الحسين في الأدب المصري الحديث

مجلة الكلمة

2019-10-17 08:44

بقلم: زكي الميلاد
-1-
من روائع الأدب المصري

في الأدب المصري الحديث هناك أربعة أعمال عن الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) تعدّ من روائع هذا الأدب في مجال التاريخ، وقد تجلّت هذه الأعمال من عناوينها، وبحسب تعاقبها الزمني في الصدور هي: كتاب الأديب عباس محمود العقاد (1306 - 1383هـ/ 1899 - 1964م) الموسوم بـ(أبو الشهداء.. الحسين بن علي) الصادر سنة 1945م، وكتاب الأديب عبدالرحمن الشرقاوي (1920 - 1987م) الموسوم بـ(ثأر الله) بجزأيه (الحسين ثائرًا) و(الحسين شهيدًا)، الصادران ما بين سنتي 1969 - 1970م ولاحقًا عرفا بوصفهما كتابين مستقلين، والرابع كتاب الأديب خالد محمد خالد (1339 - 1416هـ/ 1920 - 1996م) الموسوم بـ(أبناء الرسول في كربلاء).

من يتتبّع هذه المؤلّفات الأربعة يجد أنها تتشبّه ببعضها إلى حدٍّ كبير، وكأن روحًا واحدة سرت فيها جعلت كل عمل منها يظهر متشبّها بالعمل الآخر، وكل عمل منها يذكّر بالعمل الآخر، ويتعاضد معه، ويتقوّى به، فقد ظهرت في هذه الأعمال وتجلّت ملامح: قوة الضمير، وصدق العاطفة، وصفاء النفس، وقول كلمة الحق، والانحياز لقيم العدل والحرية والمساواة.

ونادرة هي الأعمال التي تتّسم بهذه الملامح المهمة والمميّزة، ما جعل هذه المؤلّفات الأربعة تصبح متفرِّدة على غيرها في حقلها الموضوعي، وبالشكل الذي أكسبها وضعية فكرية ووجدانية مؤثّرة، تضمن لها وجودًا ممتدًّا، وبقاءً مستمرًّا، لا ينتهي ويتلاشى لا مع توالي الأيام، ولا مع تعاقب الأجيال، ولا مع تقادم الزمان.

وليس من السهولة اكتساب هذه الملامح، التي لا تظهر بمجرّد الرغبة، ولا تتحقّق بالادّعاء الزائف، ولا عن طريق التظاهر الكاذب، ولا من خلال التحايل بالأسلوب الفني الخادع، وإنما تظهر وتتحقّق من خلال انسجام الكاتب مع نفسه، وانشراح أسلوبه، وصدق كلماته، وتجلّي مكنونات ضميره.

وما يلفت الانتباه إلى هذه الملاحظة أن الكتابة عن الإمام الحسين (عليه السلام) وقضيته، ليست كالكتابة عن أي أحد أو عن أية قضية، وهذا ما يعرفه بوضوح كبير كل من كتب عن الحسين، فالاقتراب من الحسين والكتابة عنه شعرًا ونثرًا، سيرة وترجمة، قصة ورواية، هي بحاجة إلى ضمير حي، وعقل حرّ، ووجدان صادق.

كما أن الكتابة عن الحسين بحاجة إلى كاتب يعشق الحرية ويتوق إليها، ويطلب العدل ويتمسّك به، وينشد المساواة ولا يتخلّى عنها، ويرفض الظلم ولا يركن له، ويمقت الاستبداد ولا يهادنه، ويواجه الفساد ولا يرضا عنه.

والأحرار من البشر أنَّى كانت مللهم ونحلهم هم الذين يقتربون من الحسين ويكتبون عنه ويتضامنون معه، ويقدّرون موقفه الثابت والشجاع، ويعظّمون تضحياته، أما غير الأحرار أنَّى كانت مللهم ونحلهم فلا يستطيعون الاقتراب من الحسين ولا يطيقون، فبينهم وبين الحسين مسافات طويلة هي المسافات التي تفصل بين الأحرار والعبيد.

فالحسين وضع الناس أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يكونوا أحرارًا يمتلكون إرادتهم، ويعيشون بكرامتهم، ويحافظون على عزّتهم، ويحقّقون مجدهم، ويتوارثون ذكرهم الطيّب مع تعاقب الأجيال وبين البشر كافة، وإما أن يكونوا عبيدًا مسحوقين لا كرامة لهم في حياتهم، ولا عزّة يفتخرون بها، ولا مجدًا يتوارثونه بين الناس.

ويذكر المؤرخون أن الحسين يوم عاشوراء في ساحة كربلاء، أطلق أعظم خطاب في الحرية ولا أبلغ منه وأروع، خطابًا ليس له مثيل في تاريخ الإسلام فقد صدّقه بالشهادة ليكون سيد الشهداء وأبا الشهداء، وسيد الأحرار وأبا الأحرار، فهو القائل يوم عاشوراء: «لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد»[1].

وعن رفضه حياة الذل صدح الحسين قائلًا: «ألا وإن الدَّعي ابن الدَّعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة ونفوس أبيّة من أن نُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام»[2].

وحين وجّه خطابه إلى أعدائه، خاطبهم الحسين قائلًا: «إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارًا في دنياكم»[3].

بهذا الخطاب العظيم، وبهذه الشهادة المؤثّرة، أصبح الحسين رمزًا يتعلّق به أصحاب الضمائر الحرّة بين الملل والنحل كافة، يعشقونه ويتأثّرون به، يهتفون بصوته ويردّدون شعاراته، يتذكّرون سيرته ويعظّمونها، هذه هي سيرة الملايين من البشر التي حسّت بآلام الحسين، وبقيت تحسّ بهذه الآلام على مرّ الأزمنة والعصور.

-2-
العقاد.. وأبو الشهداء

قدّم العقاد في كتابه (أبو الشهداء.. الحسين بن علي) عملًا يمكن وصفه بالرائع والبديع والبليغ، وجاء شافيًا ووافيًا في حكمته وموضوعه، امتزج فيه الأدب الرفيع بالفكر الحرّ وصفاء الضمير، ومتى ما التقت هذه العناصر وامتزجت أنتجت عادة عملًا مميّزًا كالذي تجلَّى في هذا العمل وبات يعدّ من روائع مؤلّفات العقاد.

وأظن أن مَنْ يطّلع على هذا الكتاب يتملّكه حب العقاد، ويكفي هذا الكتاب لوحده لأن يتملّك الإنسان حب العقاد، ولا أخفي أنني بهذا الكتاب تحديدًا أحببت العقاد، أحببت فيه صدق مشاعره النبيلة تجاه الحسين (عليه السلام)، المشاعر التي عبّر عنها العقاد بأدب جميل، جعلت من كتابه يحتوي على نصوص بديعة تستحق الحفظ والتدوين والتداول، وترتقي لأن تكون في مصافِّ النصوص الإنسانية الخالدة.

وفي سيرته، يذكر العقاد عند حديثه عن منهجه في التأليف كيف أن العاطفة لها صلة بأسلوب التعبير عن المعنى، فيشتدّ شعوره بها على قدر إشباعها وقوّة أدائها، وربما تحوّل القلم معه من أسلوب الانفعال إلى أسلوب السخرية والتهكّم، أو من أسلوب النقد إلى أسلوب التنديد والتفنيد، إذا ارتفعت عنده نغمة المعنى وارتفعت طبقته أثناء الأداء، فحدث له أن كتب فصولًا من كتابه (أبو الشهداء) وعيناه مغرورقتان[4].

ومن يتعرّف إلى هذا الكتاب يجد أنه لا غنى عنه في موضوعه، يحتاج إليه كل من يريد التعرّف إلى حركة الحسين ونهضته؛ وذلك لأدبه الرفيع من جهة، وطريقته في التحليل من جهة ثانية، وشمولية المعالجة من جهة ثالثة، وتماسك الموضوع من جهة رابعة، إلى جانب منزلة العقاد الاعتبارية فكريًّا وأدبيًّا.

