طفوًا.. على حطام السفينة الغارقة

فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي

شبكة النبأ

2024-05-05 04:35

آرثر دو جوبينو ... والتشاؤمية العِرقية

إنَّ سقوط الحضارة، هو الظاهرة الأكثر وضوحًا، والأكثر غموضًا في الوقت نفسه، بين كل ظواهر التاريخ ... وأي تجمُّع بشري مهما كانت براعة شبكة العلاقات الاجتماعية التي تحميه، يحصل يوم مولده على بذرة الموت الحتمي مخبأة في عناصر حياته ... آرثر دو جوبينو، «فصل المقال في لا تساوي الأجناس البشرية».

بدأ «جوزيف آرثر دو جوبينو» حياتَه بازدراء شيئَين مهمَّين: الثورة والبرجوازية. وُلد يوم ١٤ يوليو عام ١٨١٦م، ذكرى يوم «الباستيل»، وفيما بعد كتب بسخرية متجهمة أنَّ «الأضداد تتجاذب». كان أكثر ما يحب في حياته الكتب (الشعر والأدب بخاصة)، ونفسه (أو بالأحرى أصله الأرستقراطي)، رسم شجرة للعائلة ادَّعى فيها أنَّ «آل جوبينو»، كانوا ينحدرون مباشرة من «الفايكنج» الذين فتحوا «نورمانديا»، وهي السلالة نفسها التي أنجبت «وليم الفاتح»،١⋆ وكانت أمه -بالمثل- تدَّعي أنها من سلالة ابن غير شرعي للملك «لويس الخامس عشر»، الأمر الذي أسهم في تقوية الهاجس الذي لازم «جوبينو» طيلةَ حياته بخصوص الدم والصبغات الموروثة والجنس ... إلى جانبِ كرهٍ شديد للحِقبة التي وُلد فيها.

كان أبوه «لويس دو جوبينو» قد حارب بإخلاص مع الجانب الملكي إبان الثورة الفرنسية، وسُجِن في عهد «نابليون»، أما فشله في الحصول على أي مكافأة أو تقدير من ملوك «البوربون» فقد جعله يشعر بالمرارة، ولأنه كان مضطرًّا للعيش على الكفاف كضابط في الجيش، يتقاضَى نصف راتبه، نقل ذلك الشعور بالمرارة ورثاء النفس إلى ابنه. كتب «لويس» في مذكراته وهو يبرِّر ذاته لابنه وهو في سنوات المراهقة:

«وضعي هو وضع إنسان مهزوم، الخزي الذي أشعر به هو أن يرى الناس سيفي وقد انتُزع مني بسبب طاعتي لأميري.»٢

في الثامنة عشرة من عمره، كان الشاب «آرثر دو جوبينو» كلُّه عزم وإصرار على أن ينجح فيما فشل فيه أبوه. قرَّر أن يقلب حظ الأسرة، وليس بالعمل ضابطًا كما كان أبوه، وإنما كشاعر وكاتب مسرحي وأديب بارز ... كان يريد أن يكون «جوته» فرنسيًّا. كتب مرة إلى أخته في سنة ١٨٣٤م وبنفس الأسلوب البليغ الذي كان يستخدمه أبوه: «سيفي الذي كسره هذا العصر، سوف يحلُّ محلَّه قلمي ... ولأنني أُدرك كيف أحتفظ باستقلالي مهما كان الثمن، فلسوف أُكذِّب ظنَّ كلِّ العالم ... وسأنجح!» وفي لحظات أكثر صراحة كان يعترف: «النجاح أو الموت.»٣ عندما غادر موطنه «نورماندي» وجاء إلى «باريس» في سنة ١٨٣٥م، لكي يبدأ حياته الأدبية كان مثل أبيه: مؤيِّدًا للملكية، وكاثوليكيًّا محافظًا، أما في الأمور الفنية والشعرية فكان حديثًا حتى النخاع.

