياسي

-تمجيد أو تشويه الشخصيات

-نفس هذه الآليات تُستخدم اليوم في الإعلام والمناهج لتغذية الصراعات.

3. تفكيك الرواية الرسمية وإعادة تقييمها

-أغلب التدوين جاء من قِبل نخب سلطوية، ما يجعلنا نسأل:

"من يكتب التاريخ؟ ولماذا؟"

-هذا يسهم في كشف الزيف أو التحيز في السرديات الوطنية أو الطائفية، ويدعونا لمراجعتها نقديًا.

4. إدراك التعدد داخل التاريخ نفسه

-لم يكن التاريخ الإسلامي أحاديًا، بل مليئًا بالروايات المتنافسة والمتضادة.

-هذا الإدراك يشجع على قبول التعدد ويرفض خطاب "نحن فقط على حق".

5. تحفيز النقد الذاتي وبناء وعي تاريخي جديد

حين نفهم أن ما نقرأه هو رؤية واحدة بين رؤى، ينمو وعي نقدي قادر على:

-مقاومة الطائفية والتطرف

-بناء هوية أكثر شمولًا

-تجاوز الذاكرة الانتقائية التي تُغذي الصراعات

دراسة تطور التدوين التاريخي تُظهر أن الهويات ليست ثابتة، بل بُنيت عبر صراعات وخيارات سياسية. وهذا الفهم ضروري اليوم لتفكيك التوترات وبناء سردية مشتركة أكثر واقعية وشمولًا.

 هل تُعتبر الكتابات التاريخية في العصور الإسلامية المبكرة أكثر موضوعية من التاريخ المُدوّن في عصرنا (حيث التأثير الإعلامي والسياسي)؟  

لا، لم تكن أكثر موضوعية. فقد كانت خاضعة لتأثيرات سياسية ومذهبية قوية، ولكن بشكل مختلف عن تأثيرات اليوم.

أوجه التشابه بين العصور:

1. في كل عصر، كانت السلطة تسعى لفرض روايتها للتاريخ، سواء في العصور الإسلامية المبكرة أو في عصرنا الحديث. فـ"القوة تكتب التاريخ".

2. في العصور الإسلامية المبكرة، كانت السلطات السياسية مثل الخلافة الأموية والعباسية توجه وتدعم المؤرخين.

3. كثير من المؤرخين كانوا يعملون داخل أجهزة الدولة أو يرتبطون بمذاهب رسمية. من الأمثلة على ذلك: البلعمي، عطا ملك الجويني، ورشيد الدين الهمداني.

4. في عصرنا الحديث، التاريخ يتأثر أيضًا بالإعلام، بتمويل الدولة، بالمصالح الوطنية، وتُفرض أحيانًا سرديات رسمية عبر التعليم والإعلام، بل وقد يُقصى أو يُهمّش من يخرج عن هذه السرديات (وقد مررتُ بتجربة شخصية مع بعض الأساتذة أثناء الدراسة).

الاختلافات في آليات التأثير وعدم الموضوعية:

1. من حيث مصادر التأثير: في التاريخ الإسلامي كانت السلطة الدينية والسياسية والمذهبية (مثل الخلفاء والعلماء والمذاهب) هي الأداة الرئيسية للتأثير.

أما في عصرنا، فتشمل أدوات التأثير الدولة، الإعلام، الرأي العام، وأحيانًا الشركات.

2. من حيث وسائل نشر الرواية التاريخية: في العصور الإسلامية: الانتقال الشفهي، مجالس العلماء، والكتب المخطوطة.

أما في العصر الحديث: الإعلام الجماهيري، الكتب المدرسية، الأفلام، ومنصات التواصل الاجتماعي.

3. من حيث نوع الرقابة: الرقابة في العصور الإسلامية كانت غالبًا دينية أو سياسية، ومرتبطة بالولاء للخلافة أو للمذهب.

أما اليوم، فالرقابة قد تكون أيديولوجية، اقتصادية، وطنية، أو سياسية، وتُمارس بأساليب مختلفة.

4. من حيث إمكانية تعدد الروايات: في العصور الإسلامية، كانت الإمكانية محدودة، لكن مع ذلك ظهرت روايات مختلفة من بعض الفرق مثل الشيعة، الخوارج، والصوفية.

في عصرنا، هناك مساحة أكبر لتعدد الروايات بسبب التنوع الأكاديمي، وتوفر المصادر، والحرية النسبية في البحث.