ولعل العقاد قد تفرّد في منهجية البحث وطريقة المعالجة، مستندًا إلى منهج متعدّد الأبعاد، جامعًا ما بين التحليل النفسي والاجتماعي والتاريخي، مبتدئًا من التحليل النفسي، ناظرًا إلى جانب الشخصية، كاشفًا عن أن هناك مزاجين تاريخيين متقابلين يتناوبان طبائع الناس، ومتحوّلًا من ثَمَّ إلى التحليل الاجتماعي وناظرًا من جهة إلى جانب العائلة، ومن جهة أخرى ناظرًا إلى جانب الجماعة، في جانب العائلة كاشفًا عن أسباب التنافس والخصومة، وما يوجب النفرة بين فئتين تختلف من جهات الخليقة والنشأة والتفكير، وفي جانب الجماعة كاشفًا عن المقابلة والموازنة بين أعوان الفريقين.

وفي المنهج التاريخي، تتبّع العقّاد محطّات سير الحسين وحركته من المدينة إلى مكة ثم إلى العراق، ومتوقّفًا عند كربلاء المكان والمعركة والمصيبة والحرم المقدّس، ومتسائلًا في نهاية المطاف: من الظافر؟ ومنهيًا العمل بخاتمة تلفت الانتباه في موضوعها وسياقها وحتى في عنوانها، فقد عنونها العقّاد بعنوان: (في علم الجمال)، ناقلًا الحديث فيه إلى عالم الأدب، متطرًقًا إلى جمالية الشعر والشعراء في رثاء الحسين (عليه السلام).

هذا عن المنهج وتطبيقاته، أمّا عن الآراء والمواقف، فعند الحديث عن جانب الشخصية وتحليله النفسي لما سمّاه المزاجين التاريخيين، يرى العقّاد أن هناك مزاجين متقابلين يتناوبان طبائع الناس، مزاج يعمل أعماله للأريحية والنخوة، ومزاج يعمل أعماله للمنفعة والغنيمة، وفي ماضي الشرق وحاضره هناك كثير من الحركات التاريخية التي وقع الصدام فيها بين الأريحية والمنفعة على أكثر من غرض واحد.

ولا يحسب العقاد أنه مهتدٍ إلى نموذج لهذا الصدام أوضح في المبادئ، وأهدى إلى النتائج، وأبين عن خصائص المزاجين معًا، من النموذج الذي عرضه لنا التاريخ في النزاع بين الطالبيين والأمويين، ولا سيما النزاع بينهما على عهد الحسين بن علي ويزيد بن معاوية، فقد بلغ كلاهما من موقفه -حسب قول العقاد- أقصى طرفيه، وأبعد غايتيه، فانتصر الحسين بأشرف ما في النفس الإنسانية من غيرة على الحق، وكراهة للنفاق، وانتصر يزيد بأرذل ما في النفس الإنسانية من جشع ومراء وخنوع لصغار المتع والأهواء... وإلى الأفق الأعلى من الأريحية والنخوة ارتفعت بالنفس الإنسانية نصرة الحسين، وإلى الأغوار المرذولة من الخسّة والأثرة هبطت بالنفس الإنسانية نصرة يزيد[5].

وختم العقّاد الحديث عن هذا الجانب بقوله: إن حياة الحسين صفحة، لا تماثلها صفحة في توضيح الفارق بين خصائص هذين المزاجين، وبيان ما لكل منهما من عدّة للنجاح في كفاح الحياة، سواء نظرنا إلى الأمد البعيد أو قصرنا النظر على المدى القريب[6].

وعند حديثه عن جانب الشخصية من جهة تأثيرات الأسرة وتحليله النفسي والاجتماعي، يرى العقاد أنه أمام خصمين الموازنة بينهما هي في بعض وجوهها موازنة بين الهاشميين والأمويين، اللذين يختلفان في الأخلاق والأمزجة، فبنو هاشم –كما يقول العقاد- في الأغلب مثاليون أريحيون ولا سيما أبناء فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وبنو أمية في الأغلب الأعم عمليون نفعيون ولا سيما الأُصلاء منهم في عبدشمس من الآباء والأمهات.

واستنادًا لهذا الإطار التحليلي النفسي الاجتماعي، يرى العقّاد أن تقابل الحسين بن علي ويزيد بن معاوية فيه تمثيل الأسرتين، والمزيّة الأولى التي ينبغي للحسين هي مزيّة نسبه الشريف ومكانه من محبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبهذه المزيّة كان الحسين في نظر العقّاد، أحب إنسان إلى قلوب المسلمين، وأجدر إنسان أن تنعطف إليه القلوب، وقد اشتهر على الجود بصفتين من أكبر الصفات الإنسانية وأليقهما ببيته وشرفه وهما الوفاء والشجاعة.

ويضيف العقّاد وليس في بني الإنسان من هو أشجع قلبًا ممّن أقدم على ما أقدم عليه الحسين في يوم كربلاء، أما خصمه فيقف أمامه موقف المقابلة والمناقضة، لا موقف المقارنة والمعادلة.

وحين تحدّث عن أعوان الفريقين، ختم العقاد حديثه بما نصه: «وهكذا كان ليزيد أعوان إذا بلغ أحدهم حدّه في معونته فهو جلّاد مبذول السيف والسوط في سبيل المال، وكان للحسين أعوان إذا بلغ أحدهم حدّه في معونته فهو شهيد يبذل الدنيا كلها في سبيل الروح، وهي إذن حرب جلّادين وشهداء»[7].

وتساءل العقاد: هل أصاب الحسين؟

وأجاب في مفتتح الحديث بقوله: إن خروج الحسين من مكة إلى العراق حركة لا يسهل الحكم عليها بمقياس الحوادث اليومية؛ لأنها حركة من أنذر حركات التاريخ في باب الدعوة الدينية أو الدعوة السياسية، لا تتكرّر كل يوم، لا يقوم بها كل رجل... هي حركة لا يأتي بها إلَّا رجال خلقوا لأمثالها، فلا تخطر لغيرهم على بال؛ لأنها تعلو على حكم الواقع القريب الذي يتوخّاه في مقاصده سالك الطريق اللاحب والدرب المطروق، هي حركة فذّة يقدم عليها رجال أفذاذ... وجملة ما يقال: إن خروج الحسين من الحجاز إلى العراق كان حركة قوية لها بواعثها النفسية التي تنهض بمثله، ولا يسهل عليها أن يكبتها أو يحيد عن مجراها، وإنها قد وصلت إلى نتائجها الفعّالة من حيث هي قضية عامة تتجاوز الأفراد إلى الأعقاب والأجيال.

ولا خلاف عند العقّاد ولا جدال أن الحسين في حركته قد أصاب، بل وأصبح ينبوع شهادة متعاقبة لا يقرن بها ينبوع في تاريخ البشر أجمعين... ويرى العقاد أن مأساة كربلاء كلها ختمت بعد أيام معدودات، ولكنها أيام بقيت لها جريرة لم يخمدها طالب منفعة، ولا طالب مروءة، ومضت مئات السنين وهي لا تمحو آثار تلك الأيام في تاريخ الشرق والإسلام.

أما كربلاء وكيف تحوّلت صورة المكان من عالم النسيان إلى عالم الذكرى والتذكُّر، فقد صوّر العقّاد ذلك بقوله: كربلاء التي لم يكن لها ما تذكر به... وليس لها من موقعها ولا من تربتها، ولا من حوادثها ما يُغري أحدًا برؤيتها... ولعل الزمن كان خليقًا أن يعبر بها سنة بعد سنة، وعصرًا بعد عصر، دون أن يُسمع لها اسم أو يُحسَّ لها بوجود... وشاءت مصادفة من المصادفات أن يُساق إليها ركب الحسين... فاقترن تاريخها منذ ذلك اليوم بتاريخ الإسلام كلّه، ومن حقّه أن يقترن بتاريخ بني الإنسان.