معلِّمه (الذي كان عشيقَ أمه في الوقت نفسه) أحاطه بأعمال الشعراء الألمان المعاصرين، مثل «هولدرين» Hölderlin، و«نوفاليس» Novalis، وكان لديه اهتمامٌ عميق بما سوف يُطلق عليه فيما بعد «الطليعة»،٤ وفي الوقت نفسه لم يكن هناك شيء غير عادي بخصوص المزج بين السياسة المحافظة والأذواق الطليعية. وفي مقابل كل متطرف فني أو سياسي أو «بوهيمي» يعمل ويعيش في باريس، مثل «جورج صاند» Georges Sand، أو «تيوفيل جوتييه» Théophile Gautier. كان يمكن أن تجد بالسهولة نفسها شخصًا مثل «شاتوبريان» Chateaubriand يعمل وزيرًا للدولة تحت «البوربون»، أو مثل «ألفريد دوفيني» Alfred de Vigny يُزيِّن صالونًا أدبيًّا مفرطًا في تأييده للملكية، مثل صالون «الدوقة دي كايلا» de cayla مع الأديب الشاب «فيكتور هوجو» Victor Hugo.٥ وبالرغم من الاختلافات السياسية، إلا أن الرومانسيِّين البوهيميِّين والمحافظين، كانوا مشتركين في احتقارهم للمجتمع الفرنسي الحديث. 

في أعقاب الثورة الصناعية والثورة الفرنسية، ظهرت طبقة حاكمة جديدة من التجار وموظفي البنوك ورجال الصناعة. وعلى خلاف سابقتها في النظام القديم، لم يكن لدى هذه الطبقة الجديدة وقتٌ ولا رغبة في تذوق الفنون، وكان الشاعر الألماني «هولدرلين» يستخدم مصطلح «المتشبث بالقديم» لوصف هذه الطبقة الوسطى الجديدة ... ضيِّقة الأفق والمعادية للفكر. كما ظهر بين الرومانسيِّين الفرنسيِّين مصطلحٌ آخر، وهو «البرجوازية»، وقد كانت البرجوازية الفرنسية «همج» كما كان «هولدرلين» يقول عن الطبقة الوسطى الألمانية، ولكنها كانت حديثةً وليست بدائية، كانوا همجًا عديمي الذوق، والنتاج الجمعي «للتصنيع والعلم»، وكطبقة، لم يكونوا مؤهلين لأي عاطفة راقية بالمرة.٦

كان «تشارل بودلير» يرى مجتمعه: «أكثر المجتمعات غباء»، و«عالمًا للنفاق الرومانسي الأبله، وموطنًا للحماقة التامة» ... كما كتب يقول: «التجارة شيطانية في جوهرها.» وكان كثيرٌ من الراديكاليِّين أو الرجعيِّين يتفقون معه في ذلك.٧ كان الروائي «ستندال» Stendahl، أحد نماذج «جوبينو» الأدبية، يقول إن رؤية رجل أعمال أو محامٍ أو طبيب ناجح تجعله يشعر بالرغبة في «البكاء والغثيان في الوقت نفسه».٨ وكان «جوستاف فلوبير» Gustav Flaubert يقول بسخرية وازدراء: إنَّ عقيدة البرجوازية هي: «وُلد الإنسان لكي يعمل.» أما عقيدة الفنان - في المقابل - فقد جاءت من رواية «ثيوفایل جوتييه»: «مدموازيل دو موبان» التي نُشِرت عام ١٨٣٤م قبل عامٍ من وصول «جوبينو» إلى باريس، والعقيدة هي: «الفن للفن» L’art pour L’art.٩ أن تكون فنانًا أو كاتبًا، كان يعني أن تكون ضد البرجوازية: وبعبارة أخرى ﻟ «جوتييه» فإنَّ الدور الثقافي للكاتب هو أن «يصدم البرجوازية» épater la bourgeoisie. الفنان مثل الأرستقراطي، كان يقف بعيدًا وفوق الطموحات الصغيرة «لتجار التبغ والبقالين وبائعي رقائق البطاطس» الذين يكوِّنون نواة المجتمع التجاري الحديث. وبدلًا من ذلك، فإنَّ الفنان الرومانسي كان ينظر في اتجاهات أخرى من أجل الإلهام والقرابة الروحية.

وكما ناقشنا في الفصل الأول، فإنَّ الاغتراب الرومانسي أيقظ الافتتان بالعصور الوسطى والحنين إليها، وهي المرحلة ذاتها التي كانت حركةُ التنوير تحتقرها وتصفها بالعصور المظلمة وتهاجمها كمرحلة من مراحل الخرافة والاستبداد الديني.