لا يمكن القول إن التاريخ الإسلامي المبكر كان أكثر موضوعية من التاريخ الحديث. كلاهما يخضع لتأثيرات السلطة، ولكن في عصرنا توجد أدوات أقوى للتحقيق والنقد، مما يمنح القارئ الواعي فرصة لفهم أعمق وتفكيك الروايات الرسمية.

المعيار الأهم ليس في صدق النصوص القديمة، بل في الوعي النقدي لدى القارئ المعاصر.

 إلى أي درجة كانت النخب السياسية (كالخلافة العباسية أو السلاجقة) تتحكم في الرواية التاريخية؟ وهل نرى اليوم أشكالًا مشابهة؟ 

 درجة التحكم:

تحكم النخب السياسية، مثل العباسيين والسلاجقة، في الرواية التاريخية كان كبيرًا جدًا، ويمكن اعتباره ذا تأثير حاسم على كيفية كتابة التاريخ وتوجيهه لخدمة أهداف السلطة.

أدوات التحكم:

1-الرعاية المباشرة للمؤرخين والعلماء: الخلفاء العباسيون، خصوصًا في العصر الذهبي، رعوا مؤرخين كاليعقوبي والمسعودي. هذه الرعاية كانت تعني ضمنيًا أن المؤرخين يتجنبون الطعن في شرعية الحاكم.

السلاجقة كذلك استخدموا رجال الدين، مثل أبو حامد الغزالي، لدعم شرعيتهم السنية في مواجهة خصومهم (كالشيعة الباطنية والفاطميين).

2-الرقابة غير المباشرة وتوجيه السرد: حتى دون رقابة صارمة، الجو الثقافي والسياسي فرض على المؤرخين حدودًا لما يمكن كتابته. تم تحريف أو إخفاء أحداث تُظهر الحاكم بضعف أو ظلم، والتركيز على ما يعزز صورته.

مثال: تصوير خلفاء ضعفاء رموزًا دينية رغم فقدانهم النفوذ السياسي، خصوصًا في زمن سيطرة السلاجقة.

3-التحكم في مراكز التعليم والتدوين: المدن الكبرى مثل بغداد (في العصر العباسي) ونيسابور (في عصر السلاجقة) كانت مراكز تعليم تحت هيمنة الدولة.

مثال بارز: المدارس النظامية التي أنشأها نظام الملك، لم تكن فقط لنشر العلم بل لنشر المذهب الرسمي وتثبيت الرواية المعتمدة ضد خصوم الدولة.

4-محاربة الروايات المعارضة: تم تهميش المؤرخين المخالفين، خصوصًا الشيعة أو من يحملون توجهًا مضادًا للدولة. أحيانًا تم طمس رواياتهم بالكامل، أو حُجبت عن التداول.

النخب العباسية والسلاجقة مارست تحكمًا شبه تام في الرواية التاريخية من خلال:

-الرعاية والرقابة،

-توجيه المؤسسات التعليمية،

-تمجيد الحاكم وشرعنة سلطته،

-إقصاء الأصوات المعارضة.

لكن، رغم ذلك، بقيت روايات بديلة، خصوصًا في تراث الفرق الإسلامية المختلفة، مما يسمح اليوم بإعادة قراءة التاريخ من زوايا متعددة.

الإسقاط على الواقع المعاصر:

نعم، نرى اليوم أشكالًا مشابهة من تحكم الأنظمة السياسية في الرواية التاريخية، عبر المناهج التعليمية، الإعلام، واحتكار التفسير الرسمي للتاريخ الوطني والديني، مع تهميش الروايات غير الرسمية.

هل يمكن مقارنة تأثير المغول على التدوين التاريخي بتأثير القوى الاستعمارية الحديثة على كتابة تاريخ المنطقة؟  

نعم، يمكن مقارنة تأثير المغول بتأثير القوى الاستعمارية الحديثة على التدوين التاريخي، ولكن يجب أن تُبنى هذه المقارنة بدقة، لأن طبيعة التأثير تختلف من حيث الأدوات والسياقات، لكنها تتقاطع في الوظيفة الأيديولوجية والسياسية للتاريخ.

