تحوّل في البنية التحتية يعيد رسم وظائفها: التكنولوجيا في خدمة المدينة
علي عواد
2022-11-21 06:45
يُتوقع أن يصل عدد سكان العالم بحلول عام 2040 إلى أكثر من 9 مليارات نسمة، سيعيش 70% منهم في المدن بحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ولأن المدن الكبرى تستهلك أكثر من 75% من إنتاج الطاقة في العالم، وتولّد 60% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، برز التحوّل نحو ما يسمّى «المدن الذكية» استجابةً لتحديات عالمية مثل النمو السكّاني، التلوث، ندرة الموارد، إدارة المياه، وكفاءة الطاقة. لكن ليس واضحاً مدى التغيّر الذي يضفيه هذا المفهوم المستحدث على وظائف المدينة بشكلها الكلاسيكي، وعلى نسيجها الاقتصادي والاجتماعي.
مع التطوّر التكنولوجي في مجالات الذكاء الاصطناعي والاتصالات وأجهزة إنترنت الأشياء، شاعَ مفهوم «المدن الذكية» حول العالم. وبحسب موقع «ستاتيستا»، بلغ حجم سوق «المدن الذكية» حول العالم 392 مليار دولار في عام 2019، ويُتوقع أن يبلغ 1.4 تريليون دولار بحلول عام 2030.
وبمعزل عن التعبير الذي يوحي بأن هناك مدينة غبيّة مقابل مدينة ذكية، فإن المقصود عموماً، هو التطوّر اللاحق بالمدينة عبر استعمال التكنولوجيا في أساسيات الحكم ورسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية، إذ إن تحويل البنية التحتية للمدينة، إلى بنية تستند إلى تطوّر الاتصالات وإلى الذكاء الاصطناعي، قد يعزّز آليات الحكم الموجودة أصلاً، أو قد يكون مقدّمة لتعديل في السياسات القائمة. فعلى سبيل المثال، أظهرت الصين أثناء جائحة كورونا، أن لديها بنية تحتية متطوّرة تتيح لها تعقّب الفيروس وسرعة انتشاره، فضلاً عن تتبّع سلوك الأفراد والأسر، وسائر النشاطات في مختلف المناطق والأحياء السكنية والتجارية والسياحية، بواسطة التكنولوجيا. لكنّ هذا التطوّر نفسه، لم يظهر علناً كأداة مباشرة للتحكّم بسلوك الأفراد وبالنشاط الاقتصادي في بلدان أخرى.
تحويل المدينة
إذاً، ما الذي يجعل مدينةً ما «ذكية»؟ وما الفرق بينها وبين المدن التقليدية؟ تقول بترا سماحة، المتخصّصة في تنظيم المدن، إنه لا يجب النظر إلى المدن التقليدية والمدن الذكية على أنهما شيئان يمكن مقارنتهما: «المدينة الذكية بحسب التعريف المعتمد، هو تسخير التكنولوجيا داخل مدينة معينة من أجل تأمين رفاهية السكان. وهذا يعني أن التكنولوجيا وسيلة. فعلى سبيل المثال، إذا تقرّر استخدام التكنولوجيا لتطبيق خطّة نقل عام في بيروت، ألا تصبح مدينة ذكية؟».
7165 براءة اختراع صينية.
وعندما تظهر مشاريع لإقامة «مدن ذكية»، مثل «مصدر سيتي» و«نيوم»، قد يبدو الأمر كأنه عملية بناء من الصفر كأنّ أحداً لا يسكن في هذه المناطق الجغرافية، مثل البدو أو الرعاة. والمناطق الجغرافية التي ليست فيها حياة بشرية حول الأرض، هي قليلة جداً. لذا، فإن مشاريع كهذه تثير إشكالية أساسية، إذ إنه بغية بناء «المدن الذكية»، سيتم تحسين وضع فئة من السكان على حساب فئة أخرى. وتحاول الدول والحكومات حلّ هذه الإشكالية عبر إلغاء حقوق هؤلاء، أو عبر تركيز السكان في كتلة مدمجة ذات كثافة سكانية عالية. ثم إن الذهاب إلى الصحراء من أجل بناء مدن جديدة ذكية تحلّ مشاكل العصر تحت شعار الاستدامة، هو أمر مكلّف لأن يبدأ من الصفر، أي أكثر بكثير من استخدام التكنولوجيا لمعالجة مشاكل في مدن قائمة حالياً.