أما طريق الهروب الآخر من الحداثة فكان الجغرافيا، الهروب إلى الثقافات غير الغربية في الشرق الأوسط والهند وآسيا. منذ أن رافق العلماء «نابليون» في حملته على مصر سنة ١٧٩٨م، ومنذ أن فكَّ عالمُ اللغة «جان فرانسوا شمبلیون» Jean Francois Champollion رموزَ حجر رشيد في عام ١٨٢٢م، أصبحت «باريس» واحدةً من المراكز القيادية للدراسات الشرقية التي كانت الخميرة الفكرية والفنية في المدينة.

وعلى أحد المستويات، أيقظ الاستشراق الاهتمام بحضارات قديمة في الشرق الأوسط والهند، وبالدراسات اللغوية المقارنة: الجمعية الآسيوية في «باريس» ۱۸۲۲م، والجمعية الآسيوية الملكية في «لندن» ۱۸۲۳م، والجمعية الشرقية الأمريكية ١٨٤٢م، كانت كلها مراكز رئيسية للبحوث وترجمة الآداب والنصوص غير الأدبية.

ولكن النكهة الجديدة للاستشراق راقَت أيضًا للخيال الفني الرومانسي. الأضواء المرشدة للرومانسية الفرنسية، «شاتوبریان» Chateaubriand، و«جيرار دو نيرفال» Gerard de Nerval، وغيرهما، تأثروا بترجمة العلماء الأوروبيِّين للأوبانیشاد الهندية والدراما الهندية «شاكونتالا»، والملحمة الفارسية «الشاهنامه»، إلى جانب أعمال كلاسيكية أخرى صينية وعربية. الفيلسوف «فردريك شليجل» Friedrich Schlegel، الذي جاء إلى «باريس» ليدرس السانسكرتية في سنة ۱۸۰۳م، كان يقول: «في الشرق فقط، يمكن أن نبحث عن أسمى درجات الرومانسية.»١٠⋆ كما أعطى الاستشراق الرومانسي انعطافةً جديدة للاعتقاد القديم بأن هناك توجهًا حتميًّا للحضارة نحو الشرق. وبسبب تحرُّرهم من وهمِ نتائج الحضارة الأوروبية الحديثة، كان لدى الرومانسيِّين افتتانٌ جديد واحترام جديد لأسلاف الحضارة الشرقيِّين. الممثلون الرواد للاستشراق؛ مثل الرسام «إيوجين دو لاكروا» Eugene De lacroix، و«جوبينو» Gobineau نفسه فيما بعد، صدمَتهم حقيقةٌ كبيرة، وهي أنه بالرغم من أن أوروبا كانت تبدو في الظاهر أكثرَ «تقدمًا» من حضارات الشرق «المتدهورة»، إلا أنَّ تلك الثقافات القديمة حفظت القِيَم الروحية، التي كانت تبدو مفقودةً في المجتمع الأوروبي. «دو لاكروا» غادر «باريس» إلى «مراكش» قبل عام من وصول «جوبينو»، بحثًا عن متنفسات ومثيرات فنية جديدة، كما سافر١١ بعد ذلك «جوبينو» إلى «فارس»، و«جوجان» إلى «تاهیتي». وقبل ذلك كله، فإن تلك الشعوب غير الأوروبية، مثل نظرائهم الأوروبيِّين في مرحلة ما قبل الحداثة، كانوا يشعرون بحيوية أخمدَتها أو قضَت عليها الحضارة الحديثة، وكما كان «شارل بودلير» معاصر «جوبينو» يقول: «هناك ثلاث مجموعات فقط جديرة بالاحترام: القس، المحارب، الشاعر، أن يعرف، أن يقتل، أن يخلق.»١٢ والثلاثة يختفون من الحياة الحديثة، والنتائج الأكثر تمثيلًا لها كما يزعم الرومانسيون هي «السأم» ennui، البلادة، أو «الغثيان المدوخ» الناجم عن نمط حياة مفرطة في تقدُّمها. 

