علم اقتصاد المعنى: بين القلم والممحاة
د. مظهر محمد صالح
2025-12-14 04:05
غدت الحياة في عصر المعلوماتية تتذوّق جانبًا آخر من علم الاقتصاد، جانبًا يمكن تسميته مجازًا بـ علم اقتصاد المعنى The Economics of Meaning، وإن لم يكن هذا الحقل أكاديميًا تحت مسمى مباشر وشائع، فإنه يتقاطع بعمق مع أربعة ميادين راسخة: الاقتصاد الثقافي، الاقتصاد الرمزي، اقتصاد الخبرة، واقتصاد الهوية.
إن اقتصاد المعنى يرقد في قلب عصر المعلوماتية (Information Age)، تلك المرحلة التاريخية التي صارت فيها المعلومات والتكنولوجيا الرقمية، القوة العليا في إنتاج القيمة واتخاذ القرارات ونمط العيش، وهي المرحلة ذاتها التي يطلق عليها أيضًا عصر المعرفة الرقمية.
لقد غيّر هذا العصر اقتصاد البشر وثقافاتهم، ونقلهم من عالم الإنتاج المادي إلى عالم تُصبح فيه المعرفة والمعنى والإبداع المصدر الرئيس للقيمة الاقتصادية والاجتماعية.
المحو والمعنى: من الممحاة إلى الوجود
أدهشني المفكر الإنساني حسين العادلي حين كتب عن المحو قائلاً: "لولا المِمحاةُ لَفُضِحَ القلمُ، ولولا القلمُ لَفُقِدَ المعنى، ولولا المعنى لَماتَ الوجود.” فذهب ذهني إلى عالم المعنى نفسه، عالمٌ يقوم في الاقتصاد لكنه يولد من رحم الثقافة ومؤسساتها الرمزية. فالثقافة بما تحمله من قيم ورموز وسرديات غدت رأس مال غير منظور، لكنه شديد التأثير في تشكيل السلوك والأسواق وتوجيه القرارات.
وان أخطر ما يهدد اقتصاد المعنى هو تلك الممحاة الخفية التي تستولي على القيم المنتجة له، فتنقلها من فضائها الطبيعي إلى جيوب المتربحين من خارج المعنى، أولئك الذين لا يصنعون القيمة، بل يقتاتون عليها. وهكذا يُفرَّغ المعنى من جوهره، وتُختَطَف دلالاته، وتتحول الثقافة من مصدر إبداع إلى مورد نهب ناعم يدرّ الأرباح لمن لا علاقة لهم بروحها.
أركان اقتصاد المعنى
بين أركانه الأربعة : الثقافة، الرمزية، الخبرة، الهوية، تتحرك أفكار علماء عصر المعرفة لتجسّد هذا الفرع الوليد من الاقتصاد، كلٌّ من زاويته الخاصة.
بدأً من العالم هنري لوفيفر، الذي تناول انتاج الفضاء بوصفه إنتاجًا للمعنى، يقف لوفيفر Henri Lefebvre، في قلب هذا التحول ولا سيما في كتابه الشهير The Production of Space (1974) ،
إذ يربط بين الفضاء والدلالة والبنية الاقتصادية.
ويقدّم لوفيفر ثلاثية أصبحت مركزية اليوم: _
الفضاء المتصوّر Conceived Space: الفضاء الذي ترسمه السلطة والخبراء عبر القوانين والمخططات والخرائط.
_الفضاء المدرك Perceived Space: وهن الفضاء الذي نتحرك فيه عمليًا عبر الاستخدام اليومي للشوارع والأسواق والعمل.
_الفضاء المعاش Lived Space: ذلك الفضاء الرمزي الذي نحمله في الذاكرة والهوية والطقوس والجماليات.
هذه الثلاثية هي أقرب المفاتيح لفهم اقتصاد المعنى الحضري.
ويأتي العالم بيار بورديو Pierre Bourdieu : ليتناول (رأسمال الرمزي) حيثُ رسّخ فكرة أنّ القيمة الاقتصادية ليست مادية فحسب، بل تولد أيضًا من الرأسمال الرمزي الذي يصنع النفوذ والسلطة والذائقة ويحدد مواقع الفاعلين في المجتمع.
ثم يعقبة العالم لوسيان كاريبيك Lucien Karpik : في كتابه تقدير الفريد Valuing the Uniqueليطرح نظرية لامعة حول اقتصاد الأشياء التي تستمد قيمتها من معناها: الفن، الأدب، العلامات التجارية، والمنتجات الفاخرة. ويسمّي ذلك اقتصاد التميز.
ثم يحدثنا ديفيد هارفي David Harvey عن المعنى الحضري كونه سلعة اقتصادية، متناولاً في كتابه الشهير حالة ما بعد الحداثة The Condition of Postmodernity اي كيف يتحول المعنى الحضري إلى رأس مال اقتصادي، وكيف تصبح المدن ساحاتٍ لإنتاج الرموز والصور والمعاني التي تُباع وتُستهلك مثل السلع.
اما شارون زوكين Sharon Zukin
فتوضح في كتابيها:
• The Cultures of Cities – ثقافات المدن
• Naked City: The Death and Life of Authentic Urban Places – والمدينة العارية: موت الحياة الأصيلة في الفضاء الحضري (2010)
وكيف تتحول الأصالة إلى سلعة، وكيف يُعاد تشكيل الفضاء الحضري عبر اقتصاد المعنى والرموز والصورة.
وفي عوالم الفن يشرح هاورد بيكر Howard Beckerفي كتابه عوالم الفن Art Worlds ، كيف تُخلق القيمة الفنية من المعنى والسياق الاجتماعي، وليس من العمل الفني وحده.
اما في اقتصاد الخبرة ، يقدّم باين وغيلمور Pine & Gilmore ، في كتابهما الشهير
The Experience Economy (Harvard, 2011) أحد أهم النصوص المباشرة في “اقتصاد المعنى”، إذ يربط الكاتبان المشاعر والتجربة والرمزية بالقيمة المادية، ويؤسسان لفكرة ، أن الاقتصاد الحديث ينتج خبرات لا منتجات. وأخيراً يقف عالم الاقتصاد أمارتيا سن Amartya Sen ليحدثنا عن القدرات والمعنى الإنساني في كتابهِ
Development as Freedom – التنمية هي الحرية، فيرى أن القيمة الاقتصادية ليست في السلعة بل في المعنى الذي تضيفه لحياة الإنسان، وفي مدى ما تتيحه من قدرات وخيارات وكرامة ، اي نحو اقتصاد يحفظ جوهر المعنى.
ختاماً: لقد غدا اقتصاد المعنى علماً اقتصاديًا موازيًا يُنتج منافع وقيمًا وأسواقًا مادية. غير أن أخطر ما يواجهه هو محاولة الاستيلاء على تلك القيم من خارج المنظومة التي أنتجتها، بما يحوّل المعنى إلى سلعة بلا روح.
ويبقى التحدي الأكبر، هو بناء اقتصاد يحفظ جوهر الثقافة، لا أن يستنزفها، اقتصاد يجعل من المعنى مصدرًا للنهضة، لا مادة للربح السريع.
كما يقول حسين العادلي في فلسفة المعنى:
“الفخرُ للمِمحاةِ قبل القلم ، فهي التي أبقت ما يستحقُّ الظهور…”
يا له من تعبير يلامس قوة اقتصاد المعنى وديالكتيك تطوره الجارف الذي يشكل فلسفة اقتصاد القرن الحادي والعشرين.