أوجه التشابه:

1. إعادة تشكيل الذاكرة التاريخية: أدّى الغزو المغولي، خاصة سقوط بغداد عام 656هـ، إلى إعادة رسم تصور المسلمين لتاريخهم، مع التركيز على فكرة "الانهيار"، وظهور كتابات تمجّد الماضي وتُحمّل بعض الفرق كالفلاسفة والشيعة مسؤولية الانحطاط.

في المقابل، أعادت القوى الاستعمارية الأوروبية كتابة تاريخ المنطقة لخدمة سردية "التحضّر الغربي"، وصوّرت المجتمعات الإسلامية بأنها راكدة ومتخلّفة وتحتاج إلى التحديث الأوروبي.

2. تأثير الهزيمة على عقل المؤرخ: في الحالتين، واجهت النخب صدمة حضارية، سواء أمام القوة المغولية أو أمام الحداثة الغربية، ما دفع بعض المؤرخين إلى اعتماد تفسيرات أخلاقية أو غيبية للتاريخ، كفكرة الانحطاط، والعقاب الإلهي، وفقدان العصر الذهبي.

أوجه الاختلاف:

1. الهوية والانتماء الثقافي: المغول، رغم غزوهم، أسلموا لاحقًا وحكموا كجزء من المنظومة الإسلامية (كالسلاطين الإيلخانيين)، ما جعل تأثيرهم على التدوين التاريخي داخليًا في النهاية.

أما الاستعمار الحديث، فظل غريبًا عن الهوية الدينية والثقافية، وفرض رؤية استشراقية للتاريخ ما زال أثرها مستمرًا، خاصة في الجامعات والمناهج التعليمية.

2. طبيعة التأثير: كان التأثير المغولي عسكريًا وحضاريًا مباشرًا، نتج عنه تحولات سياسية ومذهبية كبرى.

أما التأثير الاستعماري، فكان بنيويًا طويل الأمد، شمل التكوين المعرفي والمؤسسي، من خلال بناء الجامعات والمناهج، وكان أعمق تأثيرًا في طريقة الكتابة التاريخية.

التأثير المغولي كان صدمة مباشرة ومحدودة نسبيًا زمنًا، بينما التأثير الاستعماري الحديث كان بنيويًا وعميقًا وطويل الأمد. كلاهما أثّر في الكتابة التاريخية، لكن تأثير الاستعمار الحديث كان أكثر ديمومة وعمقًا على مستوى التكوين المعرفي والمؤسساتي.

ما أوجه التشابه بين أزمة المصادر التاريخية المفقودة التي واجهتكِ في البحث وأزمة "تضليل المعلومات" في العصر الرقمي؟  

بالفعل، هناك أوجه تشابه مثيرة بين "أزمة فقدان المصادر التاريخية" في دراسة التاريخ الإسلامي بالمشرق الإسلامي و"أزمة تضليل المعلومات" في العصر الرقمي. كلا الأزمتين تحدان من الوصول إلى الحقيقة، لكن عبر أدوات وسياقات مختلفة. وبعبارة أخرى، يمكن اعتبار أن الأزمتين هما وجهان لأزمة أعمق: أزمة الوصول إلى الحقيقة في ظل هيمنة السلطة على المعلومة، سواء عبر الإخفاء في العصر الإسلامي أو التضليل في العصر الرقمي.

 كيف يمكن لدراسة تطور المناهج التاريخية أن تُسهم في نقد "الرواية الواحدة" السائدة في الإعلام اليوم؟ 

تُسهم دراسة تطور المناهج التاريخية في تزويد الباحث بأدوات ومفاهيم نقدية يمكن توظيفها بفاعلية في تفكيك ونقد "الرواية الواحدة" السائدة في الإعلام المعاصر. إذ تُظهر هذه الدراسة أن التاريخ ليس مجرد سجل محايد للوقائع، بل هو بناء سردي تُؤثر فيه السلطة والمعنى، ولا وجود لكتابة موضوعية مطلقة.

بنفس الطريقة، يُمارس الإعلام اليوم بناء سردياً للأحداث، غالبًا بما يخدم مصالح جهات معينة. لذا، فإن أدوات المؤرخ الناقد يجب أن تنتقل إلى المواطن الواعي، ليكون قادرًا على تحليل الخطابات الإعلامية وكشف تحيزاتها.

مثال توضيحي:

كما كان المؤرخ العباسي يصوّر الأمويين كطغاة لتبرير شرعية العباسيين، فإن الإعلام المعاصر قد يصوّر الاحتجاجات الشعبية – خصوصًا في العراق وسوريا ولبنان – كأعمال فوضوية، في حين تكون في جوهرها تعبيرًا عن مطالب مشروعة، وذلك لخدمة رواية السلطة.