إذاً، هو تحوّل تقرّره الحكومات. كأن تصبح مدينة ما تعتمد على بنية تحتية رقمية فائقة التطور مثل شبكات الاستشعار، الذكاء الاصطناعي، البيانات الضخمة، التعلم الآلي، إنترنت الأشياء (IoT)، الأنظمة المدمجة، الترددات الراديوية (RFID)، الاتصالات الميدانية القريبة (NFC)، الأنظمة الفيزيائية السيبرانية (CPS)، الواقع الافتراضي، الواقع المعزّز، الروبوتات، الوعي بالسياق (ذكاء اصطناعي لغوي)، الحوسبة المستقلّة، أنظمة دعم القرار، وتعزيز التفاعل بين الإنسان والحاسوب. لكنّ الهدف الأساسي من خلق هذه المدن، هو النمو الاقتصادي والرفاهية التي يمكن تحقيقها بواسطة التكنولوجيا. جانب آخر مثير للاهتمام في هذا المجال، هو أنه في الأساس هدف يحتاج إلى تخصصات متعدّدة. ففيما تعمل التكنولوجيا كعنصر ترابط، بين تدخلات من مختلف فروع الهندسة والعلوم الاجتماعية، والعلوم البيئية، وخدمات الطوارئ، ومخطّطي المدن، والكثير غيرهم.
تقليص الخسائر
ثمة الكثير من الأزمات والظواهر التي تعاني منها المدن التقليدية. ففي تقرير صادر عن الأمم المتحدة، يتبيّن أن «العديد من المدن تصارع تحدّيات عدم المساواة، وأن هناك صعوبات مستمرة في تشكيل مساحات مستدامة وصالحة للعيش». وبرزت مشكلة التركّز في المدن عندما اجتاح وباء كورونا العالم، إذ كانت المدن حول العالم هي المتضرّر الأكبر حيث سُجّل فيها أكثر من 90% من حالات كوفيد-19 في المناطق الحضرية، ما أدّى إلى خسائر اقتصادية كبيرة لأن هذا النشاط يتركّز في هذه المدن أيضاً.
هنا تظهر أهمية الحلول التكنولوجية، وإن كان عرضها يتم بشكل بسيط. ففي دراسة لمؤسّسة «أبحاث معهد ماكينزي العالمية»، تبيّن أن خدمات «المدن الذكية» يمكن أن تؤدي إلى تقليل الوفيات الناجمة عن «الجرائم وحوادث السير والحرائق بنسبة تُراوح بين 8% و10%. بالإضافة إلى خفض حوادث الاعتداء والسرقة والسطو بنسبة تُراوح بين 30% و40%. وبحلول عام 2025، سيكون لدى المدن التي تنشر تطبيقات التنقل الذكي، القدرة على تقليل أوقات التنقل بنسبة 15% إلى 20% في المتوسط. ويمكن أن تحدّ تطبيقات، مثل أنظمة أتمتة المباني والطاقة الذكية وبعض تطبيقات التنقل، من انبعاثات الكربون بنسبة 10% إلى 15%. أما نشر أجهزة الاستشعار حول أنابيب المياه التي تغذّي المدينة، فسيؤدي إلى تقليل خسائر تسرّب المياه بنسبة تصل إلى 25%. وبشكل عام، يمكن للمدن توفير ما بين 25 و80 ليتراً من الماء لكل شخص يومياً، وتقليل النفايات الصلبة غير المعاد تدويرها بمقدار يُراوح بين 30 و130 كيلوغراماً للفرد سنوياً. كذلك يمكن لمستشعرات جودة الهواء تحديد أسباب التلوث تلقائياً».
فعلى سبيل المثال، خفّضت العاصمة الصينية، بكين، الملوّثات المحمولة جواً، والقاتلة بنسبة 20% تقريباً في أقل من عام، من خلال تتبع مصادر التلوث عن كثب وتنظيم حركة المرور والبناء عبر المستشعرات. كما تتيح مشاركة معلومات جودة الهواء في الوقت الفعلي لحصولها، مع السكان، عبر تطبيقات الهواتف الذكية، إلى اتخاذ تدابير وقائية تنقذ الأرواح. ويمكن أن يقلّل هذا الأمر من الآثار الصحية السلبية بنسبة 3% إلى 15%، بما يعنيه ذلك من تقليص في فاتورة الطبابة والاستشفاء.