هذا عن كربلاء الأمس، أما عن كربلاء اليوم فهي حسب قول العقّاد: «حرم يزوره المسلمون للعبرة والذكرى، ويزوره غير المسلمين للنظر والمشاهدة، ولكنها لو أعطيت حقّها من التنويه والتخليد، لحقّ لها أن تصبح مزارًا لكل آدمي يعرف لبني نوعه نصيبًا من القداسة، وحظًّا من الفضيلة؛ لأننا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمى وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء بعد مصرع الحسين فيها، فكل صفة من تلك الصفات العلوية التي بها الإنسان إنسان... فهي مقرونة في الذاكرة بأيام الحسين في تلك البقعة الجرداء»[8].

وأراد العقاد أن يختم كتابه برثاء الحسين ناعيًا له بأجمل ما قيل في حقّه شعرًا، ومن أجزل الشعراء نبلًا وحبًّا للحسين (عليه السلام) فقد تمثّلت -كما يقول العقاد- سجية عاشق الجمال في كل شعر نظمه شعراء الحسين وذويه تعظيمًا لهم وثناء عليهم، فلم يتّجهوا إليهم ممدوحين، وإنما اتّجهوا إليهم صورًا مُثلى يهيمون بها كما يهيم المحبّ بصورة حبيبة، ويستعذبون من أجلها ما يصيبهم من ملام وإيلام.

ومن هؤلاء الشعراء الذين أشار لهم العقّاد مقتبسًا أبياتًا من شعرهم في رثاء الحسين، جاء في مقدّمتهم الكميت بن زيد الأسدي (توفي 126) واصفًا إياه بشاعر أهل البيت، ومنهم دعبل الخزاعي (148 - 246هـ) واصفًا إياه بالشاعر العجيب، ومنهم علي بن العباس بن الرومي واصفًا إياه بالشاعر الفحل.

وأشار العقاد إلى أبي العلاء المعري (363 - 449هـ) ناقلًا عنه هذه الأبيات:

وعلى الدهر من دماء الشهيـ

ـدين عليّ ونجله شاهدان

فهما في أواخر الليل فجرا

ن وفي أولياته شفقان

ثبتا في قميصه ليجيء الـ

ـحشر مستعديًا إلى الرحمن

وفي الأسطر الأخيرة من كتابه ختم العقاد بقوله: إن وحي الشعر من سرائر النفوس لأصدق حكمًا من لسان التاريخ إذا اختلف الحكمان، ولكنهما قد توافيا معًا على مقال واحد، فجلّوا لنا من سيرة الحسين صورة الجمال في عالم المثال، وكذلك يعيش ما عاش في أخلاد الناس[9].

-3-
الشرقاوي.. والحسين ثائرًا وشهيدًا

تفرّد عبدالرحمن الشرقاوي بنمط الكتابة عن الإمام الحسين (عليه السلام)- لأنه ولج له من طريق مختلف، تمايز به عن الآخرين وما جرت عليه السيرة في الكتابة والتصنيف قديمًا وحديثًا، فقد ولج له الشرقاوي من طريق أدب المسرح الشعري، ومثّل به أول عمل فني مسرحي حول الحسين في الأدب المصري الحديث، وإذا لم يكن أول عمل فني كذلك على مستوى الأدب العربي الحديث، فلعلّه الأبدع والأروع.

وفي نطاق الأدب العربي الحديث، يعدّ الشرقاوي من الرواد الأوائل الذين اقتحموا مجال كتابة المسرحية الشعرية العربية، فأول عمل صدر له يرجع إلى سنة 1962م مع مسرحية (مأساة جميلة) التي تناول فيها نضال المناضلة الجزائرية المعروفة جميلة بوحريد، وامتدت أعماله المسرحية إلى سنة 1985م، منجزًا سبع مسرحيات شعرية آخرها مسرحية (أحمد عرابي زعيم الفلاحين) التي نشرها على حلقات في صحيفة الأهرام سنة 1981م، وجمعها لاحقًا في كتاب صدر سنة 1985م.

يصنّف أدب الشرقاوي وينسب إلى ما يعرف بالاتّجاه الواقعي والاجتماعي والنقدي، واصطبغت بهذا الاتّجاه وتلوّنت جميع أعماله على تعدّد مجالاتها وتنوّع أجناسها، فقد عرف عنه كتابة القصة والرواية والمسرح الشعري والدراسة والسيرة، وكان بارعًا فيها ومميّزًا.

وكشف الشرقاوي عن هذا الاتّجاه الواقعي الاجتماعي النقدي، مع أول رواية له هي رواية (الأرض) التي اشتهر بها، وكان قد نشرها على حلقات في صحيفة المصري سنة 1953م، وأصدرها لاحقًا في كتاب سنة 1954م، وتحوّلت إلى فيلم سينمائي بالعنوان نفسه سنة 1970م.

في مسرحيتي الحسين ثائرًا والحسين شهيدًا، قدّم الشرقاوي عملًا فنيًّا بديعًا ومؤثّرًا، حاول أن يعطي العمل حقّه الفني والأدبي من ناحيتي الكم والكيف، ظهر جانب الكم حين بسط الشرقاوي الحديث وتوسّع في العمل وحوّله إلى جزأين، مستوعبًا ما قبل قضية المعركة حين كان الحسين ثائرًا، وما بعد المعركة حين كان الحسين شهيدًا.

وظهر جانب الكيف حين أبرز الشرقاوي بشكل وافٍ وبليغ ومؤثّر مبادئ الحسين وقيمه في العدل والتضحية والإخاء، فالحسين عنده قد قدّم أروع بطولة عرفها التاريخ الإنساني.

ومن الواضح أن الشرقاوي في هذا العمل كان وفيًّا لحبّه للحسين الذي تعلّمه من أمه صغيرًا، ولم يخفِ هذا الأمر، مذكّرًا به في الإهداء الذي خصّه لأمه قائلًا: إلى ذكرى أمي التي علّمتني منذ طفولتي أن أحبّ الحسين ذلك الحب الحزين الذي يخالطه الإعجاب والإكبار والشجن، ويثير في النفس أسى غامضًا، وحنينًا خارقًا إلى العدل والحرية والإخاء وأحلام الخلاص[10].

والذين عرفوا الشرقاوي علموا منه هذا الحبّ الدافئ والحميمي للحسين، وأشار إلى ذلك صديقه الكاتب اللبناني كريم مروّة قائلًا: «كان الشرقاوي شديد الإعجاب بشخصية الحسين، وحين زار ضريحه في كربلاء في السبعينات بكى عليه بكاء المؤمن به، كما لو أن الحسين كان يستشهد أمامه في تلك اللحظة بالذات»[11].

وحين تحدّث الشرقاوي عن نفسه من هذه الجهة، رأى أنه ملتزم بالتربية التي أخذها من والديه حبًّا للرسول وأهل بيته، فوالده غرس في قلبه منذ أن وعى حبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولهذا أهدى له كتابه (محمد رسول الحرية) الصادر سنة 1962م.

ووالدته غرست في قلبه حبّ علي والحسين، وعندما يصف حبّه للإمام علي (عليه السلام) يقول الشرقاوي: أكنُّ له حبًّا عظيمًا، ولا يستطيع أحد أن يلومني في حبّه وحبّ آل البيت[12].

وظهر حبّ الشرقاوي للإمام علي (عليه السلام) وتجلّى في كتابه (علي إمام المتقين) الصادر في جزأين ما بين سنتي 1984 - 1985، وأشار لهذا الحب في الإهداء الذي خصّه لأخيه الأكبر قائلًا: «إنها صفحات عن إنسان عظيم، تعوّدنا أن نحبّه منذ الصغر، وحفظنا عنه كلماته الجليلة، وما زالت قلوبنا تخفق بحبّه، لا لأن آباءنا علّمونا أننا من ذرية ابنه الحسين فحسب، ولكن لأننا حين تعرّفنا عليه أكبرنا فيه تلك الفضائل الرائعة التي تجعل الإنسان قادرًا على أن يدافع عن الحق والحرية والعدل، مهما تكن المعاناة، ومهما تكن صولة الباطن».

