ضفاف الرافدين المهملة: جريمة بحق إرث العراق
مصطفى ملا هذال
2025-11-23 04:36
من محاسن الصدف او لحسن الحظ انني اسكن في مدينة يشقها نهر الهندية المتفرع من نهر الفرات عند سدة الهندية، اذ تحول هذا النهر الى هوية المدينة وجزء لا يتجزأ من رمزيتها ومكانتها بالنسبة لقاطنيها على مدى عقود من الزمن.
نتشارك انا وأبناء المدينة الآخرين رغبة الجلوس على ضفاف هذا النهر الذي يأتي كقلادة تزيين عنق المدينة، لكن ثمة ما يمنعنا من الجلوس لقضاء بعض الوقت مع الأصدقاء او العائلة وغيرهم.
ويتمثل هذا العائق بعدم الاهتمام بالضفاف الجانبية لهذا النهر، فلا توجد مصاطب للجلوس وان وجدت فأعدادها محدودة، ولا أماكن للترويح عن النفس لمن أتعبه عمل يوم شاق، ويبقى هذا الامر بالنسبة لسكان القضاء امنية صعبة التحقيق.
فعلى الرغم من أن العراق يُعرف تاريخيا ببلد الرافدين، إلا أن ضفاف أنهاره اليوم تكشف عن مفارقة مؤلمة؛ المياه التي شكلت مهد الحضارات، تحولت في الكثير من المدن العراقية إلى خطوط مهمشة ومكبات عشوائية للنفايات، بدل أن تكون فضاءات حيوية نابضة بالحياة.
من بغداد إلى العمارة والناصرية، يلاحظ الزائر أن ضفاف دجلة والفرات تعاني من ترد بيئي خطير، النفايات المنزلية تتكدس بشكل يومي، وبقايا الإنشاءات تلقى مباشرة في النهر، فيما تنتشر بقع التلوث الناتجة عن الصرف الصحي غير المعالج. هذا المشهد لا يمثل فقط خطورة بيئية، بل يعكس خللا إداريا وثقافيا عميقا، عجزت عنه الحكومات المتعاقبة والبلديات على حد سواء.
المفارقة أن دولا تشترك مع العراق في ظروف اقتصادية صعبة مثل مصر نجحت في تحويل ضفاف الأنهار إلى مراكز حضرية ومتنفسات اجتماعية، نأخذ على سبيل المثال، لم يكن مجرد تطوير عمراني، بل خطوة استراتيجية لجعل النيل جزءا من حياة الناس اليومية.
اذ يتضمن هذا المشروع على مقاهٍ منظمة، مسارات مشاة، متنزهات، وإدارة مستدامة للنظافة والخدمات، هذا النوع من المشاريع جعل ضفاف النيل عنصر قوة سياحية واقتصادية، بدل أن تكون عبئًا بيئيًا.
يوازي ذلك ما زالت ضفاف دجلة والفرات تعاني من غياب رؤية واضحة، فالمشاريع التطويرية غالبا ما تكون مؤقتة أو موسمية، تُنفذ على نطاق ضيق ثم تُترك بلا متابعة، وفيما يخص القوانين البيئية فهي غائبة بشكل كامل، وهو ما حول الكثير من ضفاف الأنهر في العراق الى أماكن للتجاوز عليها من قبل الأهالي، والأسوأ من ذلك أن الكثير من البلديات تتعامل مع النهر وكأنه خارج مسؤوليتها، بينما الجمهور يتعامل معه وكأنه ساحة مفتوحة للتخلص من النفايات.
ورغم هذه الصورة القاتمة، لا يمكن تجاهل وجود مبادرات شبابية ومدنية صغيرة بدأت تدرك قيمة النهر، حتى انطلقت حملات تنظيف تطوعية، ووجهت دعوات لإنشاء كورنيش حضاري، وحتى مطالبات بإحياء التراث المرتبط بالأنهر، إلا أن هذه الجهود تبقى محدودة أمام حجم التدهور، وتحتاج إلى تبن رسمي واستراتيجية طويلة المدى.
نحتاج في مثل هذا الوقت وبعد مرور أكثر من عقدين على تغيير النهج السياسي في البلاد، نحتاج الى خطة إنقاذ ضفاف الأنهار في العراق، وهذا الانقاذ ليس ترفا جماليا، بل ضرورة بيئية وصحية واقتصادية، لاسيما وان النهر ليس مجرد مجرى مائي، بل قلب للمدينة وذاكرة للمكان، وإذا استمرت الضفاف في هذا الإهمال، فإن النتائج ستكون كارثية على صحة السكان، وعلى الموارد المائية نفسها التي تتعرض أصلا لضغوط نقص التدفق والتلوث.
المطلوب اليوم مشروع وطني شامل يعيد الأنهار إلى دورها الحضاري، تنظيف مستمر، منع التجاوزات، إنشاء مسارات خضراء، دعم الأنشطة الثقافية والسياحية على الضفاف، وتثقيف المجتمع بأن النهر ليس مكانا لرمي القاذورات، بل ثروة يجب الحفاظ عليها.