«رومان الانحطاط» عند «توماس كوتير» كانوا يعانون من السأم، وكذلك شبان روايات «بلزاك» الضجرون المفتقدون للعاطفة والحماس. و«السأم» هو نقيض ما كان يُطلِق عليه الرومانسيون الألمان «الإحساس بالحياة»، وهو عدم القدرة على الإبداع والخلق الفني. وقد لخَّص «بودلير» الانقسامَ بين الحديث والبدائي على النحو التالي: «الشعوب البدوية، حتى المتوحشة آكلة لحوم البشر، ربما كانوا أرقى من أجناسنا في الغرب، استنادًا إلى ما لديهم من قوة ووقار شخصي.»١٣ أو كما عبَّر «ثيوفايل جوتييه»: «الهمجية أفضل من السأم.» وقد كانت تلك فكرة عاطفية سوف يحوِّلها «جوبينو» فيما بعد إلى نظرية جديدة عن التاريخ.

اتجه «جوبينو» إلى التاريخ بشكل موسَّع لكي يفسِّرَ لنفسه أسبابَ انتهاء مسيرته الأدبية بالفشل. عندما وصل إلى «باريس» اكتشف هناك ألوفَ الشبان الذين لديهم الطموح نفسه وكانوا يحاولون النجاح،١٤⋆ وحيث إنَّ «جوبينو» لم يكن لديه صلاتٌ أو معارفُ تساعده، فشلَت قصائده ومسرحياته في أن تجد جمهورًا، واضطر لقبول وظيفة في إحدى شركات الغاز في «باريس». وعندما شعر بالغضب والإحباط، بدأ يعبِّر عن ذلك في رسائله إلى بلده، كتب في سنة ١٨٤٠م: «إنَّ بلادنا المسكينة تسقط في انحطاط روماني، أصبحنا بلا قوة مادية أو معنوية، لم أَعُد أومن بأي شيء.» وكان يعرف المسئول عن ذلك كله: «لقد قتل المالُ كلَّ شيء ...» وكتب العبارة السابقة بحروف كبيرة. ومثل «بلزاك» الذي كان معجبًا به ككاتب: تعلَّم «جوبينو» أن يرى مدينة النور محكومةً بقوَّتَين: «الذهب والمتعة». في رسالة لأخته يُنفِّس عن إحباطه الشديد: «أصبح المال أساسَ القوة والشرف، المال يسيطر على العمل التجاري، المال ينظِّم البشر، المال يحكم، المال معيار تقدير ما يستحقه المرء من احترام.» لقد أصبحت «باريس» «مملكة لأصحاب البنوك ... كم أنا يائس من المجتمع ... المجتمع الذي لم يَعُد له قلب!»١٥

وهناك حدثان آخران ثبتاه في هذه الحالة من التشاؤم. في سنة ١٨٤٣م تمكَّن «جوبينو» عن طريق بعض الأصدقاء الألمان من أن يلتقيَ بمسئول بارز في المؤسسة الثقافية الليبرالية وهو «أليكسس دي توكفيل» Alexis de Tocqueville، والذي عيَّنه مساعد باحث في مشروع ضخم عن أصول قواعد السلوك والأخلاق في أوروبا الحديثة. كان «توكفيل» يريد أن يبيِّن أن ليبرالية القرن التاسع عشر، رغم كل صفاتها العلمانية الواعية بذاتها، كانت في أساسها محتفظةً بالتعاليم الأخلاقية المسيحية. سواسية كل البشر أمام الله «واجب أولئك الذين يملكون الكثير في مساعدة مَن يملكون القليل»، القيمة الجوهرية للفرد ... كانت تلك المسائل -كما يرى «توكفيل»- هي المبادئ الهادية في المجتمع الليبرالي.١٦