 هل نستطيع تطبيق منهج البلعمي في "إعادة كتابة التاريخ" لمواجهة التشويه الحاصل في سرديات التاريخ المعاصر؟  

سؤال ذكي جداً، لأنه يربط بين نموذج مبكر من إعادة كتابة التاريخ كمنهج أدبي وسياسي، وبين التحديات التي نواجهها اليوم فيما يخص تشويه السرديات التاريخية المعاصرة.

والإجابة ليست بنعم أو لا ببساطة، بل تتوقف على فهمنا لمنهج البلعمي أولاً، وكيفية تفعيله اليوم بشكل نقدي وعلمي.

منهج البلعمي يُلهمنا بأن السردية التاريخية ليست حكراً على النخبة أو اللغة الرسمية، بل يمكن – بل يجب – أن يُعاد تقديمها بلغة مفهومة، سردية، ونقدية، تخدم الوعي العام. ولكن، بخلاف البلعمي، نحن اليوم نملك أدوات علمية ومناهج تحقق تحول دون الوقوع في التزييف باسم التبسيط.

إذن، لا نكرر البلعمي حرفياً، بل نستحضره كـ"منهج سردي مقاوم"، لكن ضمن شروط أساسية، مثل:

-التحقيق العلمي الدقيق،

-العدالة السردية للروايات المهمشة،

-الانفتاح على الأشكال الجديدة للرواية التاريخية (المرئية، الصوتية، الرقمية)،

-مخاطبة الجمهور الواسع بلغته دون السقوط في التضليل.

كيف يمكن للمؤرخين اليوم تجنب التحيزات التي وقع فيها بعض مؤرخي المشرق (كالانحياز المذهبي أو العرقي)؟  

سؤالك يمس جوهر أزمة كتابة التاريخ في الماضي أو الحاضر.

المؤرخون في المشرق الإسلامي - كما في كل العالم - لم يكونوا معزولين عن أطرهم الثقافية والسياسية والمذهبية، ووقع كثير منهم في تحيزات واضحة أثرت في انتقاء الروايات وتفسير الوقائع وتوزيع البطولة أو اللوم.

باختصار، التحيز في التاريخ لا يُواجه بادعاء الحياد، بل بالوعي النقدي، وتعدد المنظورات، والشفافية في اختيار المصادر والمناهج.

المؤرخ المعاصر لا يملك رفاهية أن يكون مجرد ناقل، بل يجب أن يكون ناقدًا للخطاب، واعيًا بالسياق، مسؤولًا عن الأثر الاجتماعي لسرده.

 ما الدروس التي نستخلصها من تداخل الديني بالسياسي في الكتابات التاريخية القديمة، في ظل صعود الخطابات الدينية السياسية اليوم؟  

سؤالك يطرح إشكالية مركزية في الفكرين الديني والسياسي، وهي: ما الذي يمكن أن نتعلمه من الماضي لفهم أو مقاومة الخطابات الدينية والسياسية التي تعود للواجهة اليوم، خاصة في عالم عربي وإسلامي مضطرب؟

من خلال تتبع الكتابات التاريخية القديمة، خاصة في المشرق الإسلامي، نجد أنها لم تكن في الغالب نتاجًا معرفيًا محايدًا، بل جاءت محملة بتوازنات سياسية، وكانت تُستخدم لإضفاء الشرعية الدينية على السلطة، أو لتشويه أو تبرئة فئة دينية أو مذهبية معينة.

فحين يُسخَّر الدين لخدمة السياسة، يتحول من خطاب عقائدي إلى خطاب سردي يُستخدم لتبرير قرارات السلطة. نرى ذلك في تفسيرات سقوط بغداد مثلاً، التي عُزيت إلى "ذنوب الأمة"، أو في تبرير فشل حاكم بأنه "أهمل الشريعة". وهي تفسيرات تُضفي طابعًا غيبيًا على قرارات وسياسات دنيوية.

وهذا النمط من الخطاب لا يزال حاضرًا اليوم، حيث تُستخدم مبررات دينية لتبرير الفشل السياسي أو القمع، وتُقدَّم القيادات السياسية كمخلّصين شرعيين باسم الدين.

