زُهَيرُ بنُ القَينِ وَحَقُّ اليَقِينِ
مَوَاقِفٌ مَفْصَلِيَّةٌ فِي الْمَسِيرَةِ الْحُسَيْنِيَّةِ
الشيخ الحسين أحمد كريمو
2020-09-20 08:08
مقدمة عقدية
إن من أوضح الواضحات في هذه الدنيا؛ هي الموت الذي لا يفر منه أحد، ولا ينجو منه ناجٍ مهما فعل، خيراً أو شراً، فهو الحق الذي لا باطل فيه مهما فعل أهل الباطل لإبعاده عن أنفسهم وأما أهل الحق فهم على يقين منه، قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 99)
واليقين هو البضاعة النادرة في هذا الوجود، ولا توجد هذه الدُّرة اليتيمة، إلا عند أصحابها من الأنبياء والأولياء، كأمير المؤمنين الإمام علي (ع) الذي قال: (لو كُشف الغطاء ما ازددتُ يقيناً) (الصواعق المحرقة: 129، شرح نهج البلاغة: 7/253، المناقب للخوارزمي: 375/395، الفضائل لابن شاذان: 116، كشف الغمّة: 1/170، إرشاد القلوب: 212، المناقب لابن شهرآشوب: 2/38، غرر الحكم: 7569، مشارق أنوار اليقين: 178).
أو قوله (ع): (إنّي لعلى بيّنةٍ من ربّي، وبصيرةٍ من ديني، ويقينٍ من أمري) (غرر الحكم: 3772)
فهؤلاء هم أهل اليقين الذي لا يشوبه شك، وأهل البصائر النافذة، حيث يرون حقائق الغيب كأنها شهود أمام أعينهم، وذلك لأنهم على بيِّنة من ربهم، ومعرفة بخالقهم الذين (عظُمَ الخالق في أنفسهم؛ فصغُر ما دونه في أعينهم، فهم والجنّةُ كمن قد رآها؛ فهم فيها مُنعَّمون، وهم والنارُ كمن قد رآها فهم فيها مُعذَّبون)، هؤلاء أهل الفضائل في هذه الأمة، وإن كانوا غير معروفين، ولكن أهل السماء يعرفونهم أكثر من أهل الأرض، لأن البشر خلدوا إلى الخفض وحب أمهم الأرض، ونسوا ربهم فأنساهم أنفسهم.
وأعانهم على أنفسهم شقوتهم وشياطين الإنس والجن الذين يتآزرون لإضلاله وحرفه عن الطريق المستقيم، والعقيدة الصحيحة، وأخطر هؤلاء جميعاً الحكام الظلمة والسلاطين الذين هم اشد فتكاً وخطراً من الشياطين، كبني أمية الشجرة الملعونة في القرآن، الذين طغوا وبغوا وأفسدوا البلاد والعباد، بما فعلوه من جرائم سوَّدت وجه التاريخ الإنساني، وما زالت تلك اللطخة السوداء القاتمة المظلمة تفعل فعلها في هذه الأمة.
حقيقة بني أمية معروفة للأمة
هذه العائلة الخبيثة الدخيلة على العرب، وعلى عبد شمس بالخصوص حيث تبنى ذاك العبد الرومي (أمية) فألحقه به، وألصقه بنسبه الشريف، فرفعه من الضِعة، فراح يناطح قروم العرب وسادتهم من قريش (هاشم الخير)، وشجرته الطيبة التي ضربها الله مثلاً في كتابه، والأمة تعرف ذلك فقد حاربت أبناء هذه الشجرة النيرانية الزقزمية في كل حروبها مع رسول الله (ص)، فقد خاضها جميعها بقيادة صخر بن حرب بن أمية المعروف بأبي سفيان، والد معاوية، وجد يزيد، كما يدَّعون وكلاهما مغشوش مدخول أيضاً.
كهذا البطل الشهيد الذي بلغ من العمر عِتيا وهو مصرٌّ على جهاد القاسطين، ويقول أنها امتداد لحرب الرسول الأكرم (ص): (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَمَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ عَمَّارًا يَوْمَ صِفِّينَ شَيْخًا كَبِيرًا آدَمَ طُوَالًا آخِذًا الْحَرْبَةَ بِيَدِهِ وَيَدُهُ تَرْعَدُ فَقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ قَاتَلْتُ بِهَذِهِ الرَّايَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَهَذِهِ الرَّابِعَةُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ ضَرَبُونَا حَتَّى يَبْلُغُوا بِنَا شَعَفَاتِ هَجَرَ لَعَرَفْتُ أَنَّ مُصْلِحِينَا عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ). (مسند أحمد: ح18127)
فالقوم أبناء القوم والأمة تعرف ذلك منهم، وأنهم أرباب دنيا وليوا بأصحاب دين، ومن لطيف المواقف التي جرت مع الإمام الحسين (ع) في طريقه إلى أرض المعراج، هو لقاءه مع عبد الله بن مطيع العدوي، الذي كان أحد قادة وشهداء ثورة الحرة في المدينة مع عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، يرويها السيد الإمام الراحل 0قدس سره الشريف)، فيقول: "ثم أقبل الحسين (ع) من (الحاجز) يسير نحو العراق فانتهى إلى ماء من مياه العرب فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوي، وهو نازل به، فلما رآه الحسين (ع) قام إليه، فقال: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ما أقدمك؟ واحتمله وأنزله.
