مدننا التي لا يريدون أن تُرى

مصطفى ملا هذال

2025-07-27 04:40

مدينة تتجاوز الجغرافيا والزمان. بهذه العبارات، يصف أحد المحافظين مدينته التي يعتقد بتميّزها عن الأخريات، ويحاول أن يُسلّط الأضواء على ما وصلت إليه من حالة إعمار وبناء وازدهار اقتصادي وخدمي وغيرها من الجوانب، الأمر الذي جعله يتفاخر بها في جميع المحافل والمناسبات.

هل ثمّة مدينة أخرى لا يريد هذا المسؤول أن نراها؟

ثمّة مناطق من هذه المدينة لا يريد المسؤول لأي شخص وافد من خارج المدينة أن يراها. فهو لا يريد أن تُشاهد كميات النفايات المكدّسة في المناطق العشوائية أو الأحياء البعيدة. لماذا؟

لأن من يلاحظ مثل هذه المناظر لم يعد مُنبهرًا بالمدينة الفاضلة كما صوّرها المسؤول عنها، ومن يَنبهر بها مجددًا يصبح انبهارًا ساذجًا ليس إلا؛ ذلك أن العين رأت ما لم تتوقّعه، في ظل الهالة الإعلامية وطريقة التسويق اليومي والممنهج لتضخيم الإنجاز ووضعه بغير مكانته.

لا يزال في مدننا ثمّة خريطة غير رسمية تُرسم بعناية، لكن لا بالخرائط ولا بالقوانين، بل برغبات المسؤولين ونزعتهم لتلميع الصورة، إذ توجد مناطق تُخفى عن الأنظار، وأخرى تُسلّط عليها الأضواء، وكأنها تمثّل المدينة بكاملها، لكن الواقع أكثر تعقيدًا.

في كل محافظة هناك الوجه الجميل الذي يُعتنى به ويُغدق عليه بالخدمات، حيث تُزرع الحدائق، وتُرصف الشوارع، وتُضاء الليالي.

هذه المناطق غالبًا ما تكون محاذية لمقارّ الحكومة، أو تقع على طرق الزوّار والوفود الرسمية، أو تُستخدم خلفية لزيارات المسؤولين الميدانية. إنها "الواجهة"، حيث يحرص المسؤول أن يبدو ناجحًا ومُنجزًا.

لكن على الطرف الآخر، توجد مناطق تُعاني من الإهمال المُزمن: شوارع طينية، صرف صحي منعدم، مدارس مُتهالكة، ومراكز صحية بلا خدمات. هذه الأحياء لا تدخل في جدول زيارات المسؤول، ولا تُعرض على شاشات الإعلام الرسمي، رغم أنها تمثّل الكتلة السكانية الأكبر، وقد تفصل أمتار قليلة بين رصيف مُبلّط وحديقة مُعتنى بها، وحارة تغرق في الظلام.

ما يحدث هو شكل من أشكال الخداع البصري. المسؤول لا يُخفي المدينة كلها، بل يُظهر الجزء الذي يُريدك أن تراه فقط، وفي الوقت نفسه نجده إنه لا يُنكر الفقر، بل يختار تجاهله، ويطلب منك أن تُصدّق أن ما تُعرضه الصور الرسمية هو الحقيقة الكاملة.

في بعض المدن العراقية، تتركز الخدمات على مداخل المدينة، وعلى الطرق المؤدية إلى المطار أو العتبات المقدّسة، باعتبارها واجهة للزائرين، أما الأحياء السكنية الداخلية، فتعيش في عالم آخر.

المسؤول هنا لا يرى أن نجاحه يُقاس بعدد الشوارع المعبّدة في العشوائيات، أو عدد العوائل التي خرجت من دائرة الحرمان، بل يُقاس بما يتركه من انطباع جيد لدى الزائر الرسمي أو الإعلامي.

والمشكلة لا تكمن فقط في سوء التوزيع بل في نية الإخفاء، فالإهمال قد يكون نتيجة ضعف إمكانيات أو سوء تخطيط، لكن حين يتعمّد المسؤول تجاهل مناطق بعينها ويُضخ الأموال في مناطق أخرى لإظهار منطقة من المناطق بحلّة مغايرة، مستخدمًا مكياجه الخدمي، فإننا هنا أمام قرار سياسي لا تنموي.

فالمواطن يدفع ثمن هذا التجميل الانتقائي، لأنه لا يعيش في الواجهة، بل في الأعماق، يرى التناقض يوميًا، يرى شارعين متجاورين، أحدهما مرصوف والآخر مُدمّر، يرى بناية تُرمّم باستمرار لأنها تُطل على شارع رسمي، ومدرسة مُتهالكة لأنها في حي شعبي.

الحل لا يكمن في المساواة الشكلية فقط، بل في الاعتراف أولًا بوجود مناطق "مخفية" عمدًا، وثانيًا يجب أن تُربط موازنات الخدمات بعدد السكان الفعلي ودرجة الحاجة، لا بحسابات التلميع السياسي.

وفي النهاية، ليس المطلوب أن يتوقف المسؤول عن تجميل مداخل المدن، بل أن يتوقف عن الكذب البصري، فالمواطن ليس أعمى، لكنه يُجبر أحيانًا على الصمت في مدينة لا يُراد له أن يرى منها إلا ما يُريد المسؤول.

ذات صلة

الفجوة الكهربائية في العراق.. من أزمة مزمنة الى قطاع قائداحذر الباطل حين يبتسم!موت الصحفيين في غزة جوعاً.. انهيار قواعد القانون الدوليسلعنة التعليم أم أنسنته؟فرنسا ستعترف بالدولة الفلسطينية.. هل لذلك أهمية!