الايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي
د. لطيف القصاب
2024-11-21 05:31
يختلف الحزبان الأمريكيان الديمقراطي والجمهوري أحدهما عن الآخر من عدة وجوه سياسية واقتصادية واجتماعية، بعضها معروف بين الناس على نطاق واسع وبعضها الآخر لا يحظى بذات القدر من الشهرة، ومن الفروق الشهيرة التي تميّز الحزب الجمهوري عن ندّه الديمقراطي على الصعيد الاجتماعي هو الطابع المحافظ لنظرة الجمهوريين تجاه النظام العائلي، وبالخصوص تشجيعهم للزواج بصورته التقليدية، ورفضهم للإجهاض، وهي الأطروحة التي يناوؤها الديمقراطيون، فهل يفسّر هذا الاختلاف وحده فوز الحزب الجمهوري الكاسح في الانتخابات الأخيرة؟
الجواب على هذا السؤال سيكون بالنفي حتما، فملف (الأسرة المحافظة) جرى استعماله في حملة ترامب الانتخابية بالتوازي مع كثير من ملفات الاختلاف الأخرى، ابتداءً من ملف الاقتصاد، ومرورا بلمفات الهجرة، والسياسة الخارجية وليس انتهاءً بملف المناخ، وكان الأسلوب المتبع في توصيل رسائل الملفات المذكورة هو أسلوب شعبوي أو ديماغوجي قائم على جذب الجماهير، وإقناعهم بأن مصلحتهم هي مصلحة الحزب الجمهوري، أو مصلحة الزعيم ترامب نفسه.
وأغلب الظن أن هذا الأسلوب له حصة كبيرة في تحقيق الحزب الجمهوري لهذا الفوز الكاسح على خصمه الجمهوري، أو انتصار ترامب على غريميه جو بايدن وكمالا هارس، فهل سنرى في المستقبل القريب اعتماد الشعبوية في حكم أمريكا بوصفها طريقة للحكم أو حتى حلولها محل الليبرالية كآيدلوجية بديلة؟
تبدو الشعبوية ببساطة كطريقة مقنعة لعرض الأفكار، وكسب التأييد بصورة تحاكي غالبا طريقة رجل الشارع الذي لا يتورع عن توظيف أقصى درجات البذاءة في كلامه ضد خصومه، وهي من منظور تاريخي حديث تمثّل تعبيرا عن اتجاه سياسي ظهر في روسيا القيصرية اولا، وبحسب الباحث المغربي (حسن اوريد) فلو لم توجد الشعبوية في روسيا لم توجد البلشفية، كما أن الشعبوية من منظور اجتماعي تخضع لمبدأ العرض والطلب الشعبي، بمعنى أن الشعب هو من يستدعيها لساحة الحدث السياسي أحيانا، وذلك حين تبلغ أزماته الاجتماعية والاقتصادية ذروتها الحادة.
إن مفهوم الشعبوية لا ينحصر في إطلاق الخطاب الموجه للغرائز، ومنها غريزة العنصرية، بل يتجاوزه إلى التحريض على المؤسسات القائمة، وكراهية النخب الحاكمة أو المتحكمة في البلاد، ومن هنا فإن بالإمكان النظر إلى الشعبوية بوصفها آيدلوجية مكتملة لا مجرد أسلوب للحكم أو الحصول عليه، ذلك أن الشعبوية التي يعبر عنها بلفظ فضفاض:populism) (تستبطن معنى مراوغا قابلا لاختزال أكثر الأفكار السياسية إمعانا بالتحيّز والاستبداد ، من ذلك الأوليغارشية التي يؤمن معتنقوها بأن الناس غير المتساوين في مجال أو جانب يجب أن يكونوا غير متساويين في كل شيء، أو الفاشية القائمة على الطاعة المطلقة للزعيم، وعلى القمع التام للمعارضين، أو النازية التي تجمع إلى جانب دلالات الفاشية تبنيها لفكرة الشعب النقي وكراهيتها لليبرالية والنظام الديمقراطي الحر، وكل هذه الأوصاف المذكورة آنفا يمكن لها التشكّل والوجود تحت عباءة الشعبوية.
إن بالإمكان دائما العثور على أمثلة للقادة الشعبويين البارزين في أزمنة قريبة وأمكنة عديدة من العالم: أدولف هتلر في ألمانيا، وموسوليني في إيطاليا، وجان ماري لوبان في فرنسا، وجايير بولسونارو في البرازيل، وصدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا، ودونالد ترامب في أمريكا ولعل الأخير هو أكثر شخص في العالم مرشح لتأسيس شعبوية فريدة من نوعها تحل محل أعظم ديمقراطية في العصر الحديث!