والانطباع الذي تكوّن عندي حول الشرقاوي شخصًا وفكرًا، بعد مطالعة ما كتبه عن الإمام الحسين (عليه السلام) وجدت لاحقًا أن مثل هذا الانطباع قد ألمح إليه الذين عرفوه وكتبوا عنه، فقد انطبع عندي أن الشرقاوي أظهر عاطفة صادقة وقويّة نبضت بها كلماته عن الحسين، وكان حرًّا وشجاعًا في التعبير عن رأيه، وصاحب ضمير حي.

ويبدو أن هذا الانطباع من السهولة التوصّل إليه لكل من يقترب من الشرقاوي وعالمه الأدبي، وذلك لشدّة وضوحه وشفافيته، وقد عبّر عن مثل هذا الانطباع الدكتور عبدالعزيز شرف حين تحدّث عن أدب الشرقاوي مميّزًا له بقوله: تظهر «الرؤية الإبداعية في أدب عبدالرحمن الشرقاوي على خصائص ثلاث يصدر عنها فيما يكتب ويبدع، ونعني بها الأصالة أو الجدة في العواطف المعبّر عنها، الوضوح في التعبير عن هذه العواطف، إخلاص الأديب المبدع، أو شدة العواطف التي يعبّر عنها»[13].

وأمّا عن وصفه حرًّا وشجاعًا في التعبير عن الرأي، فلا أظن أن أحدًا يختلف على هذه الصفة في شخصية الشرقاوي، وهو الذي أفصح عنها بقوله: «إني منذ أخذت الكلمة أداة للتعبير، أعيش لأكتب، وما أنا من هؤلاء الذين يكتبون ليعيشوا، من أجل ذلك قد عانيت أهوالًا من ألوان العذاب في أيام منعي من الكتابة، أو امتناعي مرغمًا عن الكتابة، ويومًا بعد يوم تحوّلت الآلام النفسية إلى الآم جسدية هائلة»[14].

وتأكيدًا لهذا الموقف وترسيخًا له، يضيف الشرقاوي قائلًا: «كنت انتمي إلى الذين يمكن أن يستشهدوا دفاعًا عن الحق والحرية والخير والإخاء، وكل ما أؤمن من أجله... فما بالي إذن لا أتحمّل الآلام مهما تكن جسامتها وغلظتها في سبيل التعبير بالكلمة عمَّا أعيش من أجل تحقيق حرية الإنسان، أن يصبح الإنسان بحقٍّ أخًا للإنسان، وانتصار العدل»[15].

ولعل أوضح من عبّر عن هذه الصفة صديقه صلاح جلال بقوله: كان الشرقاوي (أستاذًا في الوفاء، وفي الإخلاص لقضايا الإنسان وحقّه في العدل، كان ثائرًا حتى لو كانت ثورته على حساب صحته، إنه الكاتب الذي تعلّم الشجاعة في إبداء الرأي، والصلابة في الدفاع عنه، والتضحية بكل شيء من أجل الحق والعدالة»[16].

كان من السهولة على الشرقاوي بهذا الضمير الحي، وبهذا الوجدان الشفاف، أن يقترب من الحسين هذا الاقتراب الحميم، ويتعلّق به هذا التعلّق المشوب بالحبّ الحزين، فَمَنْ يعشق العدل والحرية لا بد أن يعشق الحسين الذي وجد فيه الشرقاوي أنه يثير في النفس حنينًا خارقًا إلى العدل والحرية.

وعندما اختار الشرقاوي الكتابة عن الحسين منتهجًا أدب المسرحية الشعرية، قاصدًا من هذا العمل أن يرى النور ويظهر أمام الجمهور على خشبة المسرح، إدراكًا منه بقوة تأثير المسرح في الجمهور العام خاصة في بلد مثل مصر الذي يعشق المسرح ويتأثّر به بشدة، وتقديرًا منه أنه بصدد تقديم مسرحيات ستكون من المسرحيات الخالدة والعظيمة في تاريخ تطوّر المسرح المصري الحديث، لكن أمنيته لم تتحقّق شاعرًا بالحزن والأسف.

ونختم الحديث عن الشرقاوي باقتباس نصٍّ له، ونختار النص الرائع والبديع الذي ختم به نهاية العمل، معبرًا فيه عن الجوهر الإنساني لقضية الحسين متحدثًا بلسانه قائلًا:

فلتذكروني لا بسفككم دماء الآخرين

بل فاذكروني بانتشال الحق من ظفر الضلال

بل فاذكروني بالنضال على الطريق

لكي يسود العدل فيما بينكم

فلتذكروني بالنضال

فلتذكروني عندما تغدو الحقيقة وحدها

حيرى حزينة

...

فلتذكروني حين يختلط المزيف بالشريف

فلتذكروني حين تتشبه الحقيقة بالخيال

وإذا غدا جبن الخنوع علامة الرجل الحصيف

وإذا غدا البهتان والتزييف والكذب المجلجل هن

آيات النجاح

فلتذكروني في الدموع

....

فلتذكروني وثأري العظيم لتأخذوه من الطغاة

وبذاك تنتصر الحياة

فإذا سكتّم بعد ذاك على الخديعة وارتضى الإنسان ذله

فأنا سأذبح من جديد

وأظل أقتل من جديد

وأظل أقتل كل يوم ألف قتلة

سأظل أقتل كلما سكت الغيور وكلما أغفا الصبور

....

ويظل يلعنكم وإن طال المدى جرح الشهيد

لأنكم لم تدركوا ثأر الشهيد

فأدركوا ثأر الشهيد[17].

هذا هو الشرقاوي الذي حفر في وجدانه حبًّا عميقًا للحسين، فحفر في وجدان الآخرين حبًّا له.

-4-
محمد خالد.. وأبناء الرسول في كربلاء

كتاب الأستاذ خالد محمد خالد (أبناء الرسول في كربلاء) يتشبّه كثيرًا بكتاب العقّاد السالف الذكر، خاصة من جهته البنائية والتركيبية، وهكذا في موقفه العام، فهما كتابان كأنهما شقيقان، يلتقيان ولا يفترقان، يتوافقان ولا يختلفان، يتعاضدان ولا يتخاذلان.

أقام خالد بنية كتابه دفاعًا عن أمرين مترابطين، يمثلان له جوهر فلسفة العمل وحكمته، وهما:

الأمر الأول: ويتّصل بطريقة النظر إلى زمن حادثة كربلاء.

الأمر الثاني: ويتّصل بطريقة التعامل مع هذه الحادثة.

بشأن الأمر الأول، حاول خالد أن يميّز يوم كربلاء ويعظّمه ويرفع من شأنه، ويعطيه صفة اليوم الفريد ليس على مستوى الإسلام والتاريخ الإسلامي فحسب، وإنما على مستوى تاريخ البشرية.

وظل خالد ثابتًا وجازمًا بهذا الرأي، يذكّر به متفاخرًا، ويبالغ متعمدًا في وصفه، فإلى جانب وصفه باليوم الفريد، أضاف له أوصاف اليوم المجيد واليوم الرهيب.

وهذا الرأي هو أول ما حاول خالد الإشارة إليه، والتنويه به، كما لو أنه يمثّل رمز الدخول لتكوين المعرفة بقضية الكتاب وحكمته، فقد أشار إليه في مفتتح الكتاب منذ الأسطر الأولى بقوله: «من الصعب أن نجد في تاريخ البشرية كله، يومًا كذلك اليوم الفريد والمجيد، وأبطالًا كأولئك الأبطال الشاهقين والباهرين؛ إذ لم يكن الأمر في ذلك اليوم أمر شهداء برزوا لمناياهم في استبسال وغبطة، ولا أمر جيش، خرج لجيش مثله، فأبلى وأحسن البلاء، إنما الأمر الذي شغل الدنيا في يوم كربلاء، هو أنه اليوم الذي تجلّت فيه قداسة الحق، وشرف التضحية على نحو متميّز وفريد»[18].