ولكن ... بينما كان «جوبينو» يقضي جلَّ وقته مستغرقًا في قراءة أعمال الفلاسفة التقدميِّين البارزين في تلك الأيام، مثل «جیرمي بنتام» Jeremy Bentham، و«جوزيف بریستلي» Joseph Priestley، و«وليم جودوین» William Godwin، والاشتراكي الفرنسي «تشارل فورييه» Charles Fourier، و«كنت» Kant، و«هيجل» Hegel، و«فيخته» Fichte، توصَّل إلى استنتاج يتعارض مباشرةً مع رأْي مخدومه (دو توكفيل). كان يعتقد أن المسيحية التقليدية «السلسلة التي تقيِّد البشر معًا عن طريق معتقداتهم.» من الواضح أنها قد تفكَّكت، وأصبحت القوى السائدة هذه الأيام هي: الجشع، المصلحة الشخصية، الزيف، الكسب المادي، وفي الوقت نفسه، ينحو «جوبينو» باللوم على المسيحية لهذا الإفلاس الأخلاقي، وبدلًا من تثمين القوة والبسالة والتضحية بالنفس كما كان يفعل القدماء، فإنَّ الأخلاق المسيحية قد «أعلنت بوضوح أنها تفضِّل الضعيف والوديع على القوي والجسور.»١٧ وقد ساعد ذلك على تسلُّل قدر من وهن الروح إلى المجرى الثقافي العام لأوروبا على حساب المبادئ والمثل الأكثر حيوية، تاركةً في أعقابها أثرًا من التوسط. أما الحدث الآخر، فكان موجةَ الثورات الشعبية التي انفجرت في أنحاء أوروبا في سنة ١٨٤٨م، في شهر فبراير قلبت جموع من الطلبة والعمال عرش «لويس فيليب» في مظاهرات عارمة في شوارع باريس، وبحلول شهر «مارس» كان الحماس الثوري قد امتد إلى ألمانيا والنمسا. 

وفي «نوفمبر» طُرِد «البابا» وحلَّت جمهورية رومانية جديدة محلَّ حكومته، وبالرغم من ذلك كله، سرعان ما انهارت آمال الثوار في «نظام عالمي جديد» وفي تقرير المصير الوطني وفي الحرية. اختلفت الدول والجمهوريات الجديدة التي قامت على أطلال الإمبراطوريات السابقة -الألمان، والتشيك، والبولنديون، والهنغاريون، والصرب، والكروات- فيما بينها على الحدود والمساحات. واكتشف ليبراليو الطبقة الوسطى أنَّ قوى السخط الاجتماعي التي مكَّنتها الثورات من الاندلاع في الشوارع، لا يمكن كبْحها إلا بالقوة. وانهارت الجمهوريات الجديدة واحدةً تلو الأخرى، وعادَت القوى القديمة إلى عروشها لكي تحميَ القانون والنظام. وفي «فرنسا» نفسها استسلمت الجمهورية الثانية لدكتاتورية تحت «لویس نابليون» (نابليون الثالث فيما بعد) -وهو ابن شقيق نابليون الأكبر- وسط سلسلة من الانتفاضات العمالية والفلاحية بطول البلاد وعرضها كان يتم قمعها بسفك الدماء.١٨ ومثل ثورات ١٩٦٨م، كانت ثورات ١٨٤٨م هناك لتحدِّد سياسات جيل بأكمله، وكما عبَّر عن ذلك أحد المؤيدين بقوله: «لم يحدث أبدًا أن هزَّت العالم المتحضِّر دوافعُ أكثر نبلًا من تلك ... إلا أنَّ ذلك كله انتهى بالفشل.» الليبراليون المعتدلون؛ مثل «توكفيل»، الذين ورثوا مبادئ التنوير في الحضارة والتقدم، اهتزوا بشدة من جراء تلك الفورات وذلك العنف، وفي المقابل كان الراديكاليون؛ مثل «کارل مارکس»، و«فردريك إنجلز» يرَون أنَّ العنف لم يأخذ مداه بما يكفي. الحرية والتقدم الحقيقي الآن يتطلبان التدمير الشامل والنهائي للرأسمالية وكذلك للواقع السياسي. كتبَا في البيان الشيوعي: «فلترتجف الطبقات الحاكمة أمام الشيوعية ...» «العمال أمامهم عالمٌ كامل ليفوزوا به.» كذلك حطَّمت ثورات ١٨٤٨م الطموحات الليبرالية. عدد كبير من الكتَّاب والمفكرين سارع لكي يتجمَّع حول نداء الحرية والمساواة، من بينهم شعراء؛ مثل «لامارتين» Lamartine، الذي ساعد في تأسيس الجمهورية الفرنسية الثانية، و«شارل بودلير» Charles Baudelaire، ومؤرخون مثل Jules Michelete «جولز میشلیت»، الذي كان قد نشر لتوِّه أنشودةَ مديح لروح الأخوَّة والوحدة الفرنسية بعنوان «الشعب»، وموسيقيون مثل «ريتشارد فاجنر» Richard Wagner، المدير الشاب لأوبرا «درسدن» ... وغيرهم. كان «میشليت» يقول: ما كان يجب أن أكتب قصيدة «الشعب» الآن. «فاجز» الذي أيَّد انطلاقةَ ثورة اشتراكية في «درسدن» أُجبر على الفرار إلى الخارج بعد فشلها، وظل في منفاه قرابة اثنتَي عشرة سنة وطلَّق السياسة بعد ذلك.١٩ الثورات والانتفاضات دقَّت الإسفين النهائي بين «جوبينو» والمجتمع، موقفه من كل من الثُّوار وخصومهم «كان كارثةً للبيتين»، «جوبينو»، مثل مراقبين كثيرين غيره صرف النظرَ عن جموع الثُّوار واعتبرهم «همج»!