الدرس الأهم إذن هو أن السردية التاريخية ليست بريئة، وأن الخطاب الديني متى تم تسييسه، يتحول من وعاء للقيم إلى أداة للسلطة. ولذلك، فإن مقاومة الخطابات الدينية السياسية في الحاضر تبدأ من تفكيك الشرعيات القديمة التي صيغت لأغراض سلطوية، وذلك باستخدام منهج علمي، نقدي، وتعددي.

لماذا نجد أنماطًا متكررة من العنف والسلطة في تاريخ المشرق، وكيف يمكن كسر هذه الحلقة؟  

لنُفكك السؤال إلى مرحلتين:

أولاً: لماذا تتكرر أنماط العنف والسلطة في تاريخ المشرق؟

-غياب المؤسسات وتداول السلطة: معظم نظم الحكم في التاريخ الإسلامي كانت شخصانية أو عائلية، وليست مؤسسية. انتقال السلطة غالباً ما تم عبر العنف (انقلابات، اغتيالات، صراعات)، مما رسّخ قاعدة أن "القوة تبرر الشرعية"، وهو ما أدى إلى مزيد من القمع خشية فقدان الحكم، وبالتالي إنتاج التمرد والعنف بشكل دائم.

-التداخل بين السياسي والديني: الخليفة أو السلطان لم يكن زعيماً سياسياً فحسب، بل رُوّج له كـ"ظلّ الله في الأرض"، ما جعل المعارضة السياسية تُؤطر كمعارضة دينية، فتُشرعن ضدها أدوات العنف والتكفير، ويُحوّل الصراع إلى نزاع مقدس لا يقبل التفاوض.

-ثقافة الطاعة والخوف من الفتنة: الخطاب الديني التقليدي فضّل الطاعة على العدل، مما قوّى شرعية الحكم حتى إن كان ظالماً، وخوّف الناس من التغيير باعتباره "فتنة".

-تحكم النخب العسكرية والقبلية: من المماليك إلى البويهيين فالسلاجقة ثم العصبيات القبلية، كانت السلطة دوماً تحتاج إلى سند "قوة خشنة" لا إلى شرعية شعبية أو مؤسسية، ما رسّخ مناخ الصراع والعنف بوصفه آلية طبيعية للحكم.

-التدوين التاريخي وتبرير العنف: تم تبرير كثير من التصفيات السياسية في التاريخ الإسلامي - كمرحلة بداية الدولة العباسية - بوصفها ضرورات شرعية وتاريخية، مما كرّس العنف كجزء من سردية التغيير.

ثانياً: كيف يمكن كسر هذه الحلقة؟

-نقد السردية التاريخية: يجب تفكيك فكرة أن الحكم لا يبدأ إلا بالدم والعنف، وإعادة قراءة التاريخ لا كمصير محتوم بل كمجال لاستخلاص البدائل.

-بناء ثقافة مؤسساتية: الخلاص يكمن في تأسيس نظم حكم قائمة على الشرعية الدستورية لا على الولاء للأشخاص أو العشائر. الديمقراطية لا تُستورد، بل تُنتج محلياً من خلال مأسسة المشاركة السياسية.

-فصل الدين عن شرعنة القمع: لا بد من إعادة الدين إلى مجاله القيمي والأخلاقي، ونزعه من كونه أداة شرعية للقوة.

تكرار أنماط العنف والسلطة في تاريخ المشرق ليس قدراً جغرافياً ولا حتمية ثقافية، بل نتيجة لغياب البدائل المؤسسية. وكسر هذه الحلقة يبدأ من نقد الرواية التاريخية، وتفكيك شرعية القوة، وبناء ثقافة سياسية جديدة تتعلم من الماضي من دون أن تكرره.

 هل يُمكن للتاريخ أن يكون أداةً للمصالحة بدلًا من كونه أداةً لتأجيج الصراع (كما حدث في استغلال التاريخ طائفياً)؟  

نعم، بالتأكيد يمكن أن يكون أداة للمصالحة، وليس مجرد سجل لصراعات الماضي أو منصة لتأجيج الخصومات الطائفية والسياسية. لكن هذا لا يحدث تلقائيًا، لأن التاريخ بحد ذاته ليس محايدًا، بل هو مادة خام، وأثره يتحدد بمن يرويه، ولماذا، وكيف؟

وللأسف، يُستخدم اليوم كأداة لتأجيج الصراع من خلال:

انتقائية الرواية التاريخية، وسرد تاريخ طائفة أو جماعة بوصفها (الضحية الأبدية) أو (الفرقة الناجية)، مقابل شيطنة الآخر، بالإضافة إلى التركيز على لحظات الانقسام (ككربلاء، وفتنة عثمان... إلخ)، دون الالتفات إلى السياقات أو المشتركات، مع تغييب الأصوات المهمشة (النساء، الأقليات، الفقراء، المعارضين للحكم...).