هذا في النطاق العام وعلى مستوى تاريخ البشرية، وفي النطاق الخاص وعلى مستوى تاريخ الإسلام، يرى خالد تأكيدًا لرأيه قائلًا: «صحيح أن تاريخ الإسلام مترع بالمشاهد الزاخرة بقداسة الحق وشرف التضحية... بيد أن يوم كربلاء تبقى له سمته المجيدة، وميزته الفريدة، فالقضية الجليلة التي دار من أجلها الصراع، والقلّة الصامدة الماجدة، التي وهبت حياتها لتلك القضية، والطريقة التي دار بها القتال بين أربعة آلاف فارس من جيش ابن زياد، واثنين وسبعين لا غير هم أنصار الإمام الحسين، والأحداث المروّعة التي سبقت ذلك اليوم، والحصار الأليم والعظيم الذي خلفه، بعد أن مالت شمسه للغروب. كل ذلك يجعل من كربلاء يومًا فريدًا في تاريخ الآلام والبطولات، في تاريخ التضحية والمجد، في تاريخ المأساة والعظمة»[19].

وبشأن الأمر الثاني، انتقد خالد طريقة تصوير حادثة كربلاء، والوقوف عند اعتبارها تمثّل مأساة وفاجعة، ومناسبة للبكاء والعويل، واجترار الأحزان والآلام، ويرى أنّنا نظلم كربلاء ظلمًا كبيرًا حين نظنّها مأساة لا غير، وفاجعة لا أكثر، وفي نظره أن كربلاء هي مأساة وفاجعة إذا نظرنا إلى الشكل الخارجي للمعركة، ورأينا السّفلة والأدعياء ينتصرون، ورأينا الوحشية المجرمة تفتك بأبناء الرسول.

وفي الوجه الآخر، يرى خالد أن يوم كربلاء ليس مأساة وفاجعة إذا نفذنا ببصرنا إلى جوهره النضير، فرأينا عظمة الثبات، وروعة البطولة، وعزّة الإيمان، وجلال التضحية في مهرجان للحق، هيهات أن يكون له نظير[20].

ووجه الملاحظة عند خالد، أن المسلمين لم يعرفوا بعدُ حق يوم كربلاء عليهم، ولا واجبهم تلقاءه، ويرى أن «الأقدار لم تدع رؤوس أبناء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تحمل على أسنة رماح قاتليهم، إلَّا لتكون مشاعل على طريق الأبد، للمسلمين خاصة، وللبشرية الراشدة كافة، يتعلّمون في ضوئها الباهر، أن الحق وحده هو المقدّس، وأن التضحية وحدها هي الشرف، وأن الولاء المطلق للحق والتضحية العادلة في سبيله، هما وحدهما اللذان يجعلان للإنسان والحياة قيمة ومعنى»[21].

ومن الآراء التي تعرّض لها خالد بالاعتراض والنقد، وكانت مثيرة للنظر، الرأي الذي يضع موقف الحسين بين جدلية الجمود والتقدّم، وحسب قول خالد: «يبدو لبعض الذين يفكّرون في عجلة أن الإمام الحسين ومن قبله والده الإمام علي كانا بإيمانهما، وبما ينشدان للحياة وللحكم من ورع وتقوى يمثّلان جمودًا لم تعد تطيقه الحياة بعد التطوّر البعيد الذي حقّقه الإسلام وانفعل به، فالحق أنهما على العكس تمامًا، كانا يمثّلان روح التقدّم وضميره... فالإيمان الذي حمل الحسين لواءه، وذهب شهيده كان لهذا كله، وبهذا كله إيمانًا مستنيرًا وواعيًا ورشيدًا»[22].

وبقيت كربلاء وتفوّقت بقوّة نورها الباهر، ولم ينطفئ نورها على مدى الأيام والعصور، هذا هو الدرس الذي حاول خالد الانتهاء إليه، والتأكيد عليه، وحسب قوله: «إن الدرس الذي يلقيه يوم كربلاء بآلامه وبطولاته، بمأساته وعظمته، ليتفوّق على نظرائه في قوّة النور الباهر الذي أضاء به ضمير الحياة... وأن جذوة الحق والصمود التي أضاءها الحسين وأصحابه بدمائهم لم تنطفئ، ولم يخبُ نورها باستشهاده، بل ازدادت ألقًا واندلاعًا على نحو يبهر الألباب»[23].

-5-
ملاحظات وتحليلات

أمام هذه الأعمال الأربعة التي تعدّ من روائع الأدب المصري الحديث المدوّن حول الإمام الحسين (عليه السلام) يمكن تسجيل الملاحظات والتحليلات الآتية:

أولًا: عند النظر في هذه المؤلّفات الأربعة من جهة الشهرة وأفق التداول، وتحديدًا خارج النطاق المصري، يمكن القول بسهولة وبنوع من الوثوقية: إن كتاب العقاد (أبو الشهداء)، قد نال شهرة فاق بها المؤلّفات الأخرى، متخطيًا لها في درجة الاهتمام، وسعة المتابعة، وأفق التداول.

وظهرت شهرة كتاب العقّاد وتجلّت في صور وتمثّلات عدّة، لعل من الصعب حصرها كليًّا، ومن هذه الصور والتمثّلات التي يمكن الإشارة إليها: يذكر في سيرة السيد محمد مهدي الأصفهاني الكاظمي (1319 - 1391هـ/ 1901 - 1971م) وهو عالم إيراني ولد وتوفّي في العراق، وعرف بمؤلفاته الكثيرة، وضمن مؤلفاته المخطوطة يذكر له كتاب بعنوان (أبو الشهداء والعقّاد)، ويحتمل أنه ما زال مخطوطًا.

ومن هذه الصور، ما تمثّل في كتاب الشيخ مرتضى المطهري (1340 - 1400هـ/ 1919 - 1979م) الموسوم بـ(الملحمة الحسينية) الذي يقع في ثلاثة أجزاء، في هذا الكتاب وتحديدًا في الجزء الثالث حضر كتاب العقّاد وتواتر الحديث عنه كثيرًا، وبشكل يلفت الانتباه له، بينما غابت كتب الشرقاوي وخالد ولم يأتِ الشيخ المطهري على ذكرها أبدًا، حتى بمجرّد الإشارة إلى اسم المؤلف أو عنوان الكتاب، وكأن لا دراية له بهذا الشأن.

من هذه الصور كذلك، ما تمثّل في العناية بالتحقيق العلمي لكتاب العقّاد، وهو العمل الذي قام به الباحث العراقي محمد جاسم الساعدي، وصدر سنة 2004م عن مركز التحقيقات والدراسات العلمية في المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في طهران، وقد احتوى الكتاب على مقدّمة للمحقّق جاءت في (40) صفحة، عرّفت بالكاتب وسيرته، وبالكتاب وموضوعه، وشرحت المنهجية المتّبعة في التحقيق، كما احتوى الكتاب على قائمة تراجم للشخصيات التي وردت أسماؤهم وضمت (77) اسمًا جاءت في (26) صفحة، إلى جانب الفهارس العامة للآيات والأحاديث والأشعار والأعلام والأماكن والفرق والمصادر جاءت في (46) صفحة.

يضاف إلى ذلك الطبعات المتتالية لكتاب العقّاد خارج مصر، في لبنان والعراق وإيران وغيرها، وترجمته إلى الفارسية والتي أنجزها الشيخ محمد كاظم معزي، وصدرت في طهران عن المكتبة العلمية الإسلامية.

هذه الشهرة المتفوّقة حصل عليها كتاب العقّاد وكان يستحقها بجدارة، ولا أظن أن هنا الأمر يمكن أن يمثّل مورد نزاع أو خلاف عند الشرقاوي وخالد المشمولين بهذه المقاربة، وذلك لتفوّق كتاب العقّاد من جهة، ولشهرته الفائقة والممتدّة من داخل مصر إلى خارجها، والعابرة من العالم العربي إلى المحيط الإسلامي.

الشهرة التي لا جدال عليها ولا خلاف عند المصريين أنفسهم، وعند غيرهم من العرب والمسلمين، يضاف إلى ذلك أسبقية صدور كتاب العقّاد زمنًا، فهو يسبق كتابَي الشرقاوي بأربعة عقود، ويسبق كتاب خالد بأكثر من ذلك.