تنطوي نفس الشعبوي عادةً على النزعة الانتقامية، وتخوين الخصوم، ومن ثم اعتماد عنصر الولاء لا الكفاءة والخبرة في توزيع المهام في حال قبضه على مقاليد الحكم، والسيطرة، والفكرة الأخيرة تبدو واضحة تماما في مشهد المناصب الحساسة التي أوكلها الرئيس ترامب لفريق إدارته الجديدة، ويكفي التدليل على ذلك بمثال بارز هو ترشيحه لضابط سابق برتبة (رائد) وزيرا للدفاع!
إن القائد الشعبوي يستطيع تمرير أشد الأفكار تطرفا من خلال بناء عاطفي محكم يعتمد على مخاطبة القلوب والمشاعر، فهو يراهن دائما على ضعف الوعي العام، وكلما كان الخطاب متقنا أكثر استطاع القائد الشعبوي حيازة تعاطف أكبر قد يمتد ليشمل قسما من المتضررين من شظايا الخطاب الشعبوي نفسه، وفي هذا السياق نستطيع أن نستحضر عبارة عنصرية شهيرة للرئيس دونالد ترامب أطلقها في حملته الانتخابية الماضية، وهي قوله: "إن الأجانب يهددون طريقتنا في العيش"واللافت هنا أن يجد هذا التصريح المعادي للمهاجرين صدى مرحبا ليس في نطاق العنصريين من ذوي البشرة البيضاء المدفوعين بالخوف على (طريقة عيشهم)، بل تعداه إلى نفوس المهاجرين الملونين المدفوعين بإحساس الخوف على (عيشهم) من غزوات المهاجرين الجدد...
الشعبويون غالبا يراهنون على ضعف الوعي العام للجماهير، وغالبا ما يكسب القائد الشعبوي المتمكن هذا الرهان، لقد تداول كتّاب كثيرون وناشطون مدنيون في أرجاء مختلفة من العالم قصّة محاولة اغتيال ترامب بوصفها مسرحية مفبركة لكسب التعاطف الشعبي، وعلى الرغم من وجاهة الأدلة العلمية التي ساقها هؤلاء لكنّ عددا متزايدا من الناس شرعوا في تأييدهم لهذا البطل الذي أنقذته العناية الإلهية لتحقيق رسالة عظيمة! وهي ترجمة حرفية للتعليق الذي ذكره ترامب عقب قنص (سنتمترين) من جلدة أذنه اليمنى...
إن الفلسفة السياسية التقليدية المعتمدة في الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ حوالي 250 عاما تقريبا استندت إلى إتاحة فرص الحرية أمام الناس على أفضل وجه عبر تأليف حكومات فعّالة تكرّس جهودها لخدمة تلك الحريات بما تشتمله من حقوق.
لقد كانت الفلسفة السياسية الليبرالية بالنسبة للأمريكيين المعاصرين مثل الماء للأسماك بحسب بعض التعبيرات الأدبية. وقد مثّلت هذه الفلسفة بمبادئها الإنسانية المتعددة آيدلوجية جذّابة صارعت آيدلوجيتين كبيرتين برزتا في القرن العشرين هما الشيوعية والفاشية ، واستطاعت أن تنتصر عليهما في نهاية المطاف انتصارا باهرا، لكن هذه الفلسفة وصلت في العقود الأخيرة إلى درك مؤسف يتسابق السياسيون فيه بين من يدعو لطمس الفطرة الإنسانية عبر الدعوة إلى نشر الإباحية وزواج المثليين، وتعاطي المخدرات، وبين من يُقسّم العالم إلى ثنائية نحن، وهم، وينطق بكراهية سافرة حتى ضد مواطنيه تحت شعار:"أعداؤنا من الداخل".
عندما خسر ترامب في انتخابات 2020 قيل في حينها إن الشعبوية ليس لها مكان في أمريكا الليبرالية ، لكنه عاد ثانية بقوة أشدّ من ذي قبل ليثبت أن " الشعبوية قائمة وتتمدد"...
إن المجتمع الإنساني سيُمنى بخسارة فادحة حقا إذا استمر الحال على ما هو عليه في أمريكا، ولم تُفرز فيه آيدلوجية وسطية تتجاوز خطايا التطرف الليبرالي، ومخاطر الجنوح الشعبوي والديماغوجي.