وهذا يعمق الشعور بالظلم المتراكم، ويحوّل التاريخ من مجال لفهم الذات والغير إلى ذخيرة أيديولوجية تغذي الكراهية.

ليس المطلوب نسيان الماضي حتى يصبح التاريخ أداة مصالحة، بل المطلوب هو إعادة قراءته بنزاهة وعدالة، وهو ما يُعرف بالعدالة التاريخية. فلكل جماعة ذاكرة مختلفة، ويجب الاعتراف بأنه لا أحد يحتكر الحقائق.

ولعل ذلك حدث فعلاً عند المؤرخ الطبرسي في كتابه إعلام الورى بإعلام الهدى، لكن محاولته وُلدت ميتة، حيث كتب التاريخ بروايات متعددة للحدث نفسه (سنية، شيعية، يهودية... إلخ). وهذا لا يُشتت الحقيقة، بل يُثري الفهم، ويخلق مساحة للاعتراف المتبادل.

نماذج معاصرة لأدوات المصالحة:

1. جنوب إفريقيا: استخدمت لجنة الحقيقة والمصالحة شهادات الضحايا والمعتدين كوسيلة لإنهاء إرث الفصل العنصري.

2. كندا: اعترفت رسميًا بتاريخ اضطهاد الشعوب الأصلية في المدارس الداخلية.

أما لبنان وسوريا والعراق، فلا تزال هذه الدول تفتقد مشروع مصالحة تاريخي حقيقي بسبب سيطرة السرديات الطائفية.

-التاريخ يمكن أن يكون جسرًا أو خندقًا!

-هو خندق حين نُوظفه كذخيرة للصراع، وجسر حين نعيد تأويله كمساحة اعتراف وتعلُّم ونقد متبادل.

-فالسردية التصالحية لا تُنكر الألم، لكنها ترفض أن تُورِّثه ككراهية.

كيف يمكن للترجمة (كما في مشكلتكِ مع المصادر الفارسية) أن تشكّل سلاحًا ذا حدين في كتابة التاريخ؟ 

الترجمة سلاح ذو حدين، وهذا يكون على مرحلتين:

أولاً: كيف تكون الترجمة أداة معرفية بناءة في كتابة التاريخ؟

1. إتاحة الوصول إلى الذاكرة التاريخية لغير الناطقين بالعربية، والترجمة تُمكن من إدخال المصدر إلى حوار عالمي، خاصة إذا عرفنا أن هناك الكثير من الباحثين والمثقفين حول العالم لا يملكون أدوات اللغة الأصلية.

2. حفظ التراث من الضياع والتلف عن طريق الترجمة، حيث إن هناك العديد من المخطوطات لم تُحقق بعد أو توجد في لغات مهددة، فالترجمة تنقذ مضامينها من النسيان وتعيدها إلى الحياة الأكاديمية.

ثانياً: وهو الحد الآخر للسلاح (كيف يمكن أن تتحول الترجمة إلى أداة تشويه أو تحريف؟)

1. التحيز في الاختيار: ماذا يُترجم وماذا يُهمّش؟ فغالباً ما تُترجم ما يؤكد تصورات مسبقة عن الإسلام (كصراعات الفرق أو النصوص الحربية)، بينما تُهمش نصوص فلسفية وروحية أو إصلاحية لأنها لا تخدم السردية المرغوبة. مثال ذلك: ترجمة مكثفة لابن تيمية في الغرب السياسي مقابل تغييب أبي حيان التوحيدي أو الكندي.

2. تسييس الترجمة أو حذف السياقات: فأحياناً تُترجم النصوص بمنهج انتقائي أو يُبتر السياق السياسي/الفكري لتلميع شخصية أو شيطنة أخرى، مثل ترجمة خطب الحروب الصليبية دون ذكر السياق العدواني الأوروبي آنذاك.