فقال لـه الحسين (ع): (كان من موت معاوية ما قد بلغك، وكتب إليّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم).
فقال لـه عبد الله بن مطيع: أذكرك الله يا ابن رسول الله، وحُرمة الإسلام أن تنهتك، أنشدك الله في حُرمة قريش، أنشدك الله في حُرمة العرب، فو الله لئن طلبتَ ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً أبداً، والله إنها لحُرمة الإسلام تُنهتك، وحُرمة قريش، وحُرمة العرب، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض نفسك لبني أمية". (بحار الأنوار: ج44 ص372)
ثم يُعلِّق سماحته فيقول: الإمام الحسين (ع) كان يعلم بأن بني أمية يُريدون القضاء على الإسلام، فإذا لم ينهض ولم يضحِّ بنفسه وأهله ولم يُقتل فإنه لا يبقى من الإسلام شيء، فلذلك قدَّم دين الله على حياته وحياة أصحابه وأهل بيته، وخرج إلى الشهادة عالماً بها حيث أخبره رسول الله (ص) بقوله: (بنيّ يا حسين أخرج إلى العراق فإن الله قد شاء أن يراك قتيلا) (من حياة الإمام الحسين (ع) السيد محمد الشيرازي: ص116، عن العوالم، الإمام الحسين (ع): ص214)
فصبيان النار، وفروع الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن، لم يكونوا يهابون أحداً إلا ذاك الشبل الحيدري، والبضعة النبوية الطاهرة، ولذا أخبره هذا الرجل عن هذه الحقيقة المرَّة، لعلمه أنهم لو استطاعوا لقتلوا جده رسول الله (ص) وأباه أمير المؤمنين (ع) لما قصَّروا أبداً كما فعلوا بحمزة الخير أسد الله وأسد رسوله في يوم أُحد، وإذا ما تجرَّأ يزيد الشر على الإمام الحسين (ع) فإنه سينتهك كل الحُرمات وهذا ما فعله حقاً.
زهير بن القين وحق اليقين
الدارس المدقق في المسيرة الحسينية المباركة يجدها مسيرة إنسانية بكل جدارة، من حيث الأهداف السامية لها، والقيم الإنسانية الحضارية فيها، وأنها اشترك فيها مختلف الأعراق والأشكال والألوان والطوائف والمذاهب والأديان إلا مَنْ محضوا الشر محضاً وخلوا من الخير تماماً كاليهود.
فكانت تضم من الإمام الحسين (ع) وسموَّه وعظمته، وشرفه ومكانته، حتى العبيد والإماء، وفيهم الشيعي والسني، والأباضي الحروري، والمسلم والمسيحي، والرجل إلى جانبه المرأة، والشيخ الطاعن بالسن والطفل الرضيع، فهؤلاء جميعاً كانوا أبطال أرض المعراج في كربلاء المأساة الخالدة وعاشوراء يوم الفداء الرباني.
ولذا نقول: النهضة الحسينية حجة على الجميع، ولا نستثني من البشر أحداً، لاحتوائها كل هذه الأطياف والأشكال وحتى الألوان من البشر، حتى لا يقول أحد: أنه لا علاقة لنا بها وليس لنا أحد فيها، فالجميع قد تمثَّل في يوم عاشوراء، وعلى أرض العزة والكرامة كربلاء القداسة، وسنأخذ مثالاً واحداً من أولئك الأبطال الأفذاذ من أصحاب اليقين، وأهل الدِّين وليس الدنيا.
يروي قصته سماحة الإمام الشيرازي الراحل فيقول: "كان زهير بن القين - على ما قال البعض – (مقتل الحسين (ع) لأبي مخنف: ص105، تاريخ الطبري: ج4 ص316)، عثماني الهوى، (أي سُني بالمفهوم المعاصر)، ولكنّه تغيَّر عند ما تشرَّف بلقاء الإمام الحسين (ع) في طريق كربلاء فالتحق بالإمام واستشهد بين يديه يوم عاشوراء، رضوان الله تعالى عليه.
وقد حدث جماعة من فزارة ومن بجيلة، قالوا: كُنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة، وكنا نساير الحسين (ع) فلم يكن شيء أبغض علينا من أن نُنازله في منزل، وإذا سار الحسين (ع) فنزل في منزل لم نجد بُدّاً من أن نُنازلـه فنزل الحسين (ع) في جانب ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغذى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين (ع) حتى سلّم، ثم دخل فقال: يا زهير بن القين إن أبا عبد الله الحسين (ع) بعثني إليك لتأتيه.