«ولكن بينما كان «توكفيل» وآخرون ينظرون إلى أعمال العنف الهمجية والوحشية التي وقعت في عام ١٨٤٨م على أنها رِدَّة إلى حالة قبل حضارية، كان جوبينو «يرى» في ذلك شيئًا «جديدًا».» في سنة ١٨٤٢م كان قد بدأ كتابةَ مسرحية بعنوان: «مانفريدين» Manfredine، ولكنه الآن يتراجع على أثر أحداث ١٨٤٨م، أحداث المسرحية تدور عام ١٨٤٢م، وبطلتُها الصقلية الكونتيسة «مانفريدين» تقود تمردًا شعبيًّا ضد الحاكم الإسباني. ليس بهدف تحرير الجماهير الذين لا تشعر نحوهم إلا بالاحتقار، وإنما بغرض الثأر لشقيقها «روجر» الذي قتله الإسبان ظلمًا. وفي النهاية، على أية حال يستولي الديماجوجي «ماسانيللو» على التمرُّد الذي يتحوَّل إلى ثورة فلاحية.٢٠⋆ «جوبينو» يصوِّر «ماسانيللو» وحشود الغوغاء المتمردين بعبارات معادية للديمقراطية كما هو متوقَّع، ولكن القسوة الوحشية وعدم الجدارة بالثقة تنسحب على كل الشخصيات الأخرى. وسواء كانوا أغنياء أو فقراء، نبلاء إسبان أو فلاحين من صقلية، فكلهم نتاج مجتمع سيِّئ لا يمكن إصلاحه. الكونتيسة فقط هي المستثناة من هذا التدهور الذي لا يمكن إيقافه، فهي مثل «جوبينو» من سلالة النورمانديِّين الذين فتحوا صقلية في العصور الوسطى، وقبل ذلك من سلالة القراصنة «الفايكنج» الذين نقلوا جسارتهم وإقدامهم إليها عبر الأجيال. وباختصار، هي البقية الباقية من جنس نقي، فاضل، يَقِيها تفوُّقُها الفطري من التفسُّخ الحتمي للعصر الذي تعيش فيه، كما كان «جوبينو» يتصوَّر نفسه دائمًا. عندما انتهى من مسرحيته كان «جوبينو» مقتنعًا بأنَّ هناك صلةً سببية مباشرة بين نسبة الأرستقراطي واغترابه عن المجتمع البرجوازي، كان يعتقد (خطأ) أنَّ الدم النبيل للعرق الفرنسي القديم ما زال يتدفق في أوردتِه لكي يُقيم حاجزًا ضد تفسُّخ المرحلة التي يعيش فيها، وكما كان يقول بعد سنوات: «لقد اكتشفت أنَّ المجتمع من حولي هو الذي يُهزَم ويضمحل، وليس أنا.»٢١ والآن كانت مهمته هي ترجمة تلك الرؤية الداخلية إلى صيغة تاريخية أكثر عمومية.