ثانيًا: لعل الباحث الإيراني الدكتور حميد عنايت (1932 - 1982م) في كتابه (الفكر السياسي الإسلامي المعاصر) هو أسبق من لفت الانتباه إلى تلك المؤلّفات الأربعة مجتمعة، وجاء التطرّق إليها في سياق الحديث عن التجديد الشيعي بالإشارة إلى ثلاثة قضايا، منها قضية الشهادة، ومن هذه القضية ولج للحديث عن تلك الأعمال.

وفي تحليله لهذه المؤلّفات، رأى الدكتور عنايت أنها تنتمي لما سمّاه التفسير الجديد عند أهل السنة لحادثة كربلاء، التفسير الذي يمتدح حركة الحسين بدلائل أخلاقية وسياسية، والمغاير للتفسير السني القديم المستوحى والمتوارث بصورة رئيسة من اثنين أشار لهما الدكتور عنايت، هما: القاضي الأندلسي أبو بكر بن العربي (468 - 543هـ) صاحب كتاب (العواصم من القواسم)، وعبدالرحمن بن خلدون (732 - 808هـ/ 1332 - 1406م) صاحب المقدّمة الشهيرة.

وما قرب الدكتور عنايت من هذه المؤلّفات والتعرّف إليها، هو قربه من الأدب المصري واهتمامه بأفكار المجدّدين المصريين، ويتّصل بهذا النطاق رسالته للدكتوراه التي حصل عليها من جامعة لندن في العلوم السياسية سنة 1962م، وكانت حول تأثير الغرب في القومية العربية، إلى جانب ذلك ذكر الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا (1943 - 1998م) أن عنايت نشر بحثًا حول الإسلام والاشتراكية في مصر.

وظهر هذا الاهتمام بالأدب المصري وتجلّى عند عنايت في كتابه (الفكر السياسي الإسلامي المعاصر)، الذي خصّ فيه الاهتمام بالأفكار التي قدّمها المصريون مقدّمًا الإشارة إليهم على غيرهم في مفتتح كتابه قائلًا: «يعرض هذا الكتاب الفكر السياسي عند المسلمين في القرن الحالي ويفسّره، ويهتمّ خاصة بالأفكار التي قدّمها المصريون والإيرانيون إلى جوار بعض كتّاب باكستان والهند ولبنان وسوريا والعراق ومفكريها»[24].

وساعد على هذا القرب وسهّل عليه معرفة الدكتور عنايت باللغة العربية، فقد عرف عنه أنه صاحب لغات متعدّدة، فهو يتقن الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وله إلمام بالروسية واليابانية، وعن صلته باللغة العربية يذكر أنه أمضى سنة في جامعة خرطوم بالسودان في الفترة ما بين (1965 - 1966م) بصفة أستاذ زائر.

ومن جهة الرأي والتحليل فقد حاول عنايت أن يميّز طرحه بالصرامة الأكاديمية متجنبًا الثناء والتبجيل، فلم يمتدح المؤلّفات الأربعة المذكورة بشيء، والقدر الذي أشار إليه تعلّق بكتابي الشرقاوي حين وصف طرحه بالعرض القوي، وجاء عرضه لكتاب العقّاد باردًا وباهتًا، لم يعطه حقّه، ولم يميّزه بشيء سوى قوله عن مؤلّفه: إنه كان من أبرز الأشخاص الذين كتبوا حول هذا الموضوع آنذاك من الكتّاب المصريين غير الدينيين.

وفي نطاق التحليل، وجد عنايت إمكانية تطبيق التصنيف الأيديولوجي على المؤلّفات المذكورة، مستثنيًا كتاب العقّاد الذي لم يدرجه ضمن تصنيف محدّد، إمّا لصعوبة تصنيفه، وإمّا لعدم انطباق التصنيف الأيديولوجي عليه، وإمّا أنه سقط سهوًا، وإما لسبب آخر لا نعرفه.

في حين رأى عنايت أن الشرقاوي في كتابيه مثّل التفسير اليساري الذي يصوّر ثورة الحسين كنضال طبقي وكونه ثار نيابة عن الجماهير الفقيرة، بينما اعتبر كتاب محمد خالد أنه جاء معبّرًا عن النظرة المثالية.

أما الملاحظة النقدية الأساسية التي سجّلها عنايت على تلك المؤلّفات، خاتمًا الحديث عنها، فإنها تحدّدت في اعتبار أن تلك الأعمال قد افتقدت إلى التحليل النقدي للنصوص التاريخية، وحسب كلامه «لم يقم كاتب قط من هؤلاء الكتّاب ببناء بحثه واحتجاجه على تحليل نقدي للنصوص التاريخية بهدف بيان تناقضاتها وانعدام الدقة فيها، فكل ما يكتبه الكاتب مبني على تأمّل شخصي، فهم يجدون ببساطة أن آراءهم متّفقة مع المصادر الرسمية القديمة»[25].

ثالثًا: يعدّ كتاب (الملحمة الحسينية) للشيخ مرتضى المطهري من المؤلّفات المهمّة في موضوعه، بغض النظر عن جانب الاتّفاق معه أو الاختلاف، الكلي أو النسبي، والسّمة الغالبة عليه والمميّزة له هي سمة النقد، فالكتاب يظهر بمظهر الطابع النقدي بأبعاده الدينية والاجتماعية والتاريخية.

وبسبب هذا الطابع النقدي الطاغي، فقد أثار الكتاب جدلًا واسعًا وساخنًا في الوسط الديني في الداخل الإيراني وامتدّ إلى خارجه، وعدّ لاحقًا من أكثر مؤلّفات الشيخ المطهري إثارة للجدل والسجال، وكشف عن ذلك طبعاته المتتالية العربية والفارسية التي لم تتوقّف، وقيل: إنها فاقت الستين طبعة ضاربة رقمًا قياسيًّا.

وفي المجال العربي مثّل السيد جعفر مرتضى العاملي محطّة مهمّة من محطات تطوّر الجدل والسجال حول الكتاب، وذلك حين شكّك في نسبة الكتاب للشيخ المطهري نافيًا هذه النسبة، ومظهرًا عناية كبيرة بهذا الأمر، فقد بذل جهدًا بحثيًّا لتأكيد صحة رأيه، تجلّى هذا الجهد في الكتاب الذي خصّصه لهذه القضية، ونعني به كتاب (كربلاء فوق الشبهات) الصادر سنة 1420هـ، وبقي السيد العاملي يلاحق هذه القضية ويتابعها مع الإضافات التي ضمّنها الطبعات الأخرى من الكتاب.

تكوّن كتاب الشيخ المطهري من ثلاثة أجزاء، الجزآن الأولان هما عبارة عن محاضرات ألقيت حول المناسبة في طهران، أما الجزء الثالث فقد تضمّن مدوّنات كتبت بخط اليد على شكل موضوعات وملاحظات، دارت حول حوادث وقضايا وكتب تتّصل بالمناسبة.

كنت قد طالعت الكتاب كاملًا بأجزائه الثلاثة، في الجزء الثالث المدوّن بخط اليد كان للعقّاد وكتابه (أبو الشهداء) حضور واسع وملحوظ؛ إذ نقل عنه الشيخ المطهري نصوصًا كثيرة، حتى أنه افتتح بعض موضوعات كتابه بأقوال له، كما في موضوع (فلسفة النهضة الحسينية)، هذا الحضور الواسع جعل كتاب العقّاد في منزلة المصدر والمرجع.

وفي جميع هذه النصوص ظهر المطهري متوافقًا مع العقاد، مستندًا إلى هذه النصوص، ومستوثقًا بها في تكوين آرائه وملاحظاته وتحليلاته الدينية والتاريخية، ولم يظهر المطهري اختلافًا مع هذه النصوص على كثرتها، ولا نقاشًا أو اعتراضًا، ولا حتى مرّة واحدة.

لكن وجه الملاحظة أن المطهري لم يُبدِ انطباعًا أبدًا حول كتاب العقّاد، لا مدحًا وثناء ولا ذمًّا وقدحًا، ولا نقدًا وتقويمًا، ولا شيئًا من هذا القبيل، وإن كان يفهم منه أنه كان أقرب إلى التأييد والموافقة لا أقل في حدود النصوص الكثيرة التي رجع إليها.

