البصيرة التي أقنعت العقول.. قراءة تحليلية في كتاب (كيف ولماذا أسلموا؟)

علي الموسوي

2025-12-14 04:10

يمثِّل المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي نموذجًا علميًّا رصينًا في الجمع بين العمق الفكري واتِّساع الأفق المعرفي؛ إذ لم يقتصر تميُّزه على الإلمام بالمصادر الدِّينية فحسب؛ بل امتدَّ ليشمل القدرة على التَّعامل مع القضايا الفكريَّة المختلفة بوعي نقدي متوازن. وقد أظهرت تجاربه في مجال الحوار والمناظرة مع أصحاب المذاهب والدِّيانات الأخرى مهارة عالية في إدارة النِّقاشات المعقَّدة، فقد كان يعتمد على منهجيَّة واضحة تجمع بين العقلانيَّة الدَّقيقة، والرَّحمة في الطَّرح، والقدرة على فهم الآخر من دون مساس بمبادئه المحوريَّة.

 ويجسد كتابه (كيف ولماذا أسلموا؟) هذا المنهج بوضوح، حيث وثَّق فيه تجاربه الحواريَّة مع المسيحيين وغيرهم، موضحًا أسلوبه الفريد في التَّعامل مع التَّساؤلات والاعتراضات الفكريَّة. ويكشف هذا العمل عن رؤية متكاملة للحوار، تقوم على فهم دوافع الطَّرف الآخر، وتحليل أفكاره، وتقديم الإجابات بطريقة تراعي العقل والوجدان معًا، بعيدًا عن الانفعال أو الإقحام العقيدي القسري. كما يُجسِّد الكتاب براعةَ المجدِّد الشيرازي (قدِّس سرُّه) في الجمع بين العمق العلميّ واللّطف الإنسانيّ الذي يجعل المعرفة أكثر قربًا وتأثيرًا، ما يجعل منه مرجعًا يقتدى به في الدِّراسات المقارنة بين الأديان، وفي تطوير أساليب الحوار البنَّاء الذي يسعى إلى التَّقريب بين الرُّؤى المختلفة، من دون المساس بالهوية الفكريَّة لأي طرف. 

ولكي نستثمر ما يحمله هذا الكتاب من رؤى، سنعرض أوَّلًا السِّمات التي تميِّز أسلوب الإمام الشيرازي في المناظرة والحوار، ثمَّ نورد بعد ذلك نموذجًا من مناظراته لتكون شاهدًا عمليًّا يظهر هذه الصِّفات.

المحور الأوَّل: ركائز منهج الإمام الشيرازي في المناظرة والحوار

أوَّلًا: الحوار الهادف لا الغلبة اللفظيَّة

 لم يكن الإمام الشيرازي، في أيّ مرحلة من مراحل نشاطه الحواري، منشغلًا بتحقيق تفوق لفظي أو تسجيل انتصار جدلي عابر. فطبيعة منهجه في المناظرة كانت بعيدة تمامًا عن روح المكابرة والسجال، وقريبة من مقاصد الهداية وكشف الحقيقة أمام من يحاورهم.

 وهذا التَّوجه يكشف عن رؤية واعية للحوار باعتباره طريقًا للمعرفة، لا ساحة صراع. فالسيد الشيرازي كان يرى أنَّ الحجَّة الحقيقيَّة ليست في التفوق الكلامي؛ وإنَّما في قدرتها على الوصول إلى عقل السَّامع وقلبه معًا، وتقديم الإجابة التي تُشعر الباحث عن الحقيقة بأنَّها امتداد لطموحه المعرفي، لا إلغاء له. ومن هنا تحوَّلت مناظراته إلى تجربة معرفيَّة متكاملة، تحمل أثرًا يتجاوز لحظة النِّقاش، وتبني لدى الطَّرف الآخر استعدادًا للتَّأمل والمراجعة.

 وقد أثمرت هذه المقاربة الهادئة نتائج ملموسة؛ إذ قادت عددًا من محاوريه، ممَّن كانوا يقفون أصلًا على مسافة فكريَّة بعيدة، إلى الدُّخول في الإسلام بعد سلسلة من الحوارات التي اتَّخذت طابعًا إنسانيًّا وعقلانيًّا في آن واحد. وهكذا يظهر أنَّ نجاح الإمام الشيرازي في مناظراته كان نتيجة إخلاص في النيَّة، ووضوح في المنهج، وقدرة على الجمع بين قوَّة البرهان وجمال الأسلوب، ولم يكن نتيجة براعة لفظيَّة.

ثانيًا: المرونة في استخدام الأساليب

 امتلك الإمام الشيرازي قدرة واضحة على توظيف أساليب متعدِّدة في الحوار، بما يعكس فهمًا دقيقًا لطبيعة المخاطَب ومرحلة النِّقاش. فلم يكن يعتمد خطابًا واحدًا ثابتًا، وكان يتحرَّك ضمن طيف واسع من الأدوات، "فينتقل إلى البرهان العقلي عندما يكون المقام محتاجًا إلى تحليل منطقي وتفكيك منهجي، ويلجأ إلى الخطاب الوجداني حين يرى أنَّ النُّفوس بحاجة إلى ما يلامس فطرتها ويوقظ وجدانها، وقد يستخدم الجدل إذا اتَّخذ الطَّرف المقابل هذا الطَّريق وجرَّ الحوار إليه"(1).

 وهذه المرونة تشير إلى رؤية واعية لطبيعة الحوار بوصفه عمليَّة تتطلَّب فهمًا للسياق وخصوصيَّة المخاطَب. ومن هنا يبرز ما سمَّاه (تجنب الزَّاوية الحادَّة) (2)، وهو تعبير يدل على ابتعاده عن أسلوب الاستفزاز أو السخريَّة أو إحراج المخالف بأسئلة حادَّة أو عبارات جارحة. فقد كان يرى أنَّ المواجهة الكلاميَّة القاسية تُغلق أبواب القلوب بدلًا من أن تفتحها، وأنَّ المناظرة لا تتحوَّل إلى وسيلة للهداية إلَّا حين يشعر الطَّرف الآخر بأنَّه محترَم، وأنَّ الحقيقة تُعرض أمامه بلطف لا بعنف.

 وعن طريق هذا النَّهج، يتجلَّى أنَّ سماحةَ السيّد الشيرازي قد أحسن توظيف أدوات الخطاب توظيفًا راقيًا، في إطارٍ أخلاقيّ يمزج بين احترام الإنسان وتوجيه الحوار برفقٍ وحكمة نحو ما يثمر نفعًا ويضيء طريق الهداية، ليصبح الحوار مساحة للتلاقي الفكري، لا صدامًا يعمِّق القطيعة. وهكذا تكوَّن منهج فريد يجمع بين رصانة البرهان ورقَّة الأسلوب، ويمنح الحوار قدرة على الوصول إلى العقل والوجدان معًا.

ثالثًا: قوَّة الحجَّة وثقة الفكر الإسلامي

 يشير الإمام الشيرازي في مواضع متعدّدة، مستندًا إلى تجاربه الواسعة التي خاض فيها حوارات مع مئات من أصحاب الاتِّجاهات الفكريَّة المتباينة؛ من المسيحيين والصابئة إلى الملحدين والوجوديين والبعثيين وغيرهم، إلى حقيقةٍ راسخة مفادها أنَّ البناء الفكري للإسلام قائم على منظومة محكمة مترابطة، يستحيل اختراقها أو إضعافها بالحجج السطحيَّة والاعتراضات العابرة. وكان يؤكِّد أنَّ محاولات نقض الإسلام لا تبلغ ــ مجازًا ــ حتَّى مقدار (جناح بعوضة)(3).

 وهذه الثقة كانت ثمرة فهم عميق لطبيعة الرِّسالة الإسلاميَّة التي تقدِّم تصورًا شاملًا للإنسان والحياة، إضافة إلى خبرة ميدانيَّة طويلة اكتسبها من التواصل المباشر مع مختلف المدارس الفكريَّة في مناظرات حقيقيَّة، لا في إطار افتراضات نظريَّة. وكان يؤكِّد أنَّ الإسلام، إذا قُدِّم كما هو، بعيدًا عن التَّشويه أو التَّعقيد، سيجد طريقه إلى القلوب بسهولة؛ لأنَّ فطريَّة مبادئه وموافقته للعقل تجعله قادرًا على محاورة العقل والوجدان معًا.

 ولذا، فإنَّ نتائج مناظراته لم تكن مجرَّد سجلات فكريَّة، فهي شواهد تؤكِّد أنَّ الإسلام، عندما يُقدَّم في صورته الأصيلة، يمتلك قوَّة الإقناع التي تغيِّر مواقف كثيرين ممَّن كانوا يقفون بعيدًا عنه.

رابعًا: الواقعيَّة والبعد الإنساني في الحوار

 لم يكن الإمام الشيرازي ينظر إلى محاوريه بوصفهم خصومًا في ميدان الفكر. وكان يتعامل معهم باعتبارهم أشخاصًا يحملون هواجس وأسئلة حقيقيَّة، ويسعون -ولو بدرجات متفاوتة- إلى الوصول إلى معنى يُطمئن عقولهم وضمائرهم. ولذلك كان يقدِّم الحجَّة المنطقيَّة ضمن إطار أخلاقي راقٍ، يتَّسم بالاحترام، والصَّبر، والإنصات العميق. لقد أدرك أنَّ الحجَّة، مهما بلغت قوَّتها، لا تؤثِّر في نفسٍ مغلقة أو مستفَزَّة، وأنَّ الحوار الذي يخلو من البعد الإنساني يتحوَّل بسهولة إلى جدال عقيم.

 ويذكر في سياق حديثه عن مناظراته أنَّه لم يصادف -على امتداد عشرات اللقاءات- شخصًا يظهر عنادًا مطلقًا أو رفضًا مسبقًا لأي نقاش (4)؛ وإنَّما كان يجد ميلًا عامًّا لدى الجميع للسَّماع والتَّفكير، ما داموا يشعرون بأنَّهم يواجهون محاورًا متفهمًا يحترمهم ولا يستصغر قناعاتهم. وهذا الجو الهادئ الذي كان يخلقه، جعل محاوريه أكثر استعدادًا لإعادة النَّظر فيما يعتقدون، وأكثر انفتاحًا على احتمالات جديدة للمعرفة.

وهكذا تكوَّن أحد أهمِّ أسرار نجاحه: الجمع بين قوَّة البرهان وسموّ الخلق. فالأسلوب الإنساني الذي اتَّبعه لم يكن عنصرًا ثانويًا في منهجه. وكان جزءًا من بنيته الأساسية؛ لأنَّه يدرك أنَّ الهداية ثمرة تفاعل العقل والقلب معًا. ولذلك وجد كثير من مخاطبيه أنفسهم يقتربون من الإسلام بسبب الطَّريقة التي قدِّمت لهم بها الحقيقة؛ طريقة تُشعرهم بالكرامة، وتفتح أمامهم باب البحث من دون خوف أو إحراج.

خامسًا: مواجهة التَّعصب بالهدوء والحكمة

 من السِّمات البارزة في منهج السيد محمَّد الشيرازي في الحوار أنَّه لا يستجيب للتعصب بالصِّدام، ويواجهه بمنهج يقوم على الحكمة وضبط النَّفس. فحين يجد أمامه محاوِرًا متمسكًا برأيه على الرَّغم من تهافت حججه، لا ينزلق إلى دائرة السخريَّة أو التَّوتر الانفعالي؛ وإنَّما يترك المجال للمنطق كي يُظهر ضعف ذلك الرَّأي، مع الحفاظ على احترام الطَّرف المقابل. وقد تجلَّت هذه الروح في عدد من المواقف التي رواها بنفسه، "ومنها نقاشه مع الشَّاب الجامعي الذي أخذ يدافع بتشدد عن مؤلف منحرف مع وضوح الانحراف المنهجي في أفكاره (5)، أو في حواره مع ذلك الزيدي الذي ادّعى أنّ شرط الإمامة هو الخروج بالسيف (6)، أو في لقائه بأحد أتباع البهرة الذي تهرَّب من النقاش بزعم أنَّ الحوار الدِّيني (حرام) (7). وفي جميع هذه الحالات، تعامل المجدد الشيرازي مع من أمامه بوصفه طالبًا للمعرفة يحتاج إلى توجيه هادئ. ولذلك بقي محافظًا على توازنه النَّفسي، متمسكًا بأسلوب المعلِّم الذي يوضح الفكرة ولا يفرضها، ويعرض البرهان من دون أن يستفز مخاطبه. وهذا الأسلوب الهادئ سمح للحوار أن يستمر من دون أن يتعطل بسبب التوتر، وجعل الطَّرف الآخر يشعر بأنَّ الحوار فرصة للفهم لا معركة لإثبات الذَّات. وبذلك يُظهر هذا المنهج أنَّ الإمام الشيرازي كان ينظر إلى الحوار بوصفه عمليَّة تربويَّة قادرة على إحداث تحول في طريقة التَّفكير، أو على الأقل فتح نافذة للتَّأمل.

سادسًا: دعوته إلى تعميم ثقافة الحوار

 لم يقتصر دور الإمام الشيرازي على ممارسة الحوار بنفسه، "وتجاوز ذلك إلى الدَّعوة الصَّريحة لعلماء الدِّين والخطباء وطلبة العلوم الدِّينيَّة إلى الانخراط الفاعل في ميادين النِّقاش الفكري. فقد كان يرى أنَّ الإسلام، كي يحافظ على حضوره ويؤدِّي رسالته، يحتاج إلى أصوات تمتلك القدرة على تقديمه بعقليَّة منفتحة، ومنطق راسخ، وبرهان قادر على التَّعامل مع الأسئلة المعاصرة. وقد كان الحوار، في نظره ضرورة فكريَّة واجتماعيَّة تُعبّر عن مسؤولية الأمَّة في إيصال الحقيقة إلى من يبحث عنها"(8).

 ومن هذا المنطلق، اعتبر الإمام الشيرازي أنَّ الحوار يشكِّل أحد المسارات الأساسيَّة لانتشار الوعي الدِّيني؛ لأنَّه يفتح بابًا للتواصل مع العقول المتحيرة والقلوب الباحثة عن اليقين. فالحوار، كما يراه أداة لكشف الرُّؤى الخاطئة وإزالة الالتباسات، وتمكين الإنسان من النَّظر إلى الدِّين من زاوية عقليَّة ووجدانيَّة متوازنة. ولذلك كان يدعو إلى إعداد العلماء إعدادًا يمكِّنهم من خوض هذا المجال بثقة، حتَّى يتحوَّل الحوار إلى جسر يوصل نور الهداية، ويعيد تشكيل الوعي على أسس منطقيَّة راسخة.

المحور الثَّاني: نموذج تطبيقي

(إسلام دكتور أميركي؛ مدرس في كلية الطب ببغداد)

 قال الإمام الشيرازي: "كان من أصدقائنا من طلَّاب كليات جامعة بغداد ومن يحاور عن الإسلام، وذات يوم جاءني جماعة من طلَّاب كلية الطب، وقالوا: لنا أستاذ أميركي الجنسيَّة، استخدمته الحكومة العراقيَّة للتدريس، وهو رجل منصف، يتحرَّى الحقيقة، ويسأل كثيرًا عن الإسلام، وهو معجب بالحياة الإسلاميَّة.

 وطلبوا منِّي موعدًا لمقابلته –ولكنَّهم كانوا غير واثقين من اقتناعه بالإسلام- فعيَّنت لهم موعدًا قريبًا وأردفت قائلًا: لعلَّ الله يوفقه للإسلام، فضحكوا استغرابًا من أن يسلم أستاذ أميركي... وصادف موعده يوم عيد، ولما جاء كان في حشد من المهنئين في المجلس، فرحبت به، وبعد المجاملات سألته عن الأوضاع في بلاده، وأنَّه كيف وجد بغداد؟ وكيف وجد المسلمين؟

 انتهزت فرصة إطرائه وثنائه على بغداد والمسلمين، فقلت له: إنَّك لم ترَ شيئًا عن الإسلام والمسلمين، وإلَّا لكنت أكثر إعجابًا.

 قال: كيف؟ 

 قلت: مثلًا، إنَّ الإسلام يدفع إلى العلم دفعًا، حتَّى أنَّه يجعله فريضة على كلِّ مسلم ومسلمة(9).

وذكرت له فضل العلم وثوابه في الإسلام، وأنَّ الإسلام لم يدفع إلى العلم الدِّيني فقط –كما يزعم البعض- بل حثَّ على كلِّ علم، حتَّى أنَّ العلماء قالوا بوجوب تعلُّم الصناعات وجوبًا كفائيًا.

 وهذا الحديث أيضاً يؤيد هذا، حيث لم يذكر متعلّق العلم، وقال أهل البلاغة: (حذف المتعلّق يفيد العموم) فإنَّه (صلَّى الله عليه وآله) قال: "طلب العلم"، ولم يقل: "طلب العلم الدِّيني، أو طلب علم القرآن، أو طلب الهندسة". ويؤيد ذلك قول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "قيمَةُ كُلِّ امْرِءٍ ما يحُسْنِ" (10) وقبل قول الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله) وقول علي (عليه السلام)، قال القرآن الحكيم: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (11)؟ فهل يستوي من يعلم القرآن ومن لا يعلم؟ أم هل يستوي من يعلم الطب.. الهندسة.. علم الفلك.. علم الذرة.. التاريخ.. السياسة.. ومن لا يعلم؟ 

فأبدى الدكتور بما قلت له أشدَّ الإعجاب.

 ثمَّ قلت له: وأكثر من هذا فإنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كان يطلب من النَّاس أن يجوبوا أقطار الأرض، وآفاق السَّماء وأعماق البحار لأجل تحصيل العلم، فقد قال (صلَّى الله عليه وآله): "اطلُبوا العِلمَ ولَو بِالصِّينِ" (12) وأنتم تعلمون أنَّ السَّفر من المدينة إلى الصين في الأزمنة القديمة، كم كان شاقًا؟ وكم كان يتطلَّب من الزَّمان؟ سنة أو أكثر، ثمَّ الصين لم يكن فيها الإسلام، وإنَّما الأديان السَّابقة والعلوم الدنيويَّة، أليس هذا من أكبر الشَّواهد على أن الإسلام دين العلم، كل العلم، وأنَّه دين الحق؟ وإلَّا فلو كان باطلًا كان يحذر من العلم، كما إنَّك تجد أنَّ كلَّ باطل يحذر من النُّور ويركن إلى الظَّلام حتَّى لا ينكشف أمره.

 ثمَّ قلت: إنَّ أوَّل سور القرآن الحكيم (على ما يذهب إليه جماعة من العلماء) هو سورة (العلق) المفتتحة بقوله (تعالى): (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (13) وفي هذه السورة ذكر الله (سبحانه) (القراءة.. والكتابة) وهما أساس العلم.

 وأكثر من هذا فإنَّ النَّبي (صلَّى الله عليه وآله) قال: "لَو كَانَ العِلمُ فِي الثريَا لَنالَه رِجالٌ مِنْ فَارِس" (14) فلو فسَّرنا الفارس كلَّ غير عربي و(أنَّ العجم تقابل العرب) لكان في هذا إشارة إلى ارتياد البشر الفضاء، ووصولهم إلى الثريا، وهي نجمة معروفة أبعد من القمر ومن الشَّمس ومن السيارات كلها، ويمكن أن نقول: إنَّ كلام الرَّسول إنشاء في صيغة خبر، أي اذهبوا يا أهل العالم إلى الفضاء حتَّى تصلوا إلى الثريا، كما يقول علماء البلاغة: إذا قلت لولدي: تذهب غدا إلى المدرسة؟ كان معنى ذلك: اذهب غدًا إلى المدرسة، أو قال التَّاجر لصانعه: لو كان الربح في بلد العدو، لحصله ولدي، فإنَّ معناه تحريض الولد بتحصيل الرِّبح حتَّى من بلد العدو، وإنَّه قابل لهذا الأمر.. ولذا نحن ننتظر أن يأتي يوم، يصل إليه البشر إلى الثريا.

 وأنتم تعلمون أنَّ بعض الروحانيين من المسيحيين رفعوا عقيرتهم بالاعتراض على الرُّوس حينما أرسلوا أوَّل قمر لهم إلى الفضاء، بأنَّ هذا تدخل في ملكوت الله (تعالى)، بينما رحَّب بذلك علماء المسلمين، ورأوه تحقيقًا لما أخبره الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله). 

 وقلت: ثمَّ إنَّ عليًّا (عليه السلام) وهو تلميذ الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله) ووصيه والمسلمون يعتقدون بأنَّه الإمام الأعظم والخليفة الأكبر، قال على منبر الكوفة: "سَلُونِي عَنْ طُرُقِ السَّمَاوَاتِ فَإِنِّي أَعْلَمُ بِهَا مِنْ طُرُقِ الأَرْض"(15).

 ألا يدل ذلك على أنَّ الإمام كان يعلم ذلك، وأنَّه وصل إلى ما وصل إليه البشر بعد أربعة عشر قرنًا، في حال أن الفلاسفة، منذ خمسة آلاف سنة، كانوا يقولون باستحالة صعود الإنسان إلى الأفلاك؛ لأنَّ الخرق والالتيام محالان عندهم. 

 وقد كان كل كلمة تقع في قلب الدكتور أشد الوقع، وكانت لها وقعة الصَّاعقة، وقد أخذت الكلمات بمجامع قلبه، وظهرت آثار الدهشة على أسارير وجهه ومختلف حركاته. 

 ثمَّ قلت: وفي القرآن آية تفسر بارتياد الفضاء، والغوص في أعماق البحار، والدُّخول في أعماق الأرض، وهي قوله (سبحانه): (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) (16) ويفسرون السُّلطان بسلطان العلم.

 ودامت الجلسة أكثر من ساعة، وأخيرًا قلت له: ألا تقتنع بعد ذلك بأنَّ الإسلام دين سماوي، وأنَّ محمَّد بن عبد الله (صلَّى الله عليه وآله) نبي من عند الله (تعالى)؟ 

 فأطرق الدكتور برأسه متفكرًا، فاغتنمت عدم جوابه بالسلب، فقلت له، إنِّي لأرجو أن تسلم وتزيد على مفخرتك العلميَّة، مفخرة الإيمان، فقد قال (سبحانه): (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (17) وأنت بحمد الله مرتفع برفعة العلم، وبقي عليك أن ترتفع برفعة الإسلام والإيمان.

 ثم أكَّدت له أن لا ضير عليه من الإسلام، فلمحت عليه القلق والاضطراب، وأخذ يفكر كثيرًا.

 ثمَّ قال: وكيف اُسلم؟ 

 قلت: تقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله" وتضيف على ذلك: "أشهد أنَّ عليًّا وأولاده الأحد عشر أولياء الله وخلفاء الرسول".

 فأخذ يقول ذلك بلكنة مشوبة بالقلق والاندفاع –معًا- ثمَّ طلب من أحد أصدقائنا وكان يقوم له بدور المترجم، أن يعيِّن له ساعة في الأسبوع لتعليمه شرائع الإسلام ومزايا الدِّين، وهنأه الجميع على إسلامه، ووزعنا الحلويات بهذه المناسبة الطيِّبة وانفض الجميع على ترديد كلمة: الحمد لله ربِّ العالمين"(18).

تكشف هذه المناظرة مع الأستاذ الأميركي في كلية الطب ببغداد، عن حضورٍ للصفات التي اتَّسم بها منهج الإمام الشيرازي في الحوار. فمنذ اللحظة الأولى تصرَّف الإمام الشيرازي كمن يحمل رسالة، ويبحث عن نقطة الضَّوء التي يمكن أن يدخل منها إلى عقل السَّامع وقلبه. ولذلك بدأ الحوار من زاوية إنسانيَّة لطيفة، يسأله عن بلاده ورؤيته للعراق والمسلمين، فيتحوَّل هذا المدخل الهادئ إلى جسر يمهِّد لعرض الفكرة من دون صِدَام. وهذه البداية الإنسانيَّة تُجسِّد بدقَّة معنى الحوار الهادف الذي يرى في الطَّرف الآخر باحثًا عن الحقيقة، وهو ما صرَّح به الطلاب منذ البداية حين وصفوه بالرَّجل المنصف، فكان المجدد الشيرازي يقرأ حاجته قبل أن يسمع أسئلته.

 ثمَّ تظهر مرونة الإمام الشيرازي في استخدام الأساليب بوضوح لافت. فهو لا يقدِّم الإسلام بطريقة تقليديَّة جامدة؛ بل ينتقل من البرهان العقلي إلى الاستشهاد التاريخي، ومن النصوص القرآنيَّة إلى التَّجارب العلميَّة، ويستخدم بلاغة الإقناع لا بلاغة القهر. ويبيِّن له أنَّ الإسلام فتح الأفق لامتداد العقل الإنساني في كلِّ المجالات. وقد كان واضحًا أنَّه يرصد الجانب العلمي الأكاديمي عند الدكتور، فيخاطبه من الباب الذي يثق به: باب العلم والبحث والتَّجربة. وهنا تتجلَّى تلك الصفة الواضحة في أسلوب الإمام، تجنب الزاوية الحادة، فلم يُحرجه بالسؤال، ولم يعترض على عقيدته صراحة، وجعل العلم نفسه بوَّابة الدخول إلى الإسلام.

 وتظهر قوَّة الحجَّة وثقة الفكر الإسلامي حين يعرض النُّصوص القرآنيَّة والنَّبويّة بلغة رصينة، ويُظهر اتِّساع أفق الإسلام إلى مستوى يجعل النَّص الدِّيني منسجمًا مع الاكتشاف العلمي الحديث. ولم يكن الإمام الشيرازي بحاجة إلى الهجوم على عقائد الدكتور أو التشكيك بثقافته، واكتفى بأن يضع أمامه صورة الإسلام كما هي، فيُدرك السامع أنَّ النظام الفكري للإسلام متماسك على نحو يجعل تفكيكه أمرًا عسيرًا. وكل كلمة قالها كانت تُصيب في قلب الرجل هدفًا جديدًا، حتَّى ظهر التَّأثر على ملامحه وتغيَّر صوته وحركاته، وهو ما أكَّد أنَ الحجَّة حين تتصف بالقوَّة والصفاء، تحمل في ذاتها القدرة على التَّغيير.

 أما البعد الإنساني في الحوار فيتجلَّى في كلِّ سطر من هذه المناظرة. فالإمام الشيرازي تعامل مع الدكتور بوصفه إنسانًا يحمل هواجس وقلقًا، وينتظر كلمة تُطمئنه. وحين لاحظ اضطرابه بعد دعوته إلى الإسلام، لم يضغط عليه، ولم يكرر الطلب. وهنا تظهر خصوصية منهج الإمام الشيرازي: إنَّه يدرك أنَّ حقيقة الهداية تحتاج إلى قلب مطمئن. ولهذا رافقه بحنانٍ يزيل الخوف من التَّغيير.

وفي لحظة مواجهة التردد، تتجلى مواجهة التعصب بالهدوء والحكمة. فالدكتور –وهو القادم من جهة دينيَّة وفكريَّة مختلفة– كان يستطيع بسهولة أن يناقش أو يعارض، لكن الإمام لم يمنحه سببًا للخشونة أو للتوتر. كان هادئًا، متزنًا، يقدّم الفكرة من دون ضجيج. وحين سأل الدكتور: "وكيف أسلم؟"، لم يتعامل الإمام مع السؤال كتحصيل حاصل؛ وإنَّما كخطوة دقيقة تحتاج إلى عناية. وهذا الهدوء هو الذي جعل الرَّجل يتجاوز حاجز الخوف، ويلفظ الشهادتين بصوت مشوب بالقلق والاندفاع في لحظة واحدة، وكأنَّ البرهان العقلي قد فتح له الباب، واللطف الأخلاقي مهَّد له الطَّريق.

وأخيرًا تتجلَّى روح الدعوة إلى تعميم ثقافة الحوار حين يتحول المجلس كله بعد إسلام الرَّجل إلى مشهد إنساني جميل: التهاني، وتوزيع الحلوى، وتحديد موعد أسبوعي لتعليم شرائع الإسلام. فالحوار رسالة عمليَّة تُظهر للطلاب وللحاضرين أنَّ الهداية ثمرة لمجلس هادئ، لا لصراع فكري. إنَّها رسالة تقول: إنَّ العالم الدِّيني حين يحمل نفسه مسؤولية الحوار، يفتح بابًا للمعرفة قد يتَّسع لقلوب كثيرة.

وبذلك نستنتج أنَّ تجربة الإمام الشيرازي في مجال المناظرة تقدِّم نموذجًا رفيع المستوى للعالم الربَّاني الذي يجمع بين اتِّساع المعرفة ورقة الأسلوب. فقد كانت حجته دائمًا واضحة، ومنطقه متينًا، وأسلوبه مشبعًا بالرَّحمة واللطف. ولم يكن الحوار عنده مجرَّد صراع بين أديان أو منافسة بين أفكار؛ وإنَّما كان جسرًا إنسانيًّا يربط بين الباحثين عن الحقيقة، ويتيح لهم مساحة للتفكر والتأمل بعيدًا عن الانفعال أو الاستفزاز.

 كذلك، تدلُّ أساليبه على منهجيَّة يمكن تحويلها إلى نموذج تربوي وعلمي، يصلح ليكون مادة تعليميَّة لطلَّاب الحوزة والدعاة؛ لأنَّها قائمة على أسس تتوافق مع المبادئ القرآنيَّة التي توجه الدعاة إلى الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة، وتحثهم على الجدال بالتي هي أحسن.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

.............................................

الهوامش:

1. ينظر: كيف ولماذا أسلموا: ص5.

2. ينظر: المصدر نفسه.

3. ينظر المصدر نفسه: ص8.

4. ينظر المصدر نفسه.

5. ينظر المصدر نفسه: ص6. 

6. ينظر المصدر نفسه: ص6.

7. ينظر المصدر نفسه: ص7.

8. ينظر المصدر نفسه: ص8.

9. إشارة إلى الحديث النبوي الشريف، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ، أَلَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ بُغَاةَ الْعِلْمِ". الكافي (دار الحديث): ج1، ص 72. 

10. من لا يحضره الفقيه: ج4، ص389.

11. سورة الزمر/ الآية: 9.

12. وسائل الشيعة: ج18، ص14.

13. سورة العلق/ الآيات: 1-4.

14. بحار الأنوار: ج1، ص195.

15. المصدر نفسه: ج39، ص108.

16. سورة الرحمن/ الآية: 22.

17. سورة المجادلة/ الآية: 11.

18. كيف ولماذا أسلموا: ص9.

ذات صلة

التركيب المعنوي في منهج الكتاب والعترةمشاريعنا: باب غير قابل للغلقعلم اقتصاد المعنى: بين القلم والممحاةماذا يأتي بعد محور المقاومة؟العراق وإنتاج الزعيم المستبد: قراءة حضارية