الواقع العربي وممكنات التطوير
محمد محفوظ
2021-12-29 07:40
ثمة مدارس وتوجهات ووجودات فكرية وسياسية في العالم العربي والإسلامي، تؤكد في خطاباتها ومشاريعها وبرامجها المرحلية والاستراتيجية، على أن التقدم والتطور، لا يتم في الفضاء العربي والإسلامي، إلا بروافع خارجية، ومحفزات أجنبية. وبالتالي فإن بوابة أي تطور نوعي أو كمي لا يتحقق إلا من الخارج.
وعلى هذا تنحصر مهمة هذه المدارس والوجودات المتعددة في تهيئة الداخل لاستيعاب تجربة الخارج، وتنفيذ خطواتها في قضائها الذاتي، وتدمير كل القوى الذاتية، التي تعترض على عملية نقل الخارج إلى الداخل.
ولهذا نجد أن العديد من التجارب العربية والإسلامية في التحديث والتطوير استخدمت أساليب قسرية وقهرية في إشاعة أشكال التحديث والتطوير في الجسم العربي والإسلامي.
مما جعل واقعنا العربي بشكل شامل، يعيش الحيرة والتردد في كل شيء، ثم القضاء على القوى التقليدية الاقتصادية والاجتماعية، دون الإمساك الفعلي بالقوى الجديدة بشكل سليم وفاعل.
والفضاء الاجتماعي مليء بالصور والحالات المتناقضة التي تتعايش بقلق حاد وتوتر مضمر أو صريح تحت سقف واحد وتتوفر في هذا الفضاء الكثير من أشكال التحديث والتطور، كما يحتضن هذا الفضاء العديد من مصادر التخلف والانحطاط والتأخر.
هناك نزوعٌ لإزالة الرهبة من الآخر، والتحرر من عقدة الخوف تجاهه، وفي المقابل تتكرس حالة الهلع من منابع الحيوية الجديدة في المجتمع العربي والإسلامي.
وجماع القول: إن العالم العربي الإسلامي وبعد حقبة زمنية طويلة، حاول فيها الإقلاع عن واقع التخلف واحداث التطور النوعي الضروري في أرجاء جسمه وحياته، ما زال يعيش هذا الهاجس والتحدي.
تقدم في بعض الخطوات وتعثر في كثيرها، قضى على العديد من أشكال التخلف، ورعى بوعي أو بدون وعي، المنابع والمصادر، التي تتوالد منها قيم التأخر والتخلف. انبهر بنتائج تطور الإنسان الآخر، دون أن يأخذ بالأسباب الحقيقية لتطوره وتقدمه.
ازدواجية عميقة، تتحكم في مسار العالم العربي والإسلامي، فصام نكد، بين عصفور من الشرق وظلام من الغرب، وكأن المسألة مجرد أشياء وتصورات كمية مجردة، لا صلة لها بعقل الإنسان وإرادته.
ولعلنا لا نأتي بجديد، حين القول، إن هذه الحالة الغربية التي يعيشها الواقع العربي والإسلامي، هي من جراء تضخيم دور التقليد الأعمى في حياتهم، وشيوع ثقافة الطاعة، التي لا تعرف المعايير اللازمة والدقيقة لذلك، وفي المقابل نبذ منهج الإبداع، وثقافة الحرية والمسؤولية التي تعطي للإنسان وعقله بآفاقه الواسعة، الدور والموقعية المناسبة والمركزية.
فالتقليد الأعمى بثقافته ومسوغاته، ومبرراته الاجتماعية والنفسية، لا يؤدي إلا إلى المزيد من الازدواجية في الفضاء الاجتماعي بحيث تتوفر الإرادة الذاتية، القادرة على إحداث انعطاف ايجابي، أو وقوف تدهور متتال.
وثقافة الطاعة المطلقة، التي لا تعرف الضوابط والمعايير والمجال، لا تؤدي إلا إلى خلق إنسان مستقيل عن مسؤولياته، يبحث عن الأعذار لكسله وضجره وتخلفه.
وهذه هي الظروف التي تتوالد فيها أشكال التدهور الاجتماعي والحضاري، وتنمو فيها كل أشكال انفصام الشخصية. وبهذا تكتمل حلقات العقد، الذي يخنق الواقع العربي، ولا يجعل له فرصة حقيقية ونوعية في التقدم والتطور.
نخبٌ ووجودات فكرية وسياسية، لا ترى للتطور بوابة إلا بوابة الخارج، وواقع داخلي يرزخ تحت نير التقليد الأعمى، والاتكالية والاستقالة من المسؤولية والانشغال بالتوافه من الأمور، على حساب القضايا الاستراتيجية والمصيرية.
فالنخب الفكرية والسياسة، تبرر خياراتها بواقع المجتمع العربي والإسلامي، وهذا الواقع، لا يرى في الخيارات التي ترفعها هذه النخب، هي الجسر المناسب لانتشال الواقع من أزماته.