السلطة السيبرانية
رغم الاندفاعة العالمية نحو تبنّي المدن الذكية، إلا أن المخاوف الأمنية السيبرانية المرتبطة بها، مقلقة وتحدّ من النموّ الاقتصادي. يقول نائب رئيس «جامعة العلوم والآداب اللبنانيّة» والباحث في مجال الأمن السيبراني، أحمد فضل الله إن القاعدة الأساسية للمدن الذكية هي البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، أي ما يتيح نقل كمية هائلة من البيانات، وتحليلها بسرعة فائقة توازي الوقت الحقيقي لحصولها. وهذا أمر يتطلب بناء عدّة مراكز بيانات موزعة بشكل معين وتكنولوجيا اتصالات تعتمد على الألياف الضوئية وتكنولوجيا للاتصالات اللاسلكية مثل «5G» أو «6G». لذا، إن مخاطر القرصنة لم تعد متصلة بحوادث فردية، إنما بأثرها على المجتمع وعلى السلوك الجماعي. فعلى سبيل المثال، قد تؤدي القرصنة إلى توقف خدمة الطبابة الذكية، أو النقل لكل السكان... لذا، قد تتحوّل «الجنّة الرقمية» إلى «جحيم» فعلي. ففي مقابل كل خدمات الرفاهية الرقمية، بات الأفراد عبارة عن بيانات يتم تجميعها في المدن مثل البصمات وحركة الأجساد، وسائر ما تجمعه ملايين المستشعرات المزروعة والتي قد تتحكم بها حكومات أو شركات خاصة. إنها سلطة كبيرة.
مدن كفوءة في الإنتاج والخدمات
بحسب دراسة لـ«juniperresearch»، صدرت في العام الحالي، فإن أبرز خمس مدن ذكية حول العالم هي: شنغهاي، سيول، برشلونة، بكين ونيويورك. ويعتمد هذا التصنيف على تقييم العديد من الجوانب المختلفة للمدن الذكية، والأكثر كفاءة على هذا الكوكب لجهة التنقل والصحة والسلامة والإنتاجية:
شنغهاي
تتميز عن سائر المدن الذكية الأخرى بفضل «سحابة المواطن»، وهي منصة بيانات فيها أكثر من 1200 خدمة يحتاجها السكان، ويعدّ هذا النظام الأفضل للتواصل مع الحكومة
هذا النوع من الإدارة لا يزال سائداً في بعض مرافئ الدول النامية، إلا أن هناك العديد من المرافئ في طور التحول نحو هيكلية "المرفأ المالك"، مثل مرفأ "كولومبو" في سريلانكا، ومرفأ "نهافا شيفا" في الهند، ومرفأ «دار السلام» في تانزانيا. وبحسب البنك، «يعتبر نموذج المرفأ العام أقلّ فعالية، لأنه يُقصي القطاع الخاص الذي يتميّز بدينامية الحركة والتطوير».
سيول
منذ أكثر من 20 عاماً كانت عاصمة كوريا الجنوبية في طليعة التطوير وهي تنفذ اليوم مشاريع عدّة مثل استخدام الروبوتات في الأمن الداخلي وخدمات تتبع ذكية للأطفال
برشلونة
هي المدينة الأوروبية الوحيدة التي دخلت التصنيف، وسبب ذلك يعزى جزئياً إلى نظام النقل المتطوّر وإنارة الشوارع وجمع النفايات
بكين
البطاقة الافتراضية هي المسؤولة عن إدارة وثائق التعريف وبطاقات الهوية لجميع المواطنين، وبواسطتها يمكن تسديد كلفة الانتقال في وسائل النقل العام، فضلاً عن وسائل متطورة لتحديد المصانع الملوّثة وإجبارها على الإغلاق تماماً عندما لا يكون لديها إنتاج
نيويورك
صنّفت من بين أكبر خمس مدن ذكية حول العالم بفعل التقدّم المحقق في معالجة مشكلات استهلاك الطاقة والمياه وأنظمة قراءة العدادات الأوتوماتيكية وجمع القمامة.