غياب الذوق في المشروعات المنفذة: أزمة تذوّق لا أزمة موارد

مصطفى ملا هذال

2025-09-27 04:49

كثير من المشروعات والابنية توحي لمضمونها او للخدمة التي تقدمها، ويراعى بذلك التصميم الجمالي والذوق الرفيع في جميع المراحل لا سيما مرحلة الانهاءات، لكن ما نلاحظه في الفترات الأخيرة هو عدم مراعاة هذه الجزئية التي تعد من الأولويات المهمة في عصر الحداثة.

من يتجول في روما العاصمة الإيطالية او موسكو الروسية يفرق بين نمطين معماريين، يعودان بطبيعة الحال الى تاريخ البلدين من الناحية العمرانية والفنية والهندسية، وربما يأخذ الموضوع قدرا من الأهمية في بعض البلدان العربية او الإقليمية التي تحرص على المزاوجة بين الإرث والتقدم العمراني.

اما في العراق فكثيرا من المشروعات التي تُنفذ في مدننا اليوم تكشف عن فجوة واضحة بين الإرث الثقافي والانشائي وما يُنفذ على أرض الواقع.

 فبينما يُفترض أن تكون هذه المشروعات انعكاسا للذوق العام وروح العصر، نجدها في كثير من الأحيان أقرب إلى أعمال إنشائية بلا روح، غلبت عليها الحسابات السريعة والقرارات المتعجلة، لتُنتج بيئات باردة، لا تُحاكي لا الماضي ولا الحاضر.

في العراق الموارد البشرية والمادية متوافرة بشكل قد يفوق العديد من دول المنطقة، إذا اين المشكلة؟ المشكلة لا تكمن في قلة الموارد أو ضعف الإمكانات التقنية بقدر ما تكمن في غياب الرؤية الجمالية والفكر التخطيطي المتكامل، فما قيمة أن تُشيد أبنية ضخمة، أو تُفتَح شوارع واسعة، أو تُنشأ حدائق عامة، إذا كانت النتيجة في النهاية مشاريع بلا هوية، لا تُراعي الجانب البصري، ولا تحمل أي نفس معاصر يليق بروح الزمن؟

لقد باتت كثير من المشاريع المنفذة في البنى التحتية أو المباني العامة تعكس عقلية تقليدية تُقاس بالمسطرة والميزان، لكنها تفتقر إلى التذوّق الفني والجمالي، فتجد الألوان متنافرة، والواجهات باهتة، والطرز المعمارية لا تنتمي لمدارس واضحة، وكأنها وُلدت في فراغ فكري، وهذا ما يجعلها مشاريع منجزة من الناحية الهندسية، لكنها ميتة من الناحية البصرية.

المسؤول العراقي ينظر الى الأبنية الحكومية والاحياء السكنية على انها مجرد مساحات او أماكن تؤدي وظيفة إدارية او امنية، لا يجب الاعتناء بها وجعلها شكل الهوية العمرانية للبلد وذاكرته الجماعية، وبذلك فإن أي مشروع جديد يجب أن يضيف لبنة إلى هذه الهوية، لا أن يطمسها أو يُشوّهها.

 في مدن كثيرة بالعالم، تُستحضر معايير التصميم الحضري الحديثة التي تراعي الانسجام مع البيئة، وتوظيف التكنولوجيا، وإضفاء لمسة إبداعية تترك أثرا طويل الأمد، بينما لا تزال الرؤية لدينا محصورة في الاغلب في إنجاز المشروع كغاية بحد ذاتها، بعيدا عن التفكير في أثره الجمالي والرمزي.

ولا يقتصر غياب الذوق على المجال المعماري وحده، بل يمتد إلى التشجير والفرش الحضري والإعلانات واللوحات، حيث تتكدس العناصر بشكل عشوائي، دون رؤية موحدة، وهذه العشوائية لا تعبر عن العصر الحالي الذي يقوم على الدقة والتجانس والانسجام، بل تعكس غياب التخطيط وتراخي الرقابة.

ولعل السؤال الجوهري او الرئيس الذي يحضر هنا لماذا نفتقر إلى هذا الحس؟

الجواب يتوزع على أكثر من عامل:

أولها ضعف ثقافة التصميم لدى صناع القرار، وثانيها غياب الخبرات الاستشارية المؤهلة في مجال التخطيط الحضري والفنون البصرية، وثالثها انشغال الجهات المنفذة بالسرعة والتكلفة على حساب الجودة والهوية، وبهذا يصبح المشروع منجزا على الورق، لكنه مرفوض ضمنيا من المجتمع، لأنه لا يلامس حسه الجمالي ولا طموحه لحياة عصرية.

الحل يبدأ من إعادة الاعتبار للذوق العام كمعيار من معايير نجاح أي مشروع، اذ يجب أن تكون هناك لجان مختصة تضم معماريين وفنانين ومخططين حضريين، يعملون إلى جانب المهندسين والمقاولين، لضمان أن يكون الناتج متكاملا بين الجانب الوظيفي والجمالي. 

الخلاصة أن غياب الحس الذوقي في مشاريعنا ليس مجرد نقص في التفاصيل، بل هو خلل في الفلسفة التخطيطية ذاتها، وإن أردنا وسعينا لإيجاد مستقبل أفضل لمدننا، علينا أن نؤمن بأن الذوق ليس ترفا، بل شرطا أساسا لأي مشروع يطمح أن يعيش في ذاكرة الناس، لا أن يُدفن في صمت بعد افتتاحه.

ذات صلة

الوعي بالزمن.. تثمين للذات وتقدير للعمرإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبدهالتثقيف الانتخابي المفقودعامٌ على حربٍ لم تنته‏الانتخابات البرلمانية العراقية.. صندوق مثقل بالتوازنات