وهكذا يستمر الواقع في هذه التيه، دون أن يمتلك أي طرف القدرة على وقف مسار التدهور والتراجع وأمام هذا الواقع، من الضروري التأكيد على النقاط التالية:
1) أن استمرار حالة التقليد الأعمى، تزيد الواقع سوءاً وتضيف إليه كوابح فعلية، لذلك من الضروري إشاعة ثقافة الإبداع والبحث العلمي والشك المنهجي والتفكير والمساءلة، لأنها تساهم في تقليص دور التقليد الأعمى في المحيط الاجتماعي.
وكما يتمكن المجتمع العربي، من زيادة مساحة ثقافة الإبداع في واقعه، كلما توفرت ممكنات التطوير.
لذلك فإن الإبداع وثقافته هو حجر الأساس، الذي يوفر ممكنات التطوير في الواقع العربي، وكل جهد يُبذل في سبيل التطوير، مع استمرار حالة التقليد الأعمى، فإنها تكرس حالة الازدواجية وتزيد الأمور تعقيداً، وتخرج العالم العربي من المسار الصحيح.
2) ضرورة إعادة تأسيس مفهوم التطور والتقدم في العالم العربي، بما يوافق طبيعة الواقع العربي، وحاجاته الملحة، وينسجم وتطلعاته التاريخية والحضارية.
وينبغي أن ندرك في هذا المجال، أن عملية التطور والتقدم، عملية تاريخية، وليست نموذجها جاهزاً بالإمكان استعارته أو استيراده، وهذا يدفعنا إلى ضرورة بلورة مفهوم عربي للتطور والتقدم.
3) في كل مرحلة اجتماعية، وحقبة تاريخية، تعطى الأولوية لجملة من القيم الاجتماعية، التي تساهم بشكل فعال في إنجاز أهداف تلك المرحلة أو الحقبة التاريخية.
وفي إطار البحث في الواقع العربي، عن ممكنات التطوير، من الأهمية مراجعة سلم القيم الاجتماعية، وتحديد أولوياته، وفق الطموح العربي في التطور والتقدم.
وتحديد سلم القيم وأولوياتها، ليس مسألة ترفيه أو اعتباطية، وإنما هي من المهام الرئيسية التي تساهم في تنظيم الحركة الاجتماعية وتعبئة الطاقات والقدرات باتجاه الأهداف والغايات الرئيسية.. ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن ما نعاني منه على الصعيد العربي والإسلامي، ليس قلة العمل، بل غياب الأولويات التي تحدد أي الأعمال أولى من غيرها، وما هي الخطوات التي ينبغي أن نقدمها على غيرها من الخطوات.. فالفوضى في سلم القيم والأولويات، ساهم بشكل أو بآخر في تشتيت الجهود وبعثرة الطاقات. ولا سبيل أمامنا لتركيز الجهود وتجميع الطاقات إلا ببلورة نظام الأولويات على ضوء حاجاتنا وطبيعة التحديات التي تواجهنا.
فالتطوير والتقدم في مجتمعنا، لا يمكن أن يتحقق إلا ببناء نظام واضح وصريح للأولويات بحيث تتجه مختلف الجهود والطاقات صوب الأهداف والغايات المرسومة انطلاقاً من نظام الأولويات الذي يستند إلى قراءة عميقة وواعية للظروف والتحديات والآفاق والفرص.
4) على المستوى الإنساني والحضاري، لا يوجد طريق واحد للتطور والتقدم.. وإنما هناك مجموعة من السبل والطرق التي أوصلت أمماً عديدة إلى رحاب التقدم والتطور.. لذلك من الخطأ أن نتعامل مع مفهوم التقدم والتطور، تعاملاً استنساخياً. وذلك لأن لكل مجتمع ظروفه الخاصة، التي أملت عليه أولويات وأنظمة للعمل والرقي تختلف من تجربة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر.
إلا أن القاسم المشترك في كل التجارب الإنسانية والحضارية هي توفر القيم الأساسية لعملية النهوض والتقدم.. فلا تقدم بلا عمل، فالعمل الجاد والمتقن هو سبيل التطور والتقدم، كما أنه لا تطور بلا علم يكتشف أسرار الحياة الطبيعية ويعمل على توظيف كل الممكنات للرقي والتقدم.. وإضافة إلى ذلك، فإنه لا تطور حقيقي ونوعي بدون احترام الحريات وصيانة حقوق الإنسان.. وعليه نستطيع القول: إن التقدم والتطور في فضائنا العربي والإسلامي، بحاجة إلى تكامل هذه القيم (العلم - العمل - الحرية) مع بعضها البعض لخلق واقع جديد، يوفر كل الآفاق والفرص التي تسمح للإنسان للانطلاق في رحاب البناء والعمران.