فطرح كل إنسان منا ما في يده، حتى كأنما على رؤوسنا الطير، فقالت لـه امرأته وهي ديلم (دُلهم) بنت عمرو: سبحان الله أيبعث إليك ابن رسول الله (ص) ثم لا تأتيه؟ لو أتيته فسمعت كلامه ثم انصرفت.
فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً، قد أشرق وجهه، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه، فقُوض وحُمل إلى الحسين (ع)، ثم قال لامرأته: أنتِ طالق، إلحقي بأهلك فإني لا أحب أن يُصيبك بسببي إلاّ خير، وقد عزمتُ على صحبة الحسين (ع) لأفديه بروحي، وأقيه بنفسي، ثم أعطاها مالها وسلّمها إلى بعض بني عمِّها ليُوصلها إلى أهلها، فقامت إليه وبكت وودّعته وقالت: خار الله لك أسألك أن تذكرني في القيامة عند جد الحسين (ص).
وقال الشيخ المفيد: ثم قال زهير لأصحابه: مَنْ أحبَّ منكم أن يتبعني، وإلاّ فهو آخر العهد، إني سأحدثكم حديثاً، إنا غزونا البحر (بلنجر)، ففتح الله علينا وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان: أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم، فقال: "إذا أدركتم سيد شباب آل محمد (ص) فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه مما أصبتم اليوم من الغنائم"، فأما أنا فأستودعكم الله. (بحار الأنوار: ج44 ص371-372)
هكذا التحق هذا الرجل الذي طلَّق الدنيا وليس امرأته البطلة التي دفعت به إلى خيمة الإمام الحسين (ع) وهو الذي كان يُسايره من مكة ويتحاشى النزول معه في مكان لمعرفته به، وبمكانته في الدين والدنيا، إلا أنه كان متأثراً بالدعاية الأموية لذا وصفوه (عثماني الهوى)، ولكن الحقيقة أنه كان رجلاً مؤمناً من كبار المؤمنين، وقلبه مملوء بالإيمان ولكن كانت هناك غِشاوة على قلبه فلما رأى الإمام الحسين (ع) وجالسه كشف تلك الغشوة والرين عن قلبه وعاد مستبشراً يبرق وجهه نوراً، ما لبث أن أمر بثقله أن يُلحق بأصحاب الإمام الحسين (ع)، ويُطلِّق امرأته، ويُخيِّر أصحابه ويُبلِّغهم أنه فداء للحسين (ع)، فأي يقين كان يحمله زهير بن القين بإمامه الحسين(ع)؟
فهو الذي وقف تلك الوقفة العجيبة في ليلة عاشوراء حيث أطلق الإمام الحسين (ع) سراحهم وحلَّهم جميعاً من بيعته، ليكونوا أحراراً فقال: " قد سمعنا، هداك الله يا ابن رسول الله، مقالتك ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها". (من حياة الإمام الحسين (ع) السيد محمد الشيرازي: ص138)
فالدنيا لا تُساوي شيء عند زهير، ولو علم أنه خالداً فيها لآثر النهوض مع الإمام الحسين (ع) على الخلود، فأيُّ قلب تحمله يا زهير، وأيُّ علم وحلم ويقين ملأتَ قلبك أيها الشهيد السعيد؟
هذا الرجل الكبير الذي طلب منه الإمام الحسين (ع) أن يتقدَّمه ليُصلي صلاة الظهرين فصلاهما بصلاة الخوف، ولم يخف الله عمر بن سعد وجيشه من الله فقتلوا أصحاب الإمام (ع) ليمنعوهم من الصلاة، وبعدها خرج هذا الأسد الباسل الذي يروي بعضهم ويقول في وصف قتاله: "وتقدّم زهير بن القين وقاتل قتالاً لم يُرَ مثله، ثم رجع ووقف أمام الحسين (ع) وجعل يضرب على منكب الحسين، ويقول: فدتك نفسي هادياً مهديّاً***اليوم ألقى جدّك النبيّا
وحسناً والمرتضى عليّا
ويُروى في مقتله وشهادته: أنه "خرج زهير بن القين (رضي الله عنه) وهو يرتجز ويقول:
أنا زهير وأنا ابن القين ** أذودكم بالسيف عن حسين
إن حسيناً أحد السبطين ** من عترة البر التقي الزين
ذاك رسول الله غير المين ** أضربكم ولا أرى من شين
وقال محمد بن أبي طالب: فقاتل حتى قتل مائة وعشرين رجلاً فشدَّ عليه كثير بن عبد الله الشعبي، ومهاجر بن أوس التميمي؛ فقتلاه، فقال الحسين (عليه السلام) حين صرع زهير: (لا يبعدك الله يا زهير! ولعن قاتلك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير). (من حياة الإمام الحسين (ع) السيد محمد الشيرازي: ص186)
لا أبعد الله مثل زهير وأصحابه الكرام الميامين من أصحاب الإمام الحسين (ع) فهم خير وأشرف أصحاب كما شهد لهم بذلك مولاهم وإمامهم السبط سيد الشهداء، فثبتنا الله معهم وجعل لنا قدم صدق مع أهل الصدق والوفاء من أصحاب الحسين (ع).