بين حداثة نجلبها وحداثة نبدعها
زكي الميلاد
2025-10-14 04:08
التجربة الفكرية للدكتور زكي نجيب محمود في مصر، بشهادة الكثيرين تعد واحدة من أعمق التجارب الفكرية الحديثة في العالم العربي. وقد استندت هذه التجربة على قواعد وأصول معرفية وفلسفية، واتصفت بكل مقومات وركائز التجربة الفكرية، التي جعلت من الفكر اختباراً، ومن العلم والمعرفة مسلكاً ومساراً. وكغيرها من التجارب الفكرية فقد مرت هذه التجربة بأطوار مختلفة، انبثقت عنها انكشافات، قادت إلى تحولات ومراجعات عبر عنها صاحبها بصدق ووضوح.
ويمكن القول أن زكي نجيب محمود كان أشبه المفكرين العرب بالمفكرين والفلاسفة الأوروبيين من جهة علاقته بالعلم والمعرفة كسبا وعطاء، ومن جهة عمق تجربته الفكرية والفلسفية، فهو أشبه بكارل بوبر في دفاعه وحماسته للفلسفة العلمية والمنطق العلمي، وكان يعتبر أفضل من تمثل الوضعية المنطقية في العالم العربي، وهي الفلسفة التي تركز على العلاقة بين العلم واللغة، وأنها في نظر المنتمين إليها أقرب الفلسفات إلى العلم، والأكثر تعبيراً عن فلسفة العلم، وفي نظر آخرين أنها التجسيد الحقيقي لفلسفة العلم.
وفي هذا النطاق نشر زكي نجيب محمود أشهر مؤلفاته وزناً وتركيزاً من الناحية العلمية والفلسفية، وهما كتابان (المنطق الوضعي) و(نحو فلسفة علمية). ولعمق هذه التجربة الفكرية لم يتردد البعض في إطلاق وصف الفيلسوف على زكي نجيب محمود، الوصف الذي يتعامل معه الكثيرون بحذر شديد بخلاف الأوصاف والتسميات الأخرى التي يجري التعامل معها بتساهل شديد. وإطلاق هذا الوصف على زكي نجيب محمود باعتباره استطاع أن يبلور موقفاً أو قولاً فلسفياً واضحاً ومتماسكاً في نظر الكثيرين.
وفي آخر أطوار هذه التجربة الفكرية، وفي مرحلة نضجها واكتمالها، حصل تحول لافت للغاية عند زكي نجيب محمود وصفه بصحوة قلقة قلبت عنده موازين الفكر، وغيرت لديه اتجاهات النظر، وبعثت فيه يقظة. وقد تحدث عن هذه الصحوة بوضوح كبير في نص أصبح من نصوصه الشهيرة، والذي جاء في مقدمة كتابه (تجديد الفكر العربي) حيث قال فيه أنه (واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي قديم أو جديد، حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تفتح على غيره لتراه، ولبثت هذه الحال مع كاتب هذه الصفحات أعواما ًبعد أعوام، الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب، الفكر الأوروبي تدريسه وهو أستاذ، والفكر الأوروبي مسلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ. وكانت أسماء الأعلام والمذاهب في التراث العربي لا تجيئه إلا أصداء مفككة متناثرة كالأشباح الغامضة يلمحها وهي طافية على أسطر الكاتبين… ثم أخذته في أعوامه الأخيرة صحوة قلقة. فلقد فوجئ وهو في أنضج سنيه، بأن مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة ليست هي كم أخذنا من ثقافات الغرب، وكم ينبغي لنا أن نزيد).
كما تجلت هذه الصحوة وبصورة اشد وضوحا في كتاب لعله آخر أو من أواخر مؤلفات زكي نجيب محمود، حمل عنوان (رؤية إسلامية) ولم يشتهر هذا الكتاب كثيراً بين المثقفين مقارنة بالمؤلفات الأخرى. ومن يطلع على هذا الكتاب يتعرف على صورة مغايرة تماماً عن الصورة المتشكلة حول المنظومة الفكرية لزكي نجيب محمود والتي عبر عنها في معظم مؤلفاته السابقة.
وحين يشرح أبعاد فكرته عن هذا الكتاب في المقدمة يقول زكي نجيب محمود (لقد أوهمنا أنفسنا وهماً عجيباً، قيد خطواتنا على طريق التقدم، وهو أننا توهمنا أن ثمة تناقضاً بين أن يكون الإنسان مسلما ًبعقيدته الدينية، وأن يكون في الوقت نفسه ساعياً إلى ما يسعى إليه أهل الغرب، من إيجاد لعلم جديد، ثم إقامته حضارة جديدة على أساس ذلك العلم الجديد. وقد كاد الأمر يكون كذلك، لو أن إسلامنا لم يجعل العلم وتطبيقه ركناً أساسياً في بنائه. وإني لأتصور والكلام مازال لزكي نجيب محمود أن الأمة الإسلامية، لو كانت اليوم على مثل قوتها الأولى، لكانت هي التي ملكت زمام عصرنا هذا بكل ما فيه من علوم، ومن تقنيات). ولاشك أن العارفين بالخطاب الفكري لزكي نجيب محمود لم يتعودوا منه سماع مثل هذه الكلمات بهذا النسق والتجلي النابض بالروح الإسلامية.
والغريب أن هذا التحول في التجربة الفكرية لزكي نجيب محمود لم يكن مؤثراً بصورة فاعلة على مسلكيات المثقفين الفكرية. في حين كان يفترض أن مثل هذه المراجعة لتجربة فكرية بعمق تجربة زكي نجيب محمود أن تفتح مراجعات واسعة وعميقة لتجارب المثقفين الفكرية.
وحينما اطلعت على كتاب (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية) للدكتور عبد الله الغذامي، وجدت إننا لن نصل إلى هذه الحداثة التي هي قضية القضايا عنده، لأنها حداثة نجلبها من الغرب، في حين أن بإمكاننا توليد الحداثة وانتاجها من داخلنا، وليس بطريقة كما قال زكي نجيب محمود كم أخذنا وكم سوف نأخذ من الغرب، وهذا هو التحدي!