سيشرح «جوبينو» كيف كان الغزاة الجرمان للإمبراطورية الرومانية هم المؤسسون الحقيقيون لعظمة أوروبا، الوندال، القوطيون، الفرانك، الفايكنج، هم الذين قضَوا على التفسُّخ الروماني، وجاءوا بالنبالة والحيوية الداخلية إلى عالم قديم منهك، وسوف يصوِّر بالتفصيل كيف أنَّ الأرستقراطية الأوروبية القديمة، أولئك الذين «وُلِدوا للسيف والدرع، الذين سيكرهون ويحتقرون الاستكانة والضعف حتى النخاع»، يختفون تدريجيًّا من العالم الحديث، ساحبين معهم حيويتَه وقوته، وقد أعطاه البحث الذي قام به لحساب «توكفيل»، إلى جانب دراساته الاستشراقية في المقارنة بين الأديان والحضارات، إطارًا علميًّا راسخًا لتلك النظرية الجارفة التي كانت مسيطرةً عليه، في رسالة إلى شقيقته في سنة ١٨٥١م يذكر: «أقوم الآن بكتابة عمل ضخم عن الأجناس البشرية.» وبعد عامين ظهر ذلك الكتاب الضخم بعنوان «فصل المقال في اللاتساوي بين الأجناس البشرية»: The Essay on the Inequality of the Human Races.

* مقتطف من كتاب (فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي) لمؤلفه آرثر هيرمان وترجمة طلعت الشايب-المصدر: مؤسسة هنداوي

.....................................

١ ⋆ كتابه تاريخ «أوتو جارل»، الذي صدر في طبعة خاصة عام ۱۸۷۹م والحقيقة غير ذلك. آل جوبينو من عائلة تجار أثرياء من «بوردو»، أصبحوا نبلاء في القرن الثامن عشر، أي أنهم من نتاج المجتمع التجاري الذي كان «جوبینو» يحتقره.

٢ “Memoires de Louis de Gobineau,” quoted in Biddiss, pp. 11-12.

٣ Boissel, Comte de Gobineau, p. 54.

٤ Poggioli, Theory of the Avant Garde.

٥ Schamber, Artist as Politician, p. 135.

٦ Quoted in Del Caro, Nietzsche Contra Nietzsche, p. 41. On antibourgeois themes, see C. Grana, Modernity and its Discontents.

٧ Quoted in Swart, Sense of Decadence, p. 75.

٨ Grana, Modernity and lts Discontents, pp. 92-93.

٩ Gautier, “Preface to Mademoiselle de Maupin,” in E. Weber, ed., Movements, Currents, Trends, pp. 76–103. See also Siegel, Bohemian Paris.

١٠ ⋆«إدجار كوينت» أستاذ الأدب الصيني في جامعة باريس، أشار في إحدى محاضراته إلى تأثير الدراسات الشرقية على الجماليات الرومانسية: «ألمانيا: شعر الرعاة العبري، تأثير فارسي (جان-بول)، جوته، إنجلترا: مدرسة البحيرة، كوليردج، شیللي، تأثیر هندي ... بایرون ... إلخ.»

١١ Schwab, Oriental Renaissance, p. 430.

١٢ Intimate Journals, p. 75.

١٣ Ibid., p. 91.

١٤ ⋆يقدِّر أحدُ الباحثين عددَ الكتَّاب الشبان الذين كانوا يبحثون عن وظيفة حكومية في باريس في عام ۱۸۱۳م بأربعين ألفًا على الأقل.

١٥ Biddias, p. 17.

١٦ Tocqueville, European Revolution, p. 193.

١٧ Ibid., pp. 202, 203; Gobineau, Essay on the Inequality of the Human Races, p. 62.

١٨ Price, French Second Republic.

١٩ Gregor-Dellin, Wagner.

٢٠ ⋆«الثورة الفلاحية» Jacquerie، التي قام بها الفلاحون الفرنسيون عام ١٣٥٨م. (المترجم)

٢١ Quoted in Buenzod, La Formation, p. 270.

ذات صلة

استراتيجية وحدة المسلمين في مواجهة أعدائهمكاميلا هاريس خسارة الانتخابات أم خسارة القيم؟في تفسير ظاهرة تصادم النخب الثوريةحملة وطنية لمكافحة التصحّرالقطاع الخاص وحاجته للقوة الاكاديمية