الاقتصاد العالمي: لعبة بلا قواعد

مرام مازن حاتم

2025-11-09 03:40

في عام 2025 يبدو المشهد الاقتصادي العالمي أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، إذ لم يعد الاقتصاد خاضعًا للقواعد التي عرفها العالم لعقود، بل أصبح أقرب إلى لعبة تتبدَّل قوانينها مع كل أزمة أو حدث سياسي جديد. فالتوازن الذي كان قائمًا بين السوق والسياسة انهار تدريجيًا تحت ضغط التحولات الجيوسياسية، والأزمات المناخية، والتطور التكنولوجي المتسارع الذي أعاد تعريف مفاهيم الثروة والقوة والنفوذ. 

في هذا العصر الذي تسوده الفوضى الاقتصادية، لم تعد الدول تُقاس بقدرتها الإنتاجية فقط، بل بقدرتها على التكيُّف السريع مع نظام عالمي يتغير بوتيرة تفوق كل التوقعات.

شهد العالم خلال السنوات الأخيرة اضطرابات متتالية جعلت الاقتصاد يفقد استقراره التقليدي. فالحروب الإقليمية، والعقوبات الاقتصادية، والنزاعات التجارية بين القوى الكبرى أدت إلى تصدُّع الثقة في المنظومة المالية العالمية، وأصبحت السياسة هي المحرك الأول للأسواق لا القوانين الاقتصادية. فعندما تتخذ دولة عظمى قرارًا بفرض عقوبات أو بحظر تصدير سلعة معينة، تهتز الأسواق وتنهار العملات وكأن العالم بأسره مربوط بخيط سياسي واحد. لقد تحولت التجارة العالمية إلى ساحة تنافس مفتوحة، تتصارع فيها المصالح بدل أن تتكامل، وتتصادم فيها الرؤى الاقتصادية بدلاً من أن تتوحد حول مبادئ التنمية المشتركة.

لم تعد المؤسسات الاقتصادية الدولية، مثل صندوق النقد والبنك الدولي، قادرة على ضبط الإيقاع العالمي كما كانت تفعل سابقًا؛ لأن الاقتصاد اليوم لم يعد يخضع لمنظومة واحدة، بل يتأثر بعوامل متعددة ومتغيرة كالتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، وسلاسل الإمداد، والأمن السيبراني، والطاقة. 

وأصبحت القرارات الاقتصادية تُتخذ أحيانًا وفق مصالح لحظية تتغير بتغير التحالفات، مما جعل السوق الدولية تفقد عنصر الثقة والاستقرار الذي كان يُشكِّل أساس ازدهارها. ويبدو أن الدول الكبرى باتت تستخدم الاقتصاد كوسيلة ضغط سياسي، بينما تُترك الدول النامية تواجه تبعات تلك الصراعات دون قدرة حقيقية على التأثير في مجريات الأحداث.

تعيش الأسواق اليوم حالة من التذبذب غير المسبوق، إذ تتغير أسعار النفط والذهب والعملات في فترات زمنية قصيرة نتيجة التصريحات السياسية أكثر من العوامل الإنتاجية. فالعالم أصبح مترابطًا إلى درجة أن أزمة في دولة واحدة قد تُحدث ارتدادات اقتصادية في قارات أخرى خلال ساعات. وهذه الهشاشة في الترابط تكشف أن النظام الاقتصادي لم يعد يمتلك قواعد ثابتة أو أدوات فاعلة لإدارة الأزمات، بل أصبح رهينة المزاج السياسي والمصالح الآنية. حتى العولمة التي كانت تُطرَح كشعار للتعاون والاندماج الاقتصادي فقدت بريقها أمام صعود النزعات القومية والحمائية الاقتصادية، فأصبحت كل دولة تبحث عن مصالحها أولًا ولو على حساب الاستقرار الدولي.

ورغم الصورة القاتمة التي يرسمها هذا الواقع، إلا أن في عمق الفوضى تكمن فرصة لإعادة التوازن وبناء نظام اقتصادي أكثر عدلًا واستدامة. فالعالم بحاجة اليوم إلى مقاربة جديدة لا تعتمد على الصراع من أجل السيطرة، بل على التعاون من أجل البقاء. فالقواعد الاقتصادية التقليدية التي وُضعت بعد الحرب العالمية الثانية لم تعد قادرة على التعامل مع عالم يعتمد على البيانات والتكنولوجيا أكثر من اعتماده على النفط أو الصناعة الثقيلة. ولذلك فإن بناء نظام اقتصادي متوازن يتطلب رؤية دولية شاملة تعترف بالتحولات الجديدة، وتضع أسسًا لاقتصاد رقمي منفتح وعادل يضمن المصلحة المشتركة لا المصلحة المنفردة.

إن الحلول لا تأتي من إعادة إنتاج النماذج القديمة، بل من صياغة قواعد جديدة تحترم التنوع وتوازن بين مصالح الدول الغنية والنامية. فالاقتصاد في جوهره ليس لعبة صفرية، بل منظومة يمكن أن تحقق الازدهار للجميع إذا قامت على العدالة والشفافية. ويجب أن تُدرك القوى الكبرى أن استخدام الاقتصاد كسلاح سياسي قد يمنحها تفوقًا مؤقتًا، لكنه يخلق في المقابل عالمًا غير مستقر يعاني من فجوات في التنمية ويهدد السلام العالمي. 

ومن هنا تبرز الحاجة إلى قيادة جماعية مسؤولة تُعيد الثقة إلى الأسواق، وتضع معايير عادلة للتجارة الدولية، وتُنظِّم استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ضمن أُطُر أخلاقية واقتصادية تضمن أمن الإنسان قبل ربح المؤسسات.

إن العالم اليوم أمام مفترق طرق؛ فإما أن يستمر في لعبة بلا قواعد تحكمها المصالح الضيقة، وتظل الأسواق الدولية رهينة للتقلبات والمناورات الاقتصادية والسياسية، وإما أن يتجه نحو نظام اقتصادي أكثر عدلًا وإنصافًا، يقوم على التعاون لا الإقصاء، وعلى الشراكة لا السيطرة، بحيث تتحقق المصالح المشتركة للدول الكبرى والصغرى على حد سواء، ويصبح الاقتصاد أداة للتنمية والاستقرار بدلاً من أن يكون ساحة صراع ومنافسة غير منضبطة. 

فالمستقبل لن يكون لمن يملك الثروة فقط، بل لمن يملك القدرة على استخدامها بحكمة، وتوظيفها في تعزيز التنمية المستدامة، وتحقيق السلام، وترسيخ الاستقرار العالمي، بما يضمن فوائد حقيقية لجميع الشعوب ويخلق نظامًا اقتصاديًا متوازنًا يتجاوز الانقسامات ويحقق العدالة والشفافية في التعاملات الدولية.

ذات صلة

فلسفة النظم والنظام في رؤية الإمام الشيرازيالشباب العراقي وإرادة التغيير في الانتخابات البرلمانيةالصديقة الزهراء: المرأة الحُرة التي يقتلها الصمتالغنيمة بين اللغة والشرع: عموم الدلالة وأثرها على أحكام الخمسخارطة طريق المرجعية الرشيدة لعراق بعد 2003