العراق بين عناصر النهوض وغياب المنظومة القيمية
محمد عبد الجبار الشبوط
2025-11-05 04:31
يملك العراق، بوصفه مجتمعًا ودولةً، ما يمكن أن نسمّيه المركب الحضاري، وهو مجموعة العناصر الأساسية التي يقوم عليها أي مشروع حضاري ناجح، وتتمثل في خمسة عناصر رئيسية: الإنسان بما يحمل من قدرات وطموحات ووعي، والأرض بما تختزنه من ثروات طبيعية وموقع جغرافي محوري، والزمن بما يمثله من فرصة مستمرة للتغيير والتجديد والتراكم التطوري، والعلم بوصفه القوة التي تمكّن الإنسان من فهم العالم وتسخير قوانينَه لصالحه، والعمل الذي يحول المعرفة والإمكانات إلى نتائج ملموسة وإنتاج فعلي. هذه العناصر الخمسة موجودة بقوة في العراق، بل ويمكن القول إن العراق يمتاز بها تاريخيًا وثقافيًا وجغرافيًا وإنسانيًا، فهي ليست موضع نقص، بل موضع قوة كامنة قابلة للتفعيل والتحريك.
المشكلة ليست في غياب العناصر الحضارية، بل في غياب الإيمان بمنظومة قيم عليا تُوحّد هذه العناصر وتنسّق عملها وتوجهها نحو غاية حضارية واضحة. ذلك لأن عناصر المركب الحضاري، مهما كانت قوية وموجودة ومتاحة، تبقى خامدة وغير مثمرة إذا لم تُستثمر ضمن إطار قيمي يُحدّد اتجاه الحركة وغايتها، ويضع الإنسان أمام واجبٍ حضاري لا مجرد منفعة شخصية أو نزعة سلطوية.
القيم العليا: البوصلة الغائبة
ما نفتقده اليوم في الطبقة السياسية في العراق هو الإيمان الجاد والعملي بمنظومة قيم عليا مثل: الحرية، العدالة، المساواة، الإتقان، المسؤولية، التضامن، التعاون، الثقة، التسامح، السلام، الإبداع. هذه القيم ليست شعارات أخلاقية مجرّدة، وإنما هي قوانين حضارية تمكّن الدولة من توظيف عناصر قوتها وتحويلها إلى إنتاج وفير وتوزيع عادل لهذا الإنتاج. فالحرية شرط الإبداع، والعدالة شرط الاستقرار، والإتقان شرط الجودة، والتعاون شرط الفاعلية، والثقة شرط الانسجام الاجتماعي، والإبداع شرط التطور المستمر.
غياب الإيمان بهذه القيم يجعل السلطة تنظر إلى الدولة بوصفها غنيمة، لا أمانة، وإلى الشعب بوصفه وسيلة دعم لا غاية وجود. عندها يتحول العلم إلى ديكور، والعمل إلى وظيفة شكلية، والإنسان إلى تابع، والأرض إلى مورد منهوب، والزمن إلى فرصة ضائعة.
من الإنتاج إلى الحياة الطيبة
حين يُعاد بناء السياسة العراقية على أساس الإيمان بالقيم العليا، يتحول المركب الحضاري من طاقة كامنة إلى قوة فاعلة. فالإنسان المتعلم الحر المنتج العادل يصبح محور الدولة، والأرض تتحول إلى مصدر عطاء منظم، والزمن إلى مسار تطوير مستمر، والعلم إلى محرك للتقدم، والعمل إلى وسيلة لصناعة الثروة العامة. عندها يتحقق وفرة الإنتاج وعدالة التوزيع، وهما الركيزتان الأساسيتان لـ الحياة الطيبة والسعيدة التي تسعى إليها الدولة الحضارية الحديثة؛ الدولة التي لا تكتفي بإدارة المجتمع، بل ترتقي به وتفتح أمامه آفاق النمو والإبداع والكرامة.
خلاصة
العراق لا ينقصه المال ولا الإنسان ولا التاريخ ولا الأرض ولا العلم، إنما ينقصه الإيمان بقيم عليا تبني الضمير السياسي والأخلاقي وتوجّه عناصر القوة الحضارية نحو البناء بدل الصراع، والإنتاج بدل الفساد، والمستقبل بدل الحاضر الضيق. إن نهوض العراق يبدأ من إعادة بناء منظومة القيم في الوعي السياسي، لأن القيم هي التي تحكم حركة التاريخ، وهي التي تصنع الحضارة وتؤسس الدولة التي تستحق هذا الاسم.