3. هيمنة لغة القوة على المعنى: فتفقد الترجمة دورها كجسر وتتحول إلى فلتر أيديولوجي يعيد تشكيل النص.

الترجمة التاريخية ليست عملية محايدة، بل هي فعل ثقافي وسياسي بامتياز. وهي تعيد إنتاج النصوص لا كما كانت، بل كما يُراد لها أن تُقرأ، لذلك الترجمة قد تحرر التاريخ أو تشوهه وفقاً لمنهجها وأدواتها ومقاصدها.

هل غياب الدراسات الشاملة عن تاريخ المشرق (كما ذكرتِ في رسالتك) يعكس إهمالًا مقصودًا لتراث المنطقة؟  

النقص في الدراسات الشاملة عن تاريخ المشرق الإسلامي لا يُفهم فقط بوصفه إهمالاً، بل كنتاج لتراكمات سياسية واستثمارية، معرفية، ومؤسساتية. واستعادة هذا التاريخ تحتاج إلى مشروع نقدي واعٍ يُعيد رسم طريقة الذاكرة من منظور شامل، لا من زاوية مجزأة أو مهيمن عليها.

لذلك، لا بد لنا كباحثين أن نقوم بالتالي:

١) إطلاق مشاريع بحثية عابرة للحدود تعالج تاريخ المشرق كمجال حضاري مشترك.

٢) تحفيز إعادة كتابة التاريخ بمنهجيات جديدة.

٣) نقد السرديات الرسمية التي اختزلت التراث لصالح السلطة أو الطائفة.

٤) دعم الترجمة وتحقيق المصادر المتنوعة وربطها بتحليل سياقي معاصر.

كيف يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في تحليل النصوص التاريخية القديمة بشكل غير منحاز؟  

يتقاطع هذا السؤال مع مجالات دقيقة بين التكنولوجيا والتاريخ، والإجابة عليه تتطلب التمييز بين ثلاثة عناصر:

-الآلة: أداة محايدة.

-البيانات والخوارزميات: تحمل احتمالات التحيز.

لذلك، يمكننا توظيف الذكاء الاصطناعي بشكل متوازن كما يلي:

أولاً: القدرات التحليلية التي يوفرها الذكاء الاصطناعي

1. تحليل المفردات المتكررة، أسماء الأعلام، الأحداث، واستخراج الأنماط والمعاني المخفية داخل النصوص.

2. إعادة بناء الخرائط الذهنية التاريخية: باستخدام تحليل الشبكات (Network Analysis) يمكن كشف العلاقات بين الشخصيات والمدن والعلماء، وفهم مراكز الثقل الفكري والسياسي.

ثانياً: ضمان عدم الانحياز في التحليل

لمنع الانحياز في توظيف الذكاء الاصطناعي، لا بد من تطبيق الخطوات التالية:

1. تنويع مصادر التدريب: إدخال نصوص من مختلف المدارس الفكرية والجغرافية (سنية، شيعية، صوفية، علمانية، مسيحية شرقية... إلخ).

2. الإشراف البشري المتخصص: يجب أن يعمل المؤرخ أو اللغوي جنبًا إلى جنب مع مهندس الذكاء الاصطناعي.

تُفسّر النتائج نقديًا، ولا تُقبل تلقائيًا.

3. استخدام أدوات تفسيرية لا تقريرية: بدلاً من الجزم بأن "النص شيعي أو سني"، يُقال: "يميل النص إلى استخدام مصطلحات مألوفة في السياق الشيعي أو السني".

4. تحليل بشري مرفق بالخوارزميات: كل نتيجة تُنتجها الخوارزمية يجب أن تُشرح ضمن حدودها وتفسَّر بشريًا.

ثالثاً: مثال تطبيقي واقعي

مشروع: تحليل مخطوطات القرن الرابع الهجري باستخدام الذكاء الاصطناعي

-النصوص: مثل الأنساب للبلاذري، فرق الشيعة للنوبختي، مروج الذهب للمسعودي.

-التقنيات: استخدام NLP لاستخراج تمثلات السلطة، العقيدة، والمصطلحات الجدلية.

-المنهج: مقارنة النتائج بين كتب من بيئات مذهبية مختلفة للكشف عن التحيزات.

