الولاء للوطن أم الولاء للحزب؟ مفارقة تكشف جوهر الأزمة العراقية

مصطفى ملا هذال

2025-09-22 04:40

جميع شعارات المرشحين تصب في خدمة المواطن وتلتقي عند المصلحة الوطنية، وفي كل انتخابات يكون هنالك نوع من الاستنساخ للأقوال السابقة، لكن ومع مرور الوقت يتضح ان المرشح يقدم فروض الطاعة والولاء لرئيس الحزب او الكتلة النيابية بعيدا عن الوعود التي قدمها للجمهور ومخالفا للقسم الذي اداه امام الملايين.

ولعلنا هنا نحاول ان نعرف ان الولاء الرئيس يجب ان يكون للوطن ام للحزب؟

في العراق ربما يبقى الشيء الوحيد والمعروف من قبل الناخبين، هو ان المرشحين او معظمهم يأخذون بالابتعاد شيئا فشيء عن القاعدة الجماهيرية التي ارتكز عليها وسيبني عليها مستقبله، -القاعدة الجماهيرية- لكنهم قبل الابعاد وفي أيام الحاجة الفعلية يختلفون تماما.

يرفعون شعار "خدمة الوطن والمواطن"، ويتحدثون عن مشاريع إصلاحية كبرى، وعن حرصهم على أبناء دوائرهم الانتخابية، غير أن التجربة العملية سرعان ما تفضح ازدواجية الخطاب، إذ يتحول معظمهم بعد الوصول إلى البرلمان إلى مجرد أدوات بيد رؤساء الكتل والأحزاب، وتصبح الأولوية لمصالح حزبية ضيقة لا تمت بصلة إلى معاناة الشارع العراقي.

من المنطقي والمعمول فيه في عالم السياسة او على الأقل الذي ينبغي ان يكون، هو الولاء للوطن في الفهم السياسي الحديث يعني أن تكون قرارات النائب أو الوزير خاضعة للمصلحة الوطنية العليا، أي المواطن والدولة معا، لكن في العراق سرعان ما يتبخر هذا المبدأ تحت ضغط نظام المحاصصة.

 فكم من نائب بدأ مسيرته مؤكدا استقلاليته، ثم وجد نفسه مجبرا على الاصطفاف الحزبي لضمان بقائه في المشهد؟

وعلى سبيل المثال، في انتخابات 2018، برز عدد من المرشحين المستقلين الذين رفعوا شعار "العراق أولاً"، لكن بعد دخولهم البرلمان، انضوى معظمهم ضمن كتل كبيرة مثل "الفتح" أو "سائرون"، ليضمنوا لأنفسهم مساحة نفوذ وحماية سياسية، وهو ما أثار سخط الناخبين الذين صوتوا لهم باعتبارهم أصواتا وطنية بديلة.

وحين الحديث عن هذا الملف لا يعني ان ينسلخ المرشح او عضو البرلمان عن قائمته او حزبه الذي رشحه، ولا أحد ينكر أن الأحزاب تمثل جزءا أساسيا من العملية الديمقراطية.

 لكن في الحالة العراقية، تحوّل الولاء للحزب إلى تقديس لرئيس الكتلة أكثر من التزام ببرنامج سياسي، فالقرارات المصيرية كاختيار رئيس الوزراء إلى تمرير القوانين الاقتصادية، غالبا ما تُتخذ خلف الأبواب المغلقة في اجتماعات حزبية، ثم يُجبر النواب على التصويت بما يمليه عليهم زعيمهم، بغض النظر عن قناعاتهم أو مصالح ناخبيهم.

خذ مثالا آخرا، ففي أزمة تشكيل الحكومة بعد انتخابات 2021، انقسم النواب على أساس حزبي بحت، وليس على أساس ما يخدم البلاد، وبدا واضحا أن النواب الذين دخلوا البرلمان بشعارات وطنية، رضخوا في النهاية لإملاءات قادة كتلهم، خشية الإقصاء أو فقدان الامتيازات.

ولهذا الولاء المطلق لرئيس الكتلة او الحزب عدة أسباب منها:

التمويل الانتخابي الذي يفتقر اليه معظم المرشحين الذين يسعون للوصول إلى البرلمان، ولا يمكن ان يصلون لولا بفضل الدعم المالي الهائل من أحزابهم، وبهذا يتحول الدعم إلى دين سياسي يتوجب سداده لاحقا عبر الولاء المطلق.

 ومن الأسباب الأخرى، هي الخوف من الإقصاء، ذلك ان أي نائب يخرج عن طاعة الكتلة، عليه ان يواجه داء التهميش او الاقصاء ويبحث عن علاج لهذه الآفة التي اجتاحت العملية السياسية برمتها، وتجربة بعض النواب الذين حاولوا الانسحاب من كتلهم خير شاهد، إذ وجدوا أنفسهم خارج اللعبة السياسية.

ومن آثار هذه العادة او الطريقة السياسية هو فقدان الثقة الشعبية، الذي اتضح بشكل لا يقبل الشك في انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة (أقل من 40%)، اذ تعكس هذه النسبة المتدنية يأس الشارع من ممثلين يغيرون جلدهم بمجرد دخول البرلمان.

كذلك يمكن لهذا الحال ان يساعد على استمرار المحاصصة، فالعراق لم يتمكن منذ 2003 من تشكيل حكومة “وطنية” بالمعنى الحقيقي، بل حكومات توافقية" هدفها تقاسم الغنائم، أضف الى ذلك تآكل الهوية الوطنية، وحين يصبح الحزب أو الطائفة هوية بديلة عن الوطن، تتحول الدولة إلى ساحة صراع دائم بين ولاءات متناحرة.

المعضلة العراقية ليست في سوء نية الأفراد فقط، بل في طبيعة النظام السياسي نفسه، الذي يفرض على النائب أن يختار بين الولاء للوطن والولاء للحزب، وغالبا ما يختار الثاني لأنه أكثر واقعية في بيئة المحاصصة.

لكن من دون إعادة الاعتبار لفكرة "الممثل الوطني" الذي يعمل خارج الإملاءات الحزبية الضيقة، ستبقى العملية السياسية أسيرة لأزمة الولاء، والإصلاح الحقيقي يبدأ عندما يُعاد تعريف النائب والوزير باعتبارهما خادمين للوطن، لا مجرد جنود في جيوش الأحزاب.

ذات صلة

الاقتداء بالعظماءهل وصل التعاون العسكري الحذر بين الصين وإيران إلى نقطة تحول؟بريطانيا تعترف رسميا بدولة فلسطينية.. فهل يغفر لها التاريخ؟نهر الفرات يهدد بتقسيم سورياقلق متزايد وتفاؤل مشروط.. كيف ينظر الأمريكيون إلى الذكاء الاصطناعي؟