وتتأكّد هذه الملاحظة عند معرفة الطابع النقدي الذي تميّز به كتاب المطهري؛ إذ تطرق لمجموعة من المؤلّفات المعروفة وتعامل معها بمنطق النقد، مظهرًا الاختلاف معها، والاعتراض عليها، والذّم والقدح في بعضها.

من هذه المؤلّفات كتاب (الشهيد الخالد) للشيخ نعمة الله صالح نجف آبادي، الصادر سنة 1968م، والذي أثار ضجّة كبيرة في وقته خاصة بين طبقة رجال الدين، فقد اعتنى الشيخ المطهري كثيرًا بمناقشة هذا الكتاب، وإظهار جانب الاختلاف معه، محدّدًا بالصفحات نقاط الاختلاف والاعتراض.

ومن هذه المؤلّفات كذلك، كتاب (الحسين وارث آدم) للدكتور علي شريعتي (1352 - 1397هـ/ 1933 - 1977م)، الذي عدّه المطهري أنه مثّل شكلًا من أشكال التفسير المادي الماركسي للتاريخ، ونوعًا من التعزية الماركسية التي تقرأ على الإمام الحسين، واصفًا لها بتعزية مستحدثة[26].

ومن المؤلّفات الأخرى التي تطرّق لها المطهري بالنقاش كتاب (تحليل تاريخ عاشوراء) للدكتور محمد إبراهيم آيني، وكتاب (اللؤلؤ والمرجان) للميرزا حسين النوري الذي امتدحه المطهري وعدّه كتابًا فريدًا، ولا مثيل له في هذا الباب.

أما الكتب التي تركّز عليها نقد المطهري ذمًّا وقدحًا من جهة الصدقية والموثوقية، فهما كتابان: الأول كتاب (روضة الشهداء) للشيخ حسين الكاشفي المتوفَّى أواخر القرن التاسع أو أوائل القرن العاشر الهجري، وعدّه المطهري أول كتاب تمَّ تأليفه بالفارسية باسم مراثي الحسين، والثاني كتاب (أسرار الشهادة) للشيخ الفاضل الدربندي (توفِّي 1285هـ/ 1868م).

جميع هذه المؤلّفات أبدى حولها الشيخ المطهري وجهات نظر انطباعية أو تحليلية أو نقدية، لكن الصورة تغيّرت مع كتاب العقّاد، إذ لم يُبدِ المطهري حوله وجهة نظر لا بطريقة انطباعية، ولا بطريقة تحليلية، ولا بطريقة نقدية، ولا حتى بقول كلمة واحدة مدحًا أو ذمًّا.

ولا أدري على وجه التحديد لماذا حصل هذا الموقف؟ لكن الذي نعرفه أن في جميع الموارد التي أشار إليها المطهري جاءت في سياق الإسناد والتأييد بما يدل على الموافقة معها، وليس الاختلاف أو الاعتراض.

وما اختلف عنه هذا الكتاب مع باقي المؤلّفات الأخرى المذكورة، أن تلك المؤلّفات عرض لها الشيخ المطهري بقصد المناقشة والتحليل، وخرج كتاب العقّاد عن هذا القصد، فقد عرض له بقصد الإسناد والتوثيق وليس بقصد المناقشة والتحليل، مع ذلك تبقى الملاحظة قائمة حتى في حدود الجانب الانطباعي الذي كان غائبًا.

رابعًا: هناك من يرى أن الشرقاوي في كتابيه وسائر أعماله كان متأثرًا بالنزعة اليسارية، وتمّت الإشارة إلى هذا الأمر بثلاث صور، صورة الانتساب إلى التفسير اليساري، وصورة الانتساب إلى المزاوجة بين الاشتراكية والإسلام، وصورة الانتساب إلى ما سمّي اليسار الإسلامي.

الصورة الأولى أشار إليها الدكتور عنايت عند حديثه عن الشرقاوي في كتابه (الفكر السياسي الإسلامي المعاصر)، وحسب رأيه أن الشرقاوي في كتابيه الحسين ثائرًا وشهيدًا قد مثّل التفسير اليساري لحادثة كربلاء حين صوّر ثورة الحسين كنضال طبقي، وكنيابة عن الجماهير الفقيرة.

الصورة الثانية أشار إليها الكاتب اللبناني اليساري كريم مروّة، الذي تبيّن له بعد اطّلاعه على الكتب التراثية للشرقاوي، بدءًا من مسرحيته الشعرية المكرّسة لثورة الحسين بن علي واستشهاده، أن الشرقاوي قد توصّل إلى اقتناع فكري وفّق فيه بين انتمائه إلى الاشتراكية، وانتمائه إلى القيم التي حفل بها الإسلام كدين وحضارة.

ويرى مروة أن الشرقاوي حاول بجهد استثنائي أن يقدّم في تلك الكتب التراثية نماذج من أفكار ونماذج من شخصيات يؤكّد فيها أن ما ساد من خلاف وصراع بين الأفكار الاشتراكية والدين الإسلامي إنما كان من صنع أولئك الذين عملوا على استخدام الدين لتأمين مصالحهم الدنيوية[27].

الصورة الثالثة أشار إليها الشيخ محمد الغزالي (1341 - 1416هـ/ 1917 - 1996م) حين صنّف الشرقاوي على منحى اليسار الإسلامي، وذكر هذا الأمر الشرقاوي نفسه حين سئل عمَّا يسمّى باليسار الإسلامي وما مدى صحة تصنيفه عليه؟ فأجاب بقوله: إن الشيخ الغزالي هو الذي كتب أنه من اليسار الإسلامي ضمن مجموعة من الأسماء، لا يعرف الشرقاوي إلَّا واحدًا منهم من دون أن يسميه[28].

هذا الانتساب والتصنيف أثار دهشة الشرقاوي متعجّبًا منه في حقّ نفسه، ونافيًا له، واضعًا القضية في مسلك آخر، حدّده في اتّجاهين، الاتّجاه الأول له علاقة بالتربية والتنشئة الأسرية، والاتّجاه الثاني له علاقة بالمبادئ الإسلامية وطريقة النظر لها.

بشأن الاتّجاه الأول، يرى الشرقاوي أن مسألة اليسار والتزام مبدأ معين هذا الأمر لا يعنيه، وما يعنيه أنه ملتزم بشيء واحد كان عليه منذ وعى الحياة، هو أنه ملتزم بالتربية التي أخذها من والديه، خاصة من أبيه الذي كان رجلًا متديّنًا، فوالده غرس في قلبه منذ وعى حب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ووالدته غرست في قلبه حب علي والحسين (عليهما السلام) [29].

وبشأن الاتّجاه الثاني، يرى الشرقاوي أن الإسلام لا يمكن مقارنته بأي مذهب في العالم لأنه دين سماوي، فمقارنة الإنسان شيئًا سماويًّا بشيء وضعي أمر غير منطقي، وفي نظر الشرقاوي أن دين الإسلام قد حقّق من العدالة الاجتماعية في مبادئه ما يعجز عن تحقيقه أي مبدأ بما في ذلك فصائل اليسار، لهذا فهو مندهش لماذا ظهرت مسألة اليسار الإسلامي!

ويضيف الشرقاوي: إن المبادئ الإسلامية والسنة النبوية والبدهيات التي بنى عليها الفقهاء آراءهم هي التي تفتح أمامنا الكلام حول معاني التكافل الاقتصادي والمواساة، من دون الحاجة لاستيراد ذلك من أفكار مصطنعة، أو إدخالها في أطر أصغر من حجمها... مظهرًا تعجّبًا ممّن يريد أن يسخّر الإسلام للاشتراكية العلمية أو الماركسية، ومتسائلًا: لماذا نحاول أن نسحب تلك الفضائل من الإسلام ونضعها في مذهب وضعي؟[30].

ليس هناك أوضح من هذا الكلام الذي أراد منه الشرقاوي الإفصاح عن حقيقة ما يؤمن به، وما تربّى ونشأ عليه، وعن حقيقة مسلكه الفكري، مشكّكًا في صحّة ما يقال عن انتسابه إلى اليسارية والنزعة اليسارية أو إلى أي مبدأ آخر، وهو الانطباع الذي يتكوّن عادة عن الأشخاص الذين يدافعون بشدة عن قضايا المساواة والعدالة الاجتماعية كما هي حالة الشرقاوي.