الذكاء الاصطناعي لا يصنع الحقيقة، بل يعيد ترتيب النصوص وفق أنماط. أما الحقيقة التاريخية فتنشأ من فهم السياق، والخطاب، والنية، والتأويل. لذا فإن الذكاء الاصطناعي لا يغني عن المؤرخ، لكنه يصبح أداة قوية إذا استُخدم بوعي نقدي ومهني.

ما دور المؤرخ اليوم في زمن "الحروب السردية" حيث تُختزل الوقائع في تغريدات؟

سؤال عميق وملائم لروح العصر.

حين تصبح التغريدة أو الصورة أقوى من الوثيقة، ويتحول التاريخ إلى أداة في معركة الروايات، فإن للمؤرخ مسؤولية مضاعفة.

أولًا، ماذا نعني بـ"الحروب السردية"؟

هي صراع على من يمتلك الرواية، وليس فقط على الأرض أو السياسة، فكل طرف يسعى لتأطير الحاضر والماضي بطريقة تخدم موقعه الأخلاقي والسياسي. تنتشر هذه السرديات عبر الإعلام، الخطاب السياسي، والوسائط الرقمية (تغريدات، فيديوهات...)، وفي هذا السياق تُختزل الوقائع أو يُعاد صياغتها في قصص قصيرة مشحونة عاطفيًا، غالبًا على حساب الدقة والسياق.

فما دور المؤرخ في هذا المشهد؟

1. التحقيق لا التكرار: وظيفة المؤرخ ليست مجاراة السرديات الرائجة، بل تفكيكها. وتقديم روايات مضادة لا يعني الانحياز، بل استعادة التعقيد التاريخي الذي غالبًا ما يُطمس.

2. صيانة الذاكرة ضد التزوير: في زمن تزوير الوثائق واقتطاع الفيديوهات، يصبح المؤرخ حارسًا للذاكرة النقدية.

3. استخدام التاريخ لتفسير لا لتبرير: مثلًا، تحليل التوترات الطائفية لا بوصفها حقائق ثابتة، بل كنتاج سرديات سياسية وظّفت التاريخ لخدمة الحاضر.

4. كشف الفجوات بين ما حدث وما يُروى أنه حدث.

أما الأدوار الجديدة الممكنة للمؤرخ اليوم، فهي:

1. أن يكون مؤرخًا رقميًا: يستخدم أدوات الإعلام الجديد لتفكيك السرديات المختزلة، وينشر تحليله بلغة مبسطة دون تفريط بالعمق.

2. بناء أرشيف بديل ومفتوح: يوثق الشهادات، الوثائق، والمرويات المهمشة أو المغيبة، خاصة في زمن الحروب والنكبات حيث تمحى ذاكرة كاملة.

3. ممارسة التاريخ النقدي لا التبريري: لا يهدف لإرضاء السلطة أو الجمهور، بل لإعادة التفكير في كيفية كتابة الماضي ومن يملك صوته.

4. العمل التفاعلي مع الصحفي والفنان والمبرمج: لخلق أدوات سردية جديدة (قصص رقمية، فيديوهات تحليلية) تواجه السردية المهيمنة بمحتوى موثوق وجاذب.

في زمن الحروب السردية، لا يمكن للمؤرخ أن يختبئ خلف برجه الأكاديمي، بل عليه أن ينزل إلى ميدان الخطاب لا ليصرخ كالبقية، بل ليُضيء ما يحجبه الصراخ.

بهذه الرؤى الثريّة نختتم حوارنا مع الباحثة ثناء مهدي صالح، التي كشفت لنا كيف يمكن للتاريخ أن يكون جسرًا لفهم تعقيدات حاضرنا، وليس مجرد سجلٍّ للماضي. شكرًا لكِ ثناء على هذه الإضاءات البحثية المهمة، ولقرائنا الكرام الذين رافقونا في هذه الرحلة بين الماضي والحاضر. 

"التاريخ ليس معركةً بين حقٍّ وباطل، بل هو حوارٌ مستمرٌ بين رواياتٍ متعددة، ومن يغلق أذنيه عن هذا الحوار يُكرّر أخطاء الأمس".  

ذات صلة

كيف تنال الحظ السعيد، وتحرز نصيبك من الدنيا؟دور مؤسسات المجتمع المدني في دعم وتعزيز حقوق الإنسانعندما يبقى جسد الإمام الحسين ثلاث أيام على أرض كربلاءغزة و-الثمرة المُرّة-الجغرافيا السياسية تحسم الانتصار: من حروب الأرض إلى معركة المضائق البحرية