التركيب المعنوي في منهج الكتاب والعترة
م.م. سارة علي هادي العبودي
2025-12-14 04:08
المقدمة
التركيب القرآني يمثّل مخزوناً دلالياً عميقاً للمفردة القرآنية، فهي لا يختزل في معنى واحد، بل تتنوّع معانيه وتفسيراته تبعاً للسياق والنسق والحدث والقرائن المختلفة. ومنذ عصر النزول بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله ببيان دلالات بعض الألفاظ بحسب الموقف، ثم واصل أئمّة أهل البيت عليهم السلام هذا المنهج، فهم عدل القرآن وتراجمة الوحي والمبيّنون لأسراره وخفاياه وعلومه.
إن الدلالة القرآنية تشمل تفسير اللفظة والعبارة والآية والسورة، ولا يكون مَن يتصدّى لبيانها قادراً على ذلك إلا إذا كان متمكّناً من علوم اللغة: نحو وصرف وصوت وأدب وبلاغة… إضافة إلى علوم أخرى كثيرة، ليتمكّن من بيان المعنى والقصد والجانب الجمالي للنص في آن واحد. ومن هذا الأساس يمكن القول إن الدلالة القرآنية تُستخلص من الأخبار الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، بوصفهم الجهة المأمونة التي ترفع اللبس وتكشف المجمل وتوضح المراد، عملاً بحديث الثقلين، وبحديث الغدير الذي يصرّح بأن تفسير القرآن وبيان زواجره إنما يكون عند من قرنه النبي بنفسه.
ومن هنا تَشَكَّل منهج الكتاب والعترة الذي يُعدّ منهجاً معرفياً استدلالياً هو الأقرب للوصول إلى حمولة الدلالة القرآنية، اعتماداً على جهود العلماء في نقل الروايات وتحقيقها، ممّا أتاح استخلاص عدد كبير من الدلالات العميقة للمفردة القرآنية.
كما أن علم الدلالة اهتم بدراسة العوامل الخارجية المؤثّرة في المعنى، سواء كانت إنسانية أو اجتماعية أو نفسية أو عاطفية، وما تتركه من أثر في انكماش بعض الألفاظ أو اتساعها أو تغيّر رقيّها، إضافة إلى تأثير القرائن المحيطة بالمفردة من سياق ونسق وإيحاء وصرف ونحو ومعجم.
وهذه القرائن تتداخل فيما بينها لتحديد الدلالة النهائية، بحيث تعطي كلّ قرينة معنى قد يختلف عن الأخرى، وهو ما يدلّ على الإبداع البلاغي للنص القرآني، وقدرته على إثارة المعاني بأسلوب مؤثّر يرغب المتلقي أو يرهبه، ويدفعه للبحث عن أسرار النص بعد أن يوقظه من الغفلة.
إن اختلاف المدلول للدال الواحد لا يعني قصوراً في الفهم، فقد تكون هناك دلالة صريحة وأخرى ضمنية، وقرائن خفية أشار إليها الإمام الصادق عليه السلام بقوله: «أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم». فهناك مقامات مختلفة لطرح الدلالة: مقام التقية، مقام بيان الحقيقة، مقام حال المخاطَب وقدر تحمله للمعنى. ولذا كان لكل آية ظهر وبطن، ولكل مفردة مستويات متعددة من الدلالة.
وعليه، يتبيّن أن الدلالة القرآنية لا يمكن حصرها أو تقييدها باتجاه واحد، فالمفردة الواحدة في القرآن الكريم هي خزّان دلالي ثري، كلما تعمّق الباحث فيها وجد معاني جمالية وشرعية وعقائدية وأخلاقية جديدة. وتساعد القرائن المختلفة على تقريب الفهم اللغوي، لتكون نقطة التقاء مع ما ورد في الروايات التفسيرية من معانٍ عالية ودقيقة.
ومن الجوانب المهمّة أيضاً أنّ الدلالة القرآنية ليست دلالة لغوية فقط، بل هي دلالة معرفية قيمية تُسهم في بناء المنظومة الأخلاقية والاجتماعية والعقائدية للمجتمع الإسلامي. فالمفردة القرآنية لا تُقدَّم للمتلقي لتعريف معنى لغوي فحسب، بل لتؤدي دوراً وظيفياً في صياغة الوعي وتوجيه السلوك، وهو ما يجعل عملية فهمها مسؤولية علمية وروحية في الوقت ذاته.
ويُضاف إلى ذلك أنّ الباحث في الدلالة القرآنية يحتاج إلى الإحاطة بما يسمّى بشبكة العلاقات المعجمية، مثل: الترادف، والتضاد، والمشترك اللفظي، والتقابل البنيوي داخل السورة. فهذه العلاقات تُعدّ مفاتيح مهمّة لاستنباط المعنى، إذ قد تتسع دلالة المفردة من خلال مراعاة مقابلاتها في السورة نفسها أو في سور أخرى. وهذا العمق في البناء اللغوي يجعل القرآن الكريم قادراً على حمل معانٍ كثيرة ضمن ألفاظ قليلة، وهو وجه من وجوه بلاغة الإيجاز والإعجاز.
ويبرز أيضاً في الدلالة القرآنية جانب التفاعل بين النص والمتلقي؛ فالمعنى لا يُستخرج فقط من النصّ ذاته، بل من النصّ مع قارئه، شرط أن يكون القارئ مؤهّلاً بالعلوم والقرائن الصحيحة. فالقرآن يهدي بقدر ما يتفاعل الإنسان معه، وكلّما ازداد القارئ علماً وبصيرةً واطلاعاً على تفسير العترة الطاهرة، اتسع فهمه للدلالة، وارتقى إلى مستوى أعلى من إدراك المعاني الباطنة التي لا يدركها غيره. وهذا لا يعني نسبية المعنى، بل يعني أنّ للنص طبقات من الفهم تتناسب مع درجات الوعي والعلم.
وقد أكّد علماء التفسير أن القرآن يجمع بين الثبات والمرونة في دلالته، الثبات في أصل المعنى المحفوظ عن أهل البيت عليهم السلام، والمرونة في قابلية المفردة لاستيعاب مستويات متعددة من الفهم، بما يتناسب مع تغيّر العصور وتطوّر العلوم، مع بقاء الخط العام للمعنى ضمن الضوابط الشرعية. وهذه الخاصيّة هي التي جعلت القرآن الكريم صالحاً لكل زمان ومكان، وقادراً على الإلهام والإرشاد لكل جيل.
ولا يمكن إغفال دور البعد العقدي في تحديد الدلالة القرآنية؛ فالمعاني لا تُفهم على نحوٍ صحيح من دون اعتماد المرجعية التي عيّنها الرسول صلى الله عليه وآله للأمّة. ولهذا كان تفسير أهل البيت عليهم السلام مرجعاً أساسياً، لأنّهم أعرف الناس بكتاب الله، وأدرى بمواقع التنزيل، ومقامات الخطاب، وأسباب الورود، ورقائق المعاني التي لا يدركها غيرهم. وقد نقلت الروايات عنهم نماذج كثيرة من التفسير الباطني والظاهر، مما يكشف عن مدى غنى اللفظة القرآنية واتساعها.
الخاتمة
ومن هنا يتضح أنّ الدلالة القرآنية مشروع بحث لا نهاية له؛ فكلّ بحث يفتح أفقاً جديداً، وكلّ مفردة تكشف بعداً غير متوقّع عند التعمّق فيها. ولذلك قال العلماء: إن القرآن لا يُملّ ولا يُنقضي عجائبه، لأنّ معانيه تتجدّد بتجدّد النظر فيه، وتتكشّف كلما ازداد الباحث علماً وتقوى وبصيرة.