خامسًا: في أواخر كتابه (علي وبنوه) تحدّث الدكتور طه حسين (1306 - 1393هـ/ 1889 - 1973م) عن الإمام الحسين (عليه السلام) حديثًا موجزًا وسريعًا بخلاف مواضيع وقضايا الكتاب الأخرى التي اتّسمت بالسرد والتفصيل التاريخي والتحليلي، استدعت لأن يصدر الكتاب في جزأين تحت عنوان (الفتنة الكبرى).

بدا لي أن الدكتور حسين لم يرد الإسهاب والتفصيل في هذا المورد الذي مثّل مفصلًا تاريخيًّا مهمًّا في تاريخ تطوّر عالم الإسلام، لكن من دون أن يفصح عن هذا الاختيار في القبض وعدم البسط.

ومن جهتي كنت قد هممت وباهتمام شديد في التعرّف إلى رؤية هذا الأديب الكبير لحركة الحسين ونهضته، وبهذا الداعي طالعت الكتاب كاملًا بجزأيه، لكني فوجئت من الرؤية التي وجدتها، فقد تحدّث عن الحسين بطريقة باردة، وكأنه لم يجد في حركته ونهضته ما يُثير الدهشة، ولم يُعطه حقّه كما ينبغي.

واللافت للانتباه أن الدكتور حسين لم يظهر عاطفة تجاه الحسين، مع أنه أديب ومن طراز رفيع، ومع أن قضية الحسين ليست فقط تفيض بالعواطف والمشاعر التي تؤلم الوجدان وتحطم القلب، وإنما لأنها قد تحوّلت إلى نهر خالد يفيض بالعواطف والمشاعر يجري وبلا توقّف على مرّ الأزمنة والعصور.

والمفهوم التفسيري الذي استند إليه الدكتور حسين وأراد منه أن يؤطّر به رؤيته وتحليله لحركة الحسين ونهضته هو مفهوم المحنة، المفهوم الذي ورد وتواتر بشكل مقصود، مفضّلًا له على ما يبدو من باقي المفاهيم الأخرى التي حضرت في كتابات الآخرين وتواترت، كمفاهيم: الثورة والنهضة والحركة وغيرها، لكنها المفاهيم التي غابت في حديث حسين ولم ترد كليًّا.

وفي إطار هذا المفهوم، ظلّ حسين يصوّر ما حلّ بالحسين على أنه محنة، هي محنة أصابت الحسين، وهي محنة أصابت الإمام علي في أبنائه، وهي محنة أصابت الطالبيين، كما عدّها محنة للإسلام، بدأت محنة وانتهت محنة، هكذا ظلّ حسين يقلّب قضية الحسين ويصوّر مبتداها ومنتهاها مركّزًا على مفهوم المحنة.

عن محنة الحسين كتب طه حسين قائلًا: «رأى الحسين المحنة كأشنع ما تكون المحن، رأى إخوته وأهل بيته يُقتلون بين يديه وفيهم بنوه وبنو أخيه الحسن وبنو عمّه، وكان هو آخر من قتل منهم بعد أن تجرّع مرارة المحنة فلم يبقَ منها شيئًا»[31].

وهي محنة أصابت الإمام علي (عليه السلام) في أبنائه وأصابت الطالبيين عامة، بل وأصابت الإسلام، صور طه حسين ذلك بقوله: «وقد تمّت بهذه الموقعة محنة لعلي في أبنائه لم يمتحن بمثلها مسلم قطُّ قبل هذا اليوم... فكانت محنة أيّ محنة للطالبيين عامة وأبناء فاطمة خاصة، ثم كانت محنة أيّ محنة للإسلام نفسه»[32].

وامتدت هذه المحنة في عصرها ووصلت إلى الحجاز، وحسب قول طه حسين: «انتهت محنة الحسين إلى الحجاز فكانت صدمة لأهله وللصالحين منهم خاصة، وجعل الناس يتحدّثون بها، فيكثرون الحديث، وجعلوا يعظّمون أمرها»[33].

وبهذا يكون الدكتور طه حسين قد بدأ كتابه بالحديث عن الفتنة، وختمه بالحديث عن المحنة.

وما نخلص إليه في هذا الشأن، أن حديث العقاد والشرقاوي ومحمد خالد عن الإمام الحسين (عليه السلام) لا يقارن بحديث طه حسين، فحديث أولئك كان أكثر دفئًا وحرارة، بل وأكثر نبلًا وتقدّمًا من حديث طه حسين.

* نشر في مجلة الكلمة العدد (96) صيف 2017/1438

................................
[1] ابن الأثير علي بن أبي الكرم الشيباني، الكامل في التاريخ، تحقيق: أبي الفداء عبدالله القاضي، بيروت: دار الكتب العلمية، 2003م، ج3، ص419.
[2] ابن طاووس الحسيني، اللهوف في قتلى الطفوف، قم: مطبعة مهر، 1417هـ، ص59.
[3] ابن طاووس الحسيني، المصدر نفسه، ص71.
[4] عباس محمود العقاد، أنا، القاهرة: دار نهضة مصر، 2012م، ص81.
[5] عباس محمود العقاد، أبو الشهداء الحسين بن علي، تحقيق: محمد جاسم الساعدي، طهران: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، 2008م، ص58-59.
[6] عباس محمود العقاد، المصدر نفسه، ص62.
[7] عباس محمود العقاد، المصدر نفسه، ص119.
[8] عباس محمود العقاد، المصدر نفسه، ص157.
[9] عباس محمود العقاد، المصدر نفسه، ص216.
[10] انظر كتابَي: عبدالرحمن الشرقاوي، الحسين ثائرًا، الحسين شهيدًا، القاهرة: دار الشروق، 2013م، الإهداء.
[11] كريم مروة، عبدالرحمن الشرقاوي، صحيفة الأهرام، السبت 2 شعبان 1435هـ/ 31 مايو 2014م، العدد 46562.
[12] عمر بطيشة، عبدالرحمن الشرقاوي شاهد على العصر، القاهرة: دار الفاروق للاستثمارات الثقافية، 2010م، ص39-42.
[13] عمر بطيشة، المصدر نفسه، ص15.
[14] كمال محمد علي، عبدالرحمن الشرقاوي الفلاح الثائر، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990م، ص47.
[15] كمال محمد علي، المصدر نفسه، ص47.
[16] كمال محمد علي، المصدر نفسه، ص142.
[17] عبدالرحمن الشرقاوي، الحسين شهيدًا، القاهرة: دار الشروق، 2013م، ص157-160.
[18] خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، القاهرة: دار المقطم، 2004م، ص7.
[19] خالد محمد خالد، المصدر نفسه، ص8.
[20] خالد محمد خالد، المصدر نفسه، ص125.
[21] خالد محمد خالد، المصدر نفسه، ص9.
[22] خالد محمد خالد، المصدر نفسه، ص159.
[23] خالد محمد خالد، المصدر نفسه، ص153.
[24] حميد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، ترجمة: إبراهيم الدسوقي شتا، القاهرة: مكتبة مدبولي، بلا تاريخ، ص11.
[25] حميد عنايت، المصدر نفسه، ص369.
[26] مرتضى المطهري، الملحمة الحسينية، قم: طليعة النور، 1430هـ، ج3، ص285.
[27] كريم مروة، عبدالرحمن الشرقاوي، صحيفة الأهرام، مصدر سابق.
[28] عمر بطيشة، عبدالرحمن الشرقاوي شاهد على العصر، ص39.
[29] عمر بطيشة، المصدر نفسه، ص39.
[30] عمر بطيشة، المصدر نفسه، ص44-49.
[31] طه حسين، علي وبنوه، القاهرة: دار المعارف، 2014م، ص241.
[32] طه حسين، المصدر نفسه، ص245.
[33] طه حسين، المصدر نفسه، ص246.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي