حب الوطن بلا مقابل!
محمد علي جواد تقي
2024-04-22 04:04
نشأنا وترعرعنا في المدارس صغاراً على حبّ الوطن، حفظنا الأناشيد وهتفنا بالتضحية بأرواحنا من أجل الوطن الغني بتاريخه، وقدراته، وثرواته، وكل ما يبعث على الفخر والاعتزاز، وما يطرب النفس من المشاعر الإيجابية.
إعلام الحاكم المستبدّ (الديكتاتور) كان له الدور الحاسم –وما يزال- في صهر مشاعر الحب هذه وصبّها في جبهات الحرب التي يقودها الحاكم، سواءً في الداخل او الخارج، فمن يريد استشعار حب الوطن عليه أن يكون في خندق الحاكم، وإلا فهو خائن للوطن؛ هكذا يكون عنوانه أمام الناس ليسهل التبرؤ منه ثم التخلص منه بدنياً (الإعدام)، او معنوياً بنفيه من الوطن.
مضت عقود من الزمن ولم تتخلص الشعوب من هذه الثقافة المصطنعة في الغرف المغلقة على يد علماء نفس واجتماع وتاريخ مجندين لخدمة الحاكم الأوحد، بدعوى أن هذا الوطن برعاية هذا الحاكم يضمن الأمن والاستقرار والعيش الكريم، وبدونه يكون العكس تماماً، مما أوهم الملايين بأن الإخلاص للوطن أولى من الإخلاص للأسرة والعشيرة والدين وحتى للحياة الزوجية الخاصة.
ولكن! على حين غرّة انقلب كل شيء في العراق عام 2003 أمام أنظار الشعوب صاحبة الأوطان، و أميط اللثام عن هذه الثقافة المصطنعة، وبانت حقيقتها المفزعة بهروب الحاكم القزم المتلبس بمظهر البطل، أمام قوات عسكرية محتلة طالما تبجّح بقدرته وقدرة جيشه "الوطني" على التصدّي لها، بيد أنه ضَمِن حياته بالاختباء في مكان آمن من الرصاص والموت، وترك الوطن وأهله للأقدار، فعرف الناس أن الوطن شيء، والحاكم شيء آخر.
صور رائعة من الوطنية في الزمن الجميل
العراق الذي تعاقبت عليه الحضارات منذ آلاف السنين، وانساب على أرضه المنخفضة الرافدان فأوجد الخصب والخير والعطاء للعالم، استقطب منذ قرون القدرات الإنسانية من انحاء مختلفة من العالم الإسلامي، فوفد اليها من بلاد فارس وتركيا والهند وغيرها ممن اشتغل بطلب العلم والمعرفة وبالتجارة ومختلف اشكال المهن الحرة، تحفهم أجواء الانفتاح على العالم، بفضل وجود المراقد المقدسة لأئمة أهل البيت، عليهم السلام، ممن أسسوا للحضارة الإسلامية بكل مقوماتها من علم ومعرفة وثقافة وآداب.
ورغم مرور عقود طويلة بل قرون على وجود هذه الجاليات في أرض العراق، لم يدُر في خلد أحدهم يوماً أن يعود الى موطنه الأصلي كأن يكون الهند او ايران او تركيا، بل اختار لنفسه الهوية العراقية وأن يكون العراق وطنه الثاني، فقد أخلصوا له في ميدان العلم، فتخرج العلماء والفقهاء في الحوزات العلمية، كما تخرج الأساتذة من الجامعات ورفدوا المدارس والمعاهد بالعلماء والمدرسين في شتى الميادين، وعلى صعيد الحياة الاجتماعية والاقتصادية وضعوا بصماتهم العميقة في حركة التجارة والاقتصاد، وليكون العراق من ابرز الدول منذ بدايات القرن العشرين توفراً على فرص العمل في المصانع الصغيرة والورشات والمحن المختلفة.
ومن الصور الرائعة للمواطنة الصالحة، حرص البعض منهم على التكلم باللغة العربية وليس بلغة أهله في موطنه الأصلى، لكسب ودّ أهل العراق من سكان البادية والارياف القادمين الى المدينة للتسوّق أو للعمل، حتى لا يُشعروا أحداً بالتعالي او وجود فوارق معينة.
وموقف تاريخي غاية في الذكاء من المرجع الأعلى في زمانه؛ الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي الذي جاءه جنرالات الانجليز لانتزاع موقوف مؤيد لهم أمام حراك معارض ضد سياساتهم في ايران، فقال لهم: "إن الشعب الإيراني أدرى بأحواله وأوضاعه"، -مضمون الكلام-، إي انه يعيش في العراق، وليس في ايران، ولا يتدخل في حياة الناس هناك بما يخدم مصالح الاستعمار البريطاني.
ونفس هذا المرجع الديني المنحدر من أصول إيرانية يقود العشائر العراقية في انتفاضة مسلحة ضد الاستعمار البريطاني، عُرفت بثورة العشرين عام 1920، ويحقق من خلالها المكسب الذي يتغنّى به الوطنيون حتى اليوم، وهو تحقيق الاستقلال السياسي للعراق وتشكيل دولة عربية وإسلامية مستقلة.
ومنذ ذلك التاريخ، وأبناء الجاليات المتعددة في العراق درسوا و تلعموا وعملوا سنين طوال ليكون العراق (الوطن) أروع مكان للعيش في العالم الاسلامي، وربما في العالم أجمع، حيث يجتمع فيه العلم والأخلاق والآداب والقيم الفاضلة، في المدرسة، وفي السوق، وفي الحياة الاجتماعية، بما يقلّ نظيره في بلد آخر بالعالم.
وطنٌ يستحق الكثير
نتضامن مع المحتجّ على سوء الخدمات، وانتشار الفساد في الدوائر الحكومية، ومن التوزيع غير العادل للثروة ولفرص العمل والعيش الكريم، وبشكل عام؛ ظهور الطبقية المقيتة في هذا الوطن الغني والمعطاء، ولكن! نقف ناصحين لمن "يستصحب الحالة السابقة"، كما يقول علم أصول الدين، ويصرّ على ربط الوطن الكبير بأرضه وأهله وقدراته وثرواته بأحزاب او اشخاص اثبتت الأيام أنهم زائلون ويبقى الوطن والمواطن في الساحة.
ولسنا بوارد الخوض في امثلة من هذه المعادلة تخفف عنّا ما نعيشه في العراق، ففي عاصمة هتلر (برلين) بقي المواطن الألماني لوحده وسط الركام بعد هزيمة قائده في الحرب العالمية الثانية، يعاني الجوع وفقدان الماء الصالح للشرب لحوالي ثمانية أشهر، أما في اليابان التي أراد الامبراطور هيرويتو أن يختزل البلد بأكمله في شخصه هو، فتنحّى جانباً ورضي لنفسه بأن يكون مواطناً مثل المواطنين في هيروشيما وناكازاكي التي دمرهما الاميركيون بالقصف النووي نتيجة لسياساته التوسعية وإصراره على خوض الحرب الخاسرة الى جانب هتلر، و راح يعمل على تعويض ما فات بمشاريع تنموية اعتذاراً منه لأبناء شعبه ووطنه.
ولمن يتحدث عن الأرواح التي أزهقت والدماء التي سالت في العراق منذ أربعين عاماً، وما افرزته من أورام اجتماعية مؤلمة، وأزمات اقتصادية خانقة، يمكن اختصارها بجملة واحدة، وهي؛ بسبب القبول بالعلاقة غير الصحيحة بين الحاكم والمحكوم، وبين الشعب وقيادته.
وبنظرة إجمالية؛ يمكن القول أن العراق أكثر حظاً من عديد البلدان المأزومة والخارجة من حروب وصراعات بالعالم، بمستقبل واعد، وحياة أفضل بفضل ما يملكه من قدرات ذاتية وثروات، بل حتى موقع جغرافي، الى جانب العمق الحضاري والثقافي مما يجعله حيوياً وقابلاً للنهوض دائماً، ويستدعي أهله "المواطنين" لأن يبحثوا عن الوطن ليس في الشوارع وبين الشعارات، وإنما في داخل النفوس التي تحمل حب هذا الوطن بكل صدق وإخلاص، ولا تسمح لأي جهة تعمل على إشاعة الفوضى و نشر ثقافة اليأس والتشاؤم من كل شيء، بأن تجد لها أصوات تتحدث عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولا لمن يتحدث عن الضعف والتبعية والتخلف في وقت نرى بلداناً أصدق من العراق بهذه العناوين ولا يتحدث عنها أحد.
نعم؛ نطمح بأن نكون الأفضل، وأن تكون حكومتنا نزيهة ومخلصة، ويكون كل شيء على ما يرام، وهذا حقّ كل مواطن، ولكن ماذا عن واجبات هذا المواطن ضمن المعادلة المعروفة في العلاقة السويّة بين افراد المجتمع والدولة على أساس الحقوق والواجبات؟ أليس من الواجب عليه أن يكون نزيهاً ومخلصاً وأميناً وصادقاً من اجل وطنه؟ ألم تكفي التجربة الديمقراطية طيلة العشرين عاماً الماضية، والانتخابات العديدة، لبلورة هذه الحقيقة؟
أن ننصف الوطن من انفسنا ولا نجعله عرضة للطامعين والمتربصين به، خطوة في طريق كل من يفكر بأن ينتمي الى وطن قوي عزيز في مجال العلم والعمل والعقيدة، وفي نفس الوقت هي تشكل يداً تغلق الباب بوجه كل من يفكر ببقاء العراق ضعيفاً يعيش الفوضى والحرمان.